
يكن لم عذر فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت فيه هذه الآية: ﴿وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا﴾ الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ونزلت فيهم: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ﴾ [النحل: ١١٠] الآية، فكتبوا إليهم بذلك: إن الله جلّ ثناؤه قد جعل لكم مخرجاً فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
وقال قتادة في الآيتين إلى ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين﴾، هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، وهذه الآيات العشر مدنية إلى ها هنا وسائرها مكي.
قال مجاهد: جعل فتنة الناس كعذاب الله، أي: جعل أذى الناس له في الدنيا كعذاب الله على معصيته، فأطاعهم كما يطيع الله من خاف عقابه.
وقيل: المعنى: خاف من عذاب الناس كما خاف من عذاب الله. ثم قال ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ فردّه على المعنى فجمع، ورده أولاً على اللفظ فوحد.
وقوله: ﴿أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين﴾ أي: يعلم أنهم لكاذبون في قولهم: إنا كنا معكم.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ﴾ إلى قوله: ﴿عَلَى الله يَسِيرٌ﴾.

فمعنى قوله تعالى: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين﴾.
أي: وليعلمنّ أولياء الله وحزبه أهل الإيمان بالله منكم من أهل النفاق وهو قوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين﴾.
ثم قال تعالى ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا﴾ أي: كونوا على ما نحن عليه من الكفر ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ إن بعثتم وجوزيتم، فنحن نحمل/ آثام خطاياكم عنكم.
وذلك قول الوليد بن المغيرة: قال للمؤمنين: كونوا على ما نحن عليه من الكفر ونحن نحمل خطاياكمز
قيل: هو من الحمالة وليس من الحمل على الظهر. فالمعنى اتبعوا ديننا ونحن نضمن عنكم كل ما يلزمكم من عقوبة ذنب، وما هم بحاملين: أي: بضامنين ذلك.
وقيل: ذلك قول كفار قريش لمن آمن منهم: أنكروا البعث والجزاء فقالوا للمؤمنين أنكروا ذلك كما ننكره نحن، فإن بعثتم وجوزيتم فنحن نحمل عنكم خطاياكم.

قال الله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في قولهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ أي: وليحملنّ هؤلاء المشركون أوزارهم وأوزار من أضلّوا وصدوا عن سبيل الله.
﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي: يكذبون. ومثله قوله تعالى:
﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ﴾ [النحل: ٢٥].
قال قتادة: في حديث رفعه " من دعا إلى ضلالة كُتبَ عليه وزرها ووِزرُ من عَمِل بها ولا يَنْقُصُ منه شيء ".
وقال أبو أمامة الباهلي: " يُؤْتى بالرّجل يومَ القيامة يكونُ كثيرَ الحسناتِ فلا يزَالُ يقتصُّ منه حتى تَفْنى حسانته، ثم يُطالبُ فيقولُ الله جلّ وعزّ: اقتصُّوا من عبدي فتقول الملائكة، ما بقيَتْ له حسناتٌ، فقولُ خذوا من سيّئاتِ المظلومِ واجعلوها عليه. قالَ أبو أمامة: ثم تلى النبيّ ﷺ: ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ ".

ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً﴾.
وهذه الآية وعيد من الله للمشركين من قريش القائلين للمؤمنين منهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم. فيها تسلية للنبي ﷺ مما لحقه من قومه.
فالمعنى تسلَّ يا محمد ولا تحزن فإن مصيرك ومصير من آمن بك إلى النجاة، ومصير من كفر بك إلى البوار والهلاك كفعلنا بنوح وقومه.
ذكر عون بن أبي شداد: أن الله جلّ ذكره أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً.
ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مائة سنة.
وروى ابن وهب عمّن سمع عبد الوهاب بن مجاهد يقول: مكث نوح

يدعو قومه إلى الله ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله يسره إليهم.
قال: ثم يجهر به إليهم، قال: فيأخذونه، فيخنقونه حتى يُغشى عليه فيسقط مغشياً عليه، ثم يفيق فيقول: اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون قال: ويقول للرجل ابنه: يا أبه، ما لهذا الشيخ يصبح كل يوم لا يفيق، فيقول له: أخبرني جدي أنه لم يزل على هذا منذ كان.
وقوله تعالى ذكره: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾.
أي أهلكهم الماء الكثير في حال كفرهم وظلمهم لأنفسهم. وكل ماء كثير فاش فهو عند العرب طوفان. وكذلك الموت الذريع الكثير، يقال له: طوفان. مشتقّ من طاف يطوف وهو اسم موضوع لما أحاط بالأشياء.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة﴾ أي: أنجينا نوحاً ومن معه في السفينة من ولده وأزواجهم. ﴿وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي: وجعلنا السفينة عبرة وعظة للعالمين وحجة عليهم.
قال قتادة: أبقاها الله آية للناس على الجودي.

وقيل: المعنى: وجعلنا عقوبتنا آية.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله﴾.
قال الكسائي: " وإبراهيم " عطف على الهاء في " انجيناه " وهي: نوح. أي: أنجينا نوحاً وإبراهيم.
وقيل: المعنى: وأرسلنا إبراهيم.
وقيل: المعنى: واذكر إبراهيم.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه﴾ أي: اتقوا سخطه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.

﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي: هذا الفعل خير لكم من غيره ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ما هو خير لكم مما هو شر لكم.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً﴾ أي: أصناماً. ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً﴾ أي: توقولون كذباً.
وقال ابن عباس: معناه: تصعنون كذباً. وعن ابن عباس: تخلقون: تنحتون، أي: تصورون إفكاً. وقاله الحسن.
فالمعنى أن الذين تعبدمون من دون الله أصنام وأنتم/ تصنعونها.
ثم قال: ﴿إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً﴾ يعني الأصنام التي عبدوها من دون الله لا تقدر لهم على نفع فترزقهم.
﴿فابتغوا عِندَ الله الرزق﴾ أي: التمسوا من عند الله الرزق لا من عند الأوثان.
﴿واعبدوه﴾ أي: ذلوا له.
﴿واشكروا لَهُ﴾ على رزقه إياكم.
﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي: تردون من بعد مماتكم فيجازيكم على أعمالكم ويسألكم

على شكر نعمه عندكم.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ أي: إن تكذبوا أيها الناس محمدّاً فيما دعاكم إليه، فقد كذب جماعات من قبلكم رسلها فيما أتتهم به من الحق، فحلّ بهم سخط الله، فكذلك سبيلكم سبيل الأُمم فيما هو نازل بكم، إذا كذبتم رسولكم.
﴿وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين﴾ أي: ما على محمد إلاّ أن يبلغكم من الله رسالته الظاهرة لمن سمعها.
ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي: ألم يرَ هؤلاء المنكرون للبعث كيف يُبدئ الله خلق الإنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم ينقله حالاً من بعد حال حتى أن يصير رجلاً كاملاً.
فمن قدر على هذا فهو قادر على إعادة المخلوق بعد موته، وذلك عليه هيّن لأن الإعادة عندكم أسهل من الابتداء، إذ الابتداء كان على غير مثال والإعادة هي على مثال متقدم، فذلك أسهل وأيسر فيما يعقلون.
وقيل: معناه: كيف يُبدئ الله الثمار وأنواع النبات فتفنى بأكلها ورعيها وشدّة الحرّ عليها، ثم يعيدها ثانية أبداً أبداً، وكيف يُبدئ الله خلق الإنسان فيهلك، ثم يحدث منه ولداً، ثم يحدث للولد ولداً، وكذلك سائ الحيوان يبدئ الله خلق الوالد ثم يعيد منه خلق الولد، ويهلك الوالد، وهكذا أبداً.. فاحتجّ الله عليهم بذلك لأنه أمر لا ينكرونه، يقرون به فمن قدر على ما تقرون قادر على إعادته بعد موته، وذلك أهو عليه فيما تعقلون، وكل عليه هيّن. ومعنى ﴿يَرَوْاْ﴾: يعلموا.