
لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ يعني العذاب وقيل: الأجل بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ لا يبقى منهم أحد إلّا دخلها، وقيل: هو متصل بقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ يصيبهم الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني: إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنّم.
وَيَقُولُ بالياء كوفي ونافع وأيوب، غيرهم بالنون ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٦ الى ٦٩]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
بإرسال الياء عراقي غير عاصم، سائرهم بفتحها إِنَّ أَرْضِي
مفتوحة الياء ابن عامر، غيره ساكنة واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
توحدون من غير طاعة مخلوق في معصيتي، قال سعيد بن جبير: إذا عمل في أرض بالمعاصي، فاهربوا «١» فإنّ أرضي واسعة «٢».
مجاهد: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
فهاجروا وجاهدوا، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المستضعفين المؤمنين الذين كانوا بمكة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرحمن، يحثهم على الهجرة ويقول لهم: إنّ أرض المدينة واسعة آمنة. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير:
أَرْضِي واسِعَةٌ
أي رزقي لكم واسع، أخرج من الأرض ما يكون بها.
(٢) في نسخة أصفهان: عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا منها فإنّ أرضي واسعة، وراجع تفسير الطبري: ٢١/ ١٢.

أخبرنا عبد الله بن حامد «١»، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، قال: حدثنا جيغويه ابن محمد الترمذي، قال: حدثنا صالح بن محمد، عن سليمان، عن عباد بن منصور الناجي، عن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد (عليهما السلام) » «٢» [١٦٢].
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فلا تقيموا بدار المشركين.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالي، قرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء، غيرهم بالياء أي لينزلنّهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَكَأَيِّنْ وكم مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا وذلك
إنّ رسول الله (عليه السلام) قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون: «أخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة فيها» [١٦٣] «٣».
فقالوا: يا رسول الله كيف نخرج إلى المدينة ليس لنا بها دار ولا عقار ولا مال، فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ذات حاجة إلى غذاء لا تحمل رزقا فيرفعه لغذائها يعني الطير والبهائم.
اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ يوما بيوم وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم: نخشى لفراق «٤» أوطننا العيلة.
الْعَلِيمُ بما في قلوبكم وما إليه صائرة أموركم.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الرقاق، وقال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا إسماعيل بن زرارة الرقي، قال: حدثنا أبو العطوف الجراح بن المنهال الجوزي «٥»، عن الزهري، عن عطاء بن أبي رياح، عن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حائطا من حياطان «٦» الأنصار، فجعل رسول الله (عليه السلام) يلقط الرطب بيده ويأكل فقال: «كل يا ابن عمر»، قلت: لا أشتهيها يا رسول الله، قال: «لكنّي أشتهيه وهذه صبحة رابعة لم أزق طعاما ولم أجده».
فقلت «٧» : إنّا لله، الله المستعان، قال: «يا بن عمر لو سألت ربّي لأعطاني مثل ملك
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ٣٤٧.
(٣) تفسير القرطبي: ١٣/ ٣٦٠.
(٤) في نسخة أصفهان: بفراق.
(٥) في نسخة أصفهان: الجزري. [.....]
(٦) في المخطوط: حوائط.
(٧) في نسخة أصفهان: فقلت: يا رسول الله.

كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة، ولكني أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبّؤون رزق سنة ويضعف اليقين» «١» [١٦٤]، فنزلت على رسول الله (عليه السلام) : وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا... الآية.
أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن حنيش، حدثنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا يحيى من معين، حدثنا يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن علي بن الأرقم «٢» وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا قال: لا تدخر شيئا لغد.
قال سفيان: ليس شيء مما خلق الله يخبّئ إلّا الإنسان والفأرة والنملة.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ يعني الدائمة الباقية التي لا زوال لها ولا موت فيها. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ولكنهم لا يعلمون ذلك.
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وخافوا الغرق والهلاك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ليجحدوا نعمه في إنجائه إياهم وسائر الآية وَلِيَتَمَتَّعُوا جزم لامه الأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب، واختلف فيه عن عاصم ونافع وابن كثير، الباقون بكسر اللام واختاره أبو عبيد لِيَكْفُرُوا لكون الكلام نسقا. ومن جزم احتج بقراءة أبي بن كعب يمتعوا. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
أخبرني أبو محمد عبد الله بن حامد- فيما أذن لي روايته عنه- قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أسكت، قال: حدثنا عقال، قال: حدثنا جعفر بن سلمان قال: حدثنا ملك بن دينار، قال: سمعت أبو العالية قرأ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف يعلمون بالياء، فالكسر على كي والجزم على التهديد.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ بالأصنام يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يعني الإيمان يَكْفُرُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعموا أنّ لله شريكا، وقالوا إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها «٣».
(٢) في نسخة أصفهان: الأقمر.
(٣) سورة الأعراف: ٢٨.

أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ بمحمد والقرآن لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً منزل لِلْكافِرِينَ. وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي والذين قاتلوا لأجلنا أعداءنا لنصرة ديننا لنثبتهم على ما قاتلوا عنه.
قال أبو سورة: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في الغزو لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبيل الشهادة أو المغفرة.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب، قال:
حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.
وقال الفضيل بن عياض: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في طلب العلم لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل العمل به.
وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد، قال: حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد ابن حمدون، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: حدثنا أحمد بن أبي الجواري، قال: قال أبو أحمد- يعني عباس الهمداني- وأبو سليمان الداراني في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم ربّهم إلى ما لا يعلمون.
وعن عمر بن عبد العزيز إنّه تكلم بكلمات وعنده نفر من العلماء، فقال له الوضين بن عطاء: بم أوتيت هذا العلم يا أبا مروان؟ قال: ويحك يا وضين إنّما قصر بنا من علم ما جهلنا بتقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو أنّا عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا.
وعن عبد الله بن الزبير قال: تقول الحكمة: من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين:
أن يعمل بأحسن ما يعلمه، أو يدع أسوأ ما يعلمه.
وروي عن ابن عباس: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في طاعتنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل ثوابنا. ضحاك: وَالَّذِينَ جاهَدُوا بالهجرة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل الثبات على الإيمان، وقيل: وَالَّذِينَ جاهَدُوا بالثبات على الإيمان لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل دخول الجنان، سهل بن عبد الله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في إقامة السنّة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل الجنة ثم قال: مثل السنّة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى، من دخل الجنة في العقبى سلم، فكذلك من لزم السنّة في الدنيا سلم، وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: والذين هديناهم سبيلنا جاهدوا فينا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقباهم.