آيات من القرآن الكريم

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ

الجَنَّةَ؛ إِذَا عَبَدَهُ، وَلَمْ يُشْرِكْ غَيرَهُ فِيهِ أَحَدًا " ليكون هذا تأويلًا للآية أن قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) ولا تكفروه؛ فيكون فيه الأمر بالإيمان، والنهي عن الكفر؛ لأنه ليس في وسع أحد أن يتقي اللَّه حق تقاته في كل العبادة؛ ألا ترى إلى ما روي من أمر الملائكة مع ما وصفوا من عبادتهم أنهم (لَا يَفتُرُونَ)، و (لَا يَسْأَمُونَ)، ثم يقولون: ما عبدناك حق عبادتك؟!. وإذا كان أحد لا يبلغ ذلك فلا يحتمل تكليف مثله، وجملته: أن ذلك ليس بذي حدّ وغاية، فلذلك كان - واللَّه أعلم - الأمر فيه راجع إلى الإسلام، أو في نفي حق الإشراك خاصة، لا في جميع الأحوال والأفعال، دليله ما ختم به الآية، وفي وسع الخلق ألا يشركوا أحدًا في عبادته؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟!.
وفي ظاهر الآية النهي عن الموت إلا مسلمًا، وليس في الموت صنع للخلق، والمعنى - واللَّه أعلم -: أي: كونوا في حال إذا أدرككم الموت كنتم مسلمين؛ فالنهي فيه نهي عن الكفر، والأمر بالإسلام، حتى إذا أدركه الموت أدركه وهو مسلم، والله أعلم.
وقد يكون على بيان ألا عذر عند الموت -وإن اشتد أمره- بالذي ليس بإسلام.
وروي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " أكثر ما يسلب الإيمان عند الموت؛ كان الشيطان يطمعه في أمر لو أعطاه ما طلب ".
ويحتمل قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أي: احذروا عذاب اللَّه حق حذره، واحذروا نقمته؛ كقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) بمعنى نقمته.
وقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا (١٠٣) اختلف فيه؛ قيل: حبل اللَّه؛ يعني: القرآن، وهو قول ابن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " حبل اللَّه: الجماعة، وإنما هلكت الأمم

صفحة رقم 444

الخالية بتفرقها "، أمر بالكون مع الجماعة، ونهي عن التفرق؛ لأن أهل الإسلام هم الجماعة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، وصف أهل دين الإسلام بالجماعة، وأهل أديان غيرها بالتفرق.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -أيضًا- قال: حبل اللَّه: الجماعة.
ورُوي في بعض الأخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ فَارَقَ الجَمَاعةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ " يعني: حبل الإسلام.
وروي عنه -أيضًا- قال: " إِن الشيطَانَ ذئب الإنسان، كَذِئْبِ الغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَاذَّةَ والقَاصِيةَ وَالنَّاحِيَةَ، فَإِياكم والشعَابَ، وَعَلَيكُم بِالجَمَاعَةِ وَالعَامَّةِ وَهَذَا المسجِدِ ".
ورُوي عن علي بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " دعاني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليلةً ثلاث مرات، ثم قال: " يَكُونُ فِي أُمتِي اخْتِلافٌ "، قلت: كيف نصنع يا رسول اللَّه إذا كان كذلك؟ قال: " عَلَيكمُ بكِتَابِ اللَّه؛ فإنَّ فِيهِ نَبَأَ مَنْ قَبلَكُم، وَخَبَرَ مَا بَعْدَكُم، وهُو حَكَمٌ فِيمَا بَينَكُم، مَنْ يَدَعْهُ مِنْ جَبارٍ يَقْصِمهُ اللَّه، وَمَنْ طلب الْهُدَى فِي غَيرِهِ يُضِلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبلُ اللَّه المَتِينُ، وَأَمْرُهُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصرَاطُ الْمُستَقِيمُ، وَهُوَ الذي لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الألسِنَةُ،

صفحة رقم 445

وَلَا يَخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدُ، وَلَا تَنْقَضي عَجَائِبُهُ ".
وقيل: حبل اللَّه: دين اللَّه.
والحبل: هو العهد؛ كأنه أمر بالتمسك بالعهود التي في القرآن، والقيام بوفائها، والحفظ لها، ونهى عن التفرق كما تفرقت الأمم الخالية، واختلفت في الأديان.
وقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ): بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: ألّف بين قلوبكم بالإسلام.
وقيل: بالقرآن، ولم يكن ذلك للدِّين نفسه، ولكن بلطف من اللَّه منَّ به على أهل دينه، وأخبر أن التأليف بين قلوبهم نعمة؛ لأن التفرق يوجب التباغض، والتباغض يوجب التقاتل؛ وفي ذلك التفاني.
وعلى قول المعتزلة: ليس من اللَّه على المسلم من النعمة، إلا ومثلها يكون على الكافر؛ لأن الهدى والتوفيق -عندهم- هو البيان، فذلك البيان للكافر كهو للمسلم؛ وعلى قولهم - لا يكون من اللَّه على أحد نعمة؛ لأنهم لا يجعلون لله في الهداية فعلا، إنما ذلك من الخلق، وأمَّا عندنا: فإنما يكون الإسلام بهدايته إياه، فذلك من أعظم النعم عليه.
وقوله: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا):
أي: صرتم بنعمته إخوانا.
وقوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ):

صفحة رقم 446

أي: كنتم أشفيتم حفرة من النار، وهو القريب منها، لولا أنه من بالإسلام. ويحتمل أن يكون على الكون فيها والوقوع، لا القرب؛ كقوله: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)، ليس على الرؤية خاصة؛ ولكن على الوقوع فيها؛ وكقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) ليس على البعد منها؛ ولكن على الكون فيها، ومثله كثير يترجم على الوقوع فيها.
وقوله: (حُفْرَةٍ): كأنه قال: كنتم على شفا درك من دركات النار، (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا).
وهذا -أيضًا- على المعتزلة؛ لأن على قولهم: هم الذين ينقذون أنفسهم، لا اللَّه، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
قال الشيخ - رحمه اللَّه - نقول: إذا كان اللَّه - تعالى - عندهم قد جمع بين الكفرة والبررة في بذل الأصلح لهم في الذين، وليس منه غير ذلك فلا يجيء أن يمن عليهم به يتألف بنعمته، والتي منه موجود مع التفرق؛ بل أُولَئِكَ تألفوا بنعمتهم. وبعد؛ فإنّ النعمة لو كانت دينًا، فما الذي كان منه حتى يمن، وذلك فعلهم بلا فضل منه فيه؟! واللَّه أعلم.
وفي قوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ) الآية: أنه قد يلزم خطاب الإيمان حين الفترة؛ لأنهم في ذلك الوقت كانوا قد أنقذوا، واللَّه الموفق.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ): إذ كنتم أعداء في الجاهلية والكفر، متفرقين، وصرتم إخوانًا في الإسلام؛ كلمتكم واحدة.
(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): لكي تعرفوا نعمته ومنته.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقد يكون: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) في حادث الأوقات؛ لتكونوا فيها مهتدين كما اهتديتم؛ فيكون في ذلك وعد التوفيق والبشارة، والله أعلم.

صفحة رقم 447
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية