القرآن لا يرتاب فيه لوضوح أمره ولأنه «آياتٌ بَيِّناتٌ» لا تحتاج للروية ثابتات «فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه، وبسبب رسوخه في الصدور لا يقدر أحد على تحريف أو تغيير أو تبديل شيء منه البتة، لأن الله تعالى تعهد بحفظه من ذاك، راجع الآية ٤٢ من سورة السجدة والآية ٩ من سورة الحجر المارتين، وقد جاء في وصف هذه الأمة المحمدية:
صدورهم أناجيلهم. والمراد بالذين أوتوا العلم، علماء أصحابه كما رواه الحسن، وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهم الأئمة من آل محمد صلّى الله عليه وسلم.
«وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا» هذه مع وضوحها «إِلَّا الظَّالِمُونَ» ٤٩ أنفسهم مكابرة وعنادا «وَقالُوا» أولئك الظالمون «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ» كما نزل على من قبله من الأنبياء كموسى وعيسى وصالح وهود وإبراهيم وغيرهم من قلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى وإظهار الناقة وعدم إحراق النار لآمنا به، وإذ لم يأت بشيء من ذلك ولا مما يشابه آيات من قبله فلا نؤمن به، لأنه لو كان نبيا لأتى بمثل ما أتوا به. «قُلْ» يا سيد الرسل «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» ما عندي منها شيء ولا أستطيع إظهار شيء إلا بإذن الله، فهو الذي يعطيها من يشاء من عباده وينزلها بحسب مقتضيات حكمته، لا دخل لي ولا للأنبياء قبلي بها البتة «وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ٥٠ ما يوحى إلي إليكم، وكذلك الأنبياء من قبلي، وليس من شأني ولا من شأنهم إنزال الآيات أو قسر الأمم على الإيمان إلا بمشيئته. ونظير هذه الآية الآية ٣٨ من سورة الأنعام، ومثلها في المعنى في يونس وهود المارات، وفي الآية ١٣٤ من سورة طه في ج ١ والآية ٧ من سورة الرعد في ج ٣ وغيرها كثير.
قال تعالى ردا عليهم «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ» يا محمد «الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» على مر العصور والدهور تتلوه عليهم وأنت أمي معلوم عندهم، ويتلوه من منّ عليه بتعليمه منهم ومن غيرهم إلى يوم القيامة، فإن كانت لهم عقول فهذه آية كافية لمن يريد أن يهديه الله، ومن يضله الله لا تنفعه الآيات، وناهيك بالقرآن أنه آية دائمة باقية، وأن آيات الرسل كلّها انقرضت ولم يبق إلا خبرها «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إنزال القرآن وبقاؤه الآخر الدوران لأكبر
آية أتى بها الوسل، ولهذا يقول الله «لَرَحْمَةً» عظمى «وَذِكْرى» بالغة وعظة باهرة «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ٥١ بالله الذي أرسلك إليهم وبكتابه الذي أنزله عليك إليهم تغنيهم عن كل آية، أما المعنتون فلو أتيتهم بكل آية لا يتعظون ولا يؤمنون ولا يتذكرون، راجع الآية ١١٥ من سورة البقرة في ج ٣ تجد ما يتعلق بهذا إن شاء الله. أخرج أبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها ما سمعوه من اليهود، فقال صلّى الله عليه وسلم كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به غيره إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية. وهذا يتجه إذا كانت الحادثة بمكة، أما في المدينة فلا تكون سببا للنزول، لأن الآية مكية، وإنما على سبيل تلاوة ما نزل قبل والاستشهاد به عند وقوع الحادثة المتأخرة فجائز، وهو طريق ضعيف مشى عليه بعض المفسرين، والحق هنا عدم جوازه، ولأن هذه الآية نزلت جوابا لقولهم (لولا أنزل عليه آية من ربه) فجعل ذلك أي الذي ذكر في الخبر المار ذكره سببا للنزول بغير محله، وهو خروج على الظاهر الواقع، وفي هذه الآية والحديث إشارة إلى منع تتبع الكتب القديمة لغير متبحر في القرآن العظيم، فقد أخرج ابن عساكر عن أبي ملكية قال: أهدى عبد الله بن عامر بن بركن إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمرو فردتها وقالت يتتبع الكتب القديمة وقد قال الله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) الآية، فقيل إنه عبد الله بن عامر فقبلتها. وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي صلّى الله عليه وسلم يتلوّن وجهه، فقال والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النّبيين وأنتم حظي من الأمم. أي ليس لكم أن تتخطوا ما جئتكم به إلى غيره، لأنه لا يخلو من حشو، والقرآن براء من كل عيب، لا يتطرق إليه ما ليس منه أبدا كما هو ثابت بكفالة الله تعالى القائل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية ٩ من الحجرة المارة. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه
صفحة رقم 494
ساعة فاستحسنه، فقال للرجل اكتب من هذا الكتاب؟ قال نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يقرؤه عليه، وجعل وجه رسول الله يتلون، فضرب رجل من الأنصار الكتاب، وقال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم عند ذلك إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي الحديث اختصار فلا يهلكفكم المتهوكون. - أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة وقيل المتحيرون، وقدمنا في الآية ٤٣ من سورة القصص في ج ١ ما يتعلق بهذا وإن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين ولا سيما بصدر الإسلام فراجعه ففيه ما يكفيك ويثلج صدرك وتقر عينك «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً» بأني رسوله والقرآن كلامه وانكم كاذبون مبطلون، والله عالم بأني بلغت وأنذرت ونصحت، وانكم صددتم وأنكرتم وكذبتم، وشهادة الله لي بإنزال الكتاب علي وإثبات المعجزة لي، وانه سيجازي كلا بفعله، لأنه «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وجميع ما يقع فيهما وما بينهما،
ومن جملتها شأني وشأنكم سرهما وجهرهما، وهذه تقرير لصدر الآية من كفاية شهادة الله تعالى على ذلك. وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما قال كعب بن الأشرف وأصحابه لمحمد صلّى الله عليه وسلم من يشهد أنك رسول الله لا صحة له في سبب النزول، لأن الآية مكية بالاتفاق، وسباقها مع كفرة قريش لا ذكر لأهل الكتاب فيهما «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ» وهو غير ما جاءت به الرسل من عند الله «وَكَفَرُوا بِاللَّهِ» وما جاء عنه. واعلم أن الإيمان بالباطل كفر بلا شك، وإنما ذكرت الجملة الأخيرة تأكيدا ولبيان قبح ما جاء في الجملة الأولى فهو كقول القائل أتقول الباطل وتترك الحق؟ لبيان أن الباطل قبيح في ذاته «أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ٥٢ المغبونون في صفقتهم، إذ اشتروا الكفر بالإيمان، وهذه الآية وردت مورد الإنصاف في المكالمة على حد قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية ٣٥ من سورة سبأ المارة، وكقول حسان:
فخيركما لشركما الفداء. قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» على طريق
الاستهزاء والسخرية كقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية ٣٠ من سورة سبأ أيضا، وهي مكررة كثيرا في القرآن، وذلك لعدم تصديقهم أن هناك بعثا وحسابا وجزاء، ولهذا يقولون (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) الآية ٣٢ من سورة الأنفال ج ٣، وقد تكرر منهم هذا القول، كما تكررت هذه الآية معنى في كثير من سور القرآن. قال تعالى «وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى» ضربناه لعذابهم غير قابل التقديم والتأخير، وعزّتي وجلالي يا سيد الرسل لَجاءَهُمُ الْعَذابُ» الذي يريدون سرعة نزوله قبل أن يتشدقوا بما تفوهوا به «وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» أي يباغتهم ويفاجئهم به من حيث لا يتوقعونه، وهذا العذاب قيل هو في الدنيا فيما يقع عليهم من الأمر والجلاء والقتل أو الموت، وقيل هو عذاب الآخرة. والآية صالحة للمعنيين، وكلا العذابين واقع بهم لا محالة، ومما يرجح كون المراد منه عذاب الآخرة قوله تعالى «يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» إذ كرره بالظاهر لشدة هوله، كيف وقد قرنه بقوله «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» ٥٤ جميعهم لا يفلت منهم أحد والجملة حالية أي يستعجلونك بالعذاب والحال محل العذاب الذي هو جهنم لا عذاب فوقه محيط بهم «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» فيجللهم من أطرافهم كلها، وهذا معنى إحاطة جهنم بهم «ونقول» نحن إله الكل مالك الدنيا والآخرة. وقرىء بالياء أي يقول لهم الرب العظيم في ذلك اليوم «ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٥٥ من القبح في دنياكم، ويضاهي هذه الآية الآية ١٦ من سورة الزمر المارة والآية ٤١ من الأعراف في ج ١.
مطلب في الهجرة واستحبابها لسلامة الدين وما جاء فيها من الآيات والأخبار وهي تسعة أنواع:
قال تعالى «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ»
فاتركوا الأرض التي أنتم فيها مضطهدون وفروا بدينكم إلى غيرها، فإن الأرض غير ضيقة عليكم، «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ»
٥٦ أخلصوا عبادتكم لي في أرضي لا يمنعكم فيها أحد من إقامة شعائرها، نزلت هذه الآية في إباحة الهجرة صيانة للدين، ولا تختص بزمنه
صلّى الله عليه وسلم احتجاجا بخبر لا هجرة بعد الفتح، بل هي عامة مطلقة، حكمها باق إلى الأبد، فبمقتضاها يجب على كل من كان في بلدة يتجاهر فيها بالمعاصي ولا يقدر على المنع ولا على إقامة دينه وإظهار شعائره كما ينبغي، أن يهاجر إلى غيرها من البلاد التي يتهيأ له فيها ذلك كله، لأنه إذا لم يكن آمنا على دينه لا يتمكن من إقامته فهو آثم، لذلك عليه أن يهاجر إلى بلد يكون فيه أسلم قلبا وأصحّ دينا وأكثر عبادة وأحسن رفاقة. هذا وقد حث الله على الهجرة في الآية ٩٩ من سورة النساء الآتية في ج ٣، بما يدل على أنها غير خاصة بزمن كما سنبينها هناك بصورة مفصلة إن شاء الله. قال صلّى الله عليه وسلم: من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة. وفي قوله تعالى (واسِعَةٌ)
عدّة ووعد لعباده المهاجرين بسعة الرزق، أي لا تخافوا الضيق إذا تركتم دياركم من أجلي فإني أوسع عليكم «وكان ذلك. وأعلم أن البقاع تتفاوت تفاوتا عظيما، وقال العارفون لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني من مكة حرسها الله تعالى. قال سهل إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. راجع الآية ٩ من سورة الروم المارة. قال تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ذكر الله تعالى هذه الآية بعد الآية المشيرة إلى الهجرة ليستعدوا له قبل مفاجاته، لأنهم لا يدرون متى يفاجئهم، لذلك خوفهم بالموت فيها ليهون عليهم أمر الهجرة، إذ لا أصعب من ترك الوطن على النفس إلا الموت كي لا يبقوا بدار الشرك فيموتوا فيها، وإذا سهل على الإنسان الموت سهل عليه ترك الوطن وحث نفسه على الهجرة منه لإخلاص العبادة لربه والمحافظة على دينه اللذين يذهب بهما إليه دون وطنه وأهله وعشيرته، قال عليه الصلاة والسلام: يتبع الميت ثلاث، أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله. «ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» ٥٧ بعد الموت حتما، وإذا كان كذلك فاجنحوا في دنياكم إلى ما يصلح دينكم واتركوا غيره. ويضاهي صدر هذه الآية الآية ٣٥ من سورة الأنبياء المارة والآية ١٨٥ من آل عمران في ج ٣، وهي مكررة في القرآن. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا
وتركوا أوطانهم وأهلهم وعشيرتهم رغبة فيما عند الله من الثواب «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً» علالي عالية نسكنهم فيها ونوطنهم بها، ولا حول لهم عنها، وهذه لا تشبه غرف الدنيا ولا تقاس بها فضلا عن أنها فانية وتلك باقية، وأنها من صنع البشر وهي من صنع الله وإبداعه الذي أتقن كل شيء، فلا يقدر أن يصفها واصف، ومن بعض محاسنها أنها «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» ويكون أهلها «خالِدِينَ فِيها» أبدا والدنيا مهما طال أمدها فمصيرها الزوال ف «نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» ٨٨ في الدنيا تلك الغرف الباقية في الجنة، وهذه أيضا مكررة في الآية ٢٠ من سورة الزمر المارة وفي غيرها، قال ابن عباس: هي من الدرّ والزبرجد والياقوت، أما المستحقون لهذه العرف وتلك الكرامة فهم «الَّذِينَ صَبَرُوا» على مشاق الدّين ومرارة الهجرة وفراق الوطن والبعد عن الأهل والأقارب والأحباب والالتجاء إلى أناس لا يعرفونهم، وتحمل ما يلحقهم من الذل فرارا بدينهم وصيانة له وحفظا على شعائره، كما صبروا على أذى المشركين وإهانتهم من أجله «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ٥٩ بكل أمورهم لا على غيره، ولما أمر صلّى الله عليه وسلم بالهجرة وحث عليها خلص عباده ليقتدي بهم الآخرون خاف بعضهم الفقر وضيعة الحسب في المدينة، لأنهم لا يعرفون أحدا ولا يعرفهم أهلها، وليس لهم مال ولا عقار ولا بساتين، ولا يقدرون على أخذ ما عندهم في مكة إلى المدينة لبعد الشقة والمشقة، وخوفا من الكافرين أن يستحلوا أموالهم وأنعامهم لأن خروجهم سيكون خلسة عنهم، لئلا يطلعوا عليهم فيمنعوهم ويوقعوا
بهم الأذى ويهينوهم أنزل الله قوله عز قوله «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» لضعفها ووهنها، أو لا تقدر على ادخاره ليوم حاجتها، أو لتوكلها على خالقها، فتصبح وتمسي ولا شيء عندها «اللَّهُ يَرْزُقُها» من فضله، ويسوقها إلى ما قدر لها، أو يسوق الرزق إليها بأن يسخّر من يقدمه لها دون طلب أو كلفة. قال صلّى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. ورحم الله القائل:
وأرزاق لنا متفرقات... فمن لم تأته منها أتاها
«وَإِيَّاكُمْ» يرزق، لأنكم أفضل من كثير من الطير والدواب والحيتان
والحشرات، فإذا كانت مع ضعفها وعدم معرفتها يرزقها الله لتوكلها عليه وتفويض أمرها إليه، فإنكم مع قوتكم واجتهادكم وفضلكم فإنه يرزقكم من باب أولى إذا توكلتم عليه. قالوا لا يدخر إلا الإنسان والنملة والفأرة والعقق، وعند البعض البلبل، وقال آخر كل كوامن الطيور تدخر. هذا، وإذا كان الرزق من الله، وجعل لكل سببا لتناوله وأمر بالسعي إليه، والمسبب له هو وحده، فلا تخافوا أيها المؤمنون على معاشكم حال هجرتكم، ولا تأسفوا على ما تتركونه في مكة، فإن الله يخلفه لكم. ولما كان المراد إزالة ما في أوهامهم عما يلحقهم بسبب الهجرة على أبلغ وجه، قال (يرزقها وإياكم) دون يرزقكم وإياها، «وَهُوَ السَّمِيعُ» البالغ منتهى السمع بسمع قولكم، ويعلم ما تحوكه قلوبكم ويتردد في صدوركم «الْعَلِيمُ» ٦٠ البالغ في العلم بما انطوت عليه ضمائركم، ومن هنا قال صلّى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه- رواه البخاري ومسلم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- واعلم أن اسم الهجرة يطلق على تسعة امور كل منها بسمى هجرة بنسبته:
الأول هجرة الصحابة رضي الله عنهم من مكة إلى الحبشة سنة خمس من البعثة سنة نزول سورة والنجم وذلك بسبب ما لحقهم من أذى المشركين مالا وبدنا، ولهذا قال ذو النون من هرب من الناس سلم من شرهم، ومن شكر مولاه استحق المزيد من الفضل والعناية، ومن نظر في عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه. الثانية الهجرة التي نحن بصددها من مكة إلى المدينة الكائنة سنة ثلاث عشرة منها أيضا، أما الخروج هربا وطلبا فيقسم إلى تسعة أقسام: الأول الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وهذه باقية إلى يوم القيامة كما أشرنا إليه في الآية ٥٠ المارة.
الثاني الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسبّ فيها السلف. الثالث الخروج من أرض يغلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم. الرابع الخروج من الأذية في البدن، وهو فضل من الله رخص لعباده فيه إذا خافوا على أنفسهم في مكان، فقد أذن
الله لهم بالفرار منه إلى غيره، ولا يحل لهم البقاء إذا تحققت خشيتهم، لأن محافظة النفس واجبة، وأول من فعلها إبراهيم عليه السلام حين خاف قومه وأمنه النمروذ، لأن الكافرين لا عهد لهم ولا ذمة، وكذلك موسى بعد أن قتل القبطي وعلم أنهم يريدون قتله به. الخامس الخروج خوف المرض من البلاد الوخمة المشتملة على المستنقعات والأوساخ وغيرها. وقد أذن صلّى الله عليه وسلم للعرنيّين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج. السادس الخروج خوفا من سلب المال فله ذلك أيضا، لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، هذا إذا كان الداعي للهجرة الهرب من أحد هذه الأمور، أما إذا كان الداعي طلب الشيء فيقسم جوار الخروج الذي هو بمعنى الهجرة إلى تسعة أقسام. هذا وما قيل إن الهجرة انقطعت بالفتح يعنى فتح مكة، فالمراد بها خصوص القصد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ كان بقطن فيها إذ بعد وفاته ينعدم ذلك القصد، فذلك القيل من هذه الحيثية ليس إلا، أما زيارته بعد وفاته فسيأتي لها بحث أيضا. الأول سفر العبرة، وهو مطلوب للمستطيع، قال تعالى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية ٩ من سورة الروم المارة، وقد طاف ذو القرنين ليرى عجائبها، الثاني سفر الحج وهو واجب على المستطيع ومن فروض العين. الثالث سفر الجهاد وهو واجب أيضا مادام العدو خارجا عن ثغور بلاد المسلمين فمتى وطئها لا سمح الله صار فرض عين على كل مستطيع، وتفصيله في كتب الفقه، وستلمع له في محله إن شاء الله.
الرابع سفر المعاش، وهو جائز إذا أراد التوسع بأكثر مما هو فيه، وواجب إذا كان محتاجا له لنفسه أو لمن يعوله. الخامس سفر التجارة والكسب الزائد على الحاجة وهو جائز أيضا لقوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) الآية ١٩٨ من البقرة ج ٣. السادس طلب العلم لأنه فريضة على كل مسلم ومسلمة، حتى إنه يجوز للمرأة الذهاب بلا إذن زوجها إليه إذا كان لا يقدر على تعليمها علم الحال ولا يسأل لها العلماء. السابع قصد البقاع الشريفة وهو مطلوب لثلاث، قال صلّى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى.
الثامن قصد الثغور للرباط فيها حفظا لكيان بلاد المسلمين، وهو مندوب قال صلّى الله عليه وسلم:
رباط ساعة خير من عبادة سنة. لأن العبادة نفعها قاصر على العابد فقط، وهذا فيه نفع عام لجميع المسلمين وفيه إظهار لشوكتهم. التاسع زيارة الأخوان لله تعالى ومن أجله روى مسلم وغيره عنه صلّى الله عليه وسلم زار رجل أخا له في قرية فأرسل الله ملكا على مدرجته، فقال أبن تريد؟ قال أريد أخا لي في هذه القرية، فقال هل له من نعمة تؤديها؟ قال لا إلا أني أحبه في الله تعالى، قال فإني رسول الله إليك بأن الله أحبك كما أحببته الثالث هجرة بعض القبائل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليتعلموا شرائع الدين ويعلموا قومهم، وهي مطلوبة، قال تعالى (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) الآية ١٣٣ من التوبة في ج ٣، وحكمها باق إلى الأبد، فيجب على كل أهل قرية إذا لم يوجد عندهم من يعلمهم أمر دينهم أن يوفدوا جماعة منهم هذه الغاية. وتشير هذه الآية إلى استثناء طلبة العلم من الجهاد، ولذلك فإن الحكومة العثمانية استثلت جميع طلاب العلم من الخدمة، فسبتوا كثرة العلماء، ولولا ذلك القل أن تجد عالما الآن في بلاد العرب، لأن الحكومة العثمانية كانت مسيطرة على البلاد وقد فرضت اللغة الرسمية التركية في البلاد وكانت رغبة الناس منصرفة إلى الدنيا وإلى تقليد الغالب، ولذلك قلّ في هذا الزمن وبالأسف طلب العلم ورغبت الناس عنه، لأن همهم الدنيا، ومن كان همه الدنيا فهو إلى الهلاك أقرب وإن هذه تعد منقبة للأتراك إذ رغبوا الناس في العلم، ومنقبة أخرى وهي استثناء آل البيت من الخدمة أيضا، احتراما لصاحب الرسالة جدهم الذي نور العالم، ومنقبة ثالثة وهي احترامهم العلم والعلماء والسادة والمشايخ والمواقع المقدسة والمحترمة، وان آثارهم تدل على ذلك. الرابعة هجرة من أسم من أهل مكة ليأتي النبي صلّى الله عليه وسلم فيقر بإسلامه أمامه، ثم يرجع إلى قومه لأن الله يسلم لنبي من صلّى الله عليه وسلم، ولم يره لا يعد صحابيا. الخامسة الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وهي واجبة عند القدرة، إذ لا يحل لمسلم أن يقيم بدار الكفر لعدم تمكنه من إقامة دينه، كما ينبغي ولأنه يكثر سوادهم، وهو لا يجوز، وإذا كانت الهجرة من بلاد البدعة مطلوبة، فمن باب أولى وأحق أن تكون مطلوبة من بلاد الكفر لما فيها من المذلة على المسلم كما سيأتي في الآية ٩٣
صفحة رقم 501
من سورة النساء ج ٣، قال الماوردي فإن صار له فيها أهل وعشيرة وأمكنه إظهار شعاثر دينه لم يجز له أن يهاجر، لأن المكان الذي هو فيه صار دارا للإسلام ولأن بقاءه فيها قد يجر لتكثير المسلمين فيها، قال صلّى الله عليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم. السادس هجرة المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام بغير سبب شرعي مكروهة، وما زاد على الثلاثة فحرام إلا لضرورة، قال الباجوري في حاشية علي بن قاسم، وهذا مأخوذ من قولهم يجوز هجر المبتدع لزجره عن بدعته والفاسق، من فسقه، وكذا يجوز الهجر إذا رجا صلاح المهجور كأن كان يحصل عند عدم اهجر خلل بفعل معصية من الهاجر أو المهجور فهجره لإصلاح دينه ولو جميع الدهر، وعليه يحمل هجره صلّى الله عليه وسلم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ونهيه الصحابة عن كلامهم، إذ تخلفوا عن غزوة تبوك وهجر السلف والخلف بعضهم بعضا، فقد جاء بالإحياء أن سعد بن وقاص هجر عمار بن ياسر إلى أن مات، وعثمان بن عفان هجر عبد الرحمن بن عوف إلى أن مات، وهجر طاوس وهب ابن منبه إلى أن مات، وهجر سفيان الثوري شيخه ابن أبي ليلى إلى أن مات، ولم يشهد جنازته اهـ ص ١٢٧ ج ٢ من فصل احكام القسم بين النساء، هذا وحكي أن رجلا هجر أخاه فوق ثلاثة أيام فكتب له:
يا سيدي عندك لي مظلمة... فاستفت فيها ابن أبي خيثمة
فإنه يرويه عن جده... ما قد روى الضحاك عن عكرمة
عن ابن عباس عن المصطفى... نبينا المبعوث بالمرحمة
أن صدود الإلف عن إلفه... فوق ثلاث ربنا حرمه
السابعة هجرة الزوج زوجته إذا تحقق نشوزها، قال تعالى (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) الآية ٣٣ من سورة النساء ج ٣، ويجوز هجرها زيادة على ثلاثة أيام بقصد زجرها عن المعصية، وإذا كان لعذر شرعي، أما بدون معذرة فلا، وبها يجوز في المضجع. والكلام أيضا حتى ترجع وتتوب. الثامنة هجرة أهل المعاصي فهي مطلوبة في المكان، والكلام والسلام ردا وابتداء إهانة لهم، ولا يجوز بوجه من الوجوه إكرامهم، راجع الآية ١١٢ من سورة هود المارة، تجد ما يكفيك وما ليس