
وقال ابن عباس: لا ينطقون؛ يعني: بحجة (١). وذلك أن الله تعالى قد أعذر إليهم في الدنيا ببعث الرسول، ونصب الأدلة، فلا يكون لهم حجة، ولا عذر يوم القيامة (٢).
قال الفراء: جاء في التفسير: عميت عليهم الحجج يومئذ فسكتوا، فذلك قوله: ﴿فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ أي: في تلك الساعة (٣). وهو معنى قول الكلبي: لم يدروا ما يجيبون به من ذلك الهول حين سئلوا (٤)، ثم أجابوه بعد ذلك، يعني: ما ذكر عنهم مما يجيبون به في القيامة، كقولهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] ونحو ذلك.
٦٧ - ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: من الشرك ﴿وَآمَنَ﴾ صدق بتوحيد الله (٥) ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أدى الفرائض ﴿فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ من الناجين الفائزين الذين سعدوا. قالوا جميعًا: و: (عسى)، من الله واجب (٦).
٦٨ - قوله: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ قال المفسرون:
(٢) ذكر نحوه ابن جرير ٢٠/ ٩٩، ولم ينسبه. قال ابن جرير: وقيل: معنى ذلك: فعميت عليهم الحجج يومئذ فسكتوا فهم لا يتساءلون في حال سكوتهم.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٩.
(٤) "تنوير المقباس" ٣٢٩، بلفظ: لا يجيبون.
(٥) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٩، ولم ينسبه. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠١، نحوه عن ابن عباس.
(٦) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ. و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٩. ولم ينسبه. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٠١، عن ابن عباس. و"تفسير ابن جرير" ٢٠/ ٩٩، ولم ينسبه.

نزلت هذه الآية جوابًا للمشركين حين قالوا: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ﴾ الآية، [الزخرف: ٣١] ومعناه: ويختار ما يشاء لنبوته ورسالته (١). أي: فكما أن الخلق إليه، فهو يخلق ما يشاء، فكذلك الاختيار إليه في جميع الأشياء، فيختار مما خلق ما يشاء، ومن يشاء. ثم نفى الاختيار عن المشركين؛ وذلك أنهم اختاروا الوليد بن المغيرة من مكة، أو عروة بن مسعود من الطائف، اختاروا إما هذا أو ذاك للرسالة، فقال: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ أي: الاختيار. أي: ليس لهم أن يختاروا على الله -عز وجل- (٢).
قال ابني قتيبة: أي: لا يرسل الله الرسل على اختيارهم (٣).
و ﴿الْخِيَرَةُ﴾ اسم من [الاختيار، يقام مقام المصدر، والخيرة: اسم للمختار] (٤). يقال: محمد خيرة الله من خلقه. ويجوز التخفيف فيهما، ذكر ذلك الليث والفراء، وغيرهما (٥). وعلى هذا (مَا) تكون نفيًا، وهو الصحيح الذي عليه عامة المفسرين، وأصحاب القراءة؛ وذلك أن جميع أصحاب
(٢) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ.
(٣) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٤.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٠٩. ولم أجد قول الليث في كتاب "العين"، وإنما ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" ٧/ ٥٤٨ (خار)، وقول: يقال: محمد خيرة الله من خلقه. ذكره الأزهري عن ابن السكيت.

الوقوف، ذكروا أن تمام الوقف على قوله: ﴿وَيَخْتَارُ﴾ ذكر ذلك نافع، ويعقوب، وأحمد بن موسى، وأبو حاتم، وعلي بن سليمان، ونصير، وغيرهم (١).
وذكر أبو إسحاق وجهًا آخر؛ فقال: ويجوز أن تكون: (مَا) في معنى: [الذي، فيكون المعنى:] (٢) ويختار الذي لهم فيه الخيرة، ويكون معنى الاختيار هاهنا: ما يتعبدهم به. أي: ويختار فيما يدعوهم إليه من عبادته ما لهم فيه الخيرة، قال: والقول الأول وهو: أن تكون (مَا) نفيًا أجود. انتهى كلامه (٣).
والقدرية ربما تتعلق بالوجه الثاني الذي ذكره أبو إسحاق؛ فيقولون:
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: أ، (ب).
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥١، نقل النحاس عن علي بن سليمان: ولا يجوز أن تكون ﴿مَا﴾ في موضع نصب بـ ﴿وَيَخْتَارُ﴾؛ لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٤١، و"القطع والائتناف" ٢/ ٥١٥. وأما ابن جرير ٢٠/ ١٠٠، فقد جعل ﴿مَا﴾ في موضع نصب، بمعنى: الذي، وصحح هذا القول ونصره، ورد على من قال بالقول الأول؛ وهو أن ﴿مَا﴾ نافية. وخالفه في ذلك ابن كثير ٣/ ٣٩٧، وقال عن القول الذي اختاره ابن جرير: وقد احتج بهذا المسلك طائفة من المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح، ثم قال: والصحيح أنها نافية، كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وغيره أيضًا، فإن المقام في بيان انفراد الله تعالى بالخلق والتقدير، والاختيار، وأنه لا نظير له في ذلك، ولهذا قال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي: من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئاً.

إن الله تعالى يريد بنا، ويختار لنا ما فيه الخيرة لنا، ويحتجون بالآية، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن حمل الآية على هذا الوجه إبطال لقول جميع المفسرين والقراء (١)؛ أما المفسرون فإنهم ذكروا سبب نزولها (٢)، وحَمْلُ الآية على الوجه الثاني يُبطل ما قالوا.
وأما القراء فكلهم وقفوا على قوله: ﴿وَيَخْتَارُ﴾ ولو كان الأمر على ما يذهبون إليه لم يصح الوقف على: ﴿وَيَخْتَارُ﴾ وأيضًا فإن الكناية في قوله: ﴿لَهُمُ﴾ عن المشركين، يقول: ما كان للمشركين أن يختاروا على الله، فكيف يصح ما ذهبوا إليه.
وقال أبو جعفر النحوي: لو صح ما قالوه لكان وجه الكلام نصب ﴿الْخِيَرَةُ﴾ على خبر كان (٣)، ثم وإن صح على البُعد فتأويله ما ذكره الزجاج؛ وهو: أن هذا الاختيار يعود إلى ما اختار الله لعباده مما أمرهم به.
قال مقاتل: ثم نزه نفسه عن شركهم فقال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٤) وهذا يدل على أن الكناية في ﴿لَهُمُ﴾ عن المشركين خاصة.
(٢) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ٣٣٩، بقوله: قال أهل التفسير: نزلت جوابًا للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله تعالى عنه: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم.
(٣) "القطع والائتناف" ٢/ ٥١٥.
(٤) "تفسير مقاتل" ٦٨ أ.