
﴿أولئك﴾ [الفرقان: ٧٥] خبر عن عباد الرحمن الذين تقدمتْ أوصافهم، فجزاؤهم ﴿يُجْزَوْنَ الغرفة﴾ [الفرقان: ٧٥] وجاءت الغرفة مفردةً مع أنهم متعددون، يحتاج كل منهم إلى غرفة خاصة به.
قالوا؛ لأن الغرفة هنا معناها المكان العالي الذي يشتمل على غرفات، كما قال تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ﴾ [سبأ: ٣٧].
وهذا الجزاء نتيجة ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ [الفرقان: ٧٥] صبوا على مشاقِّ الطاعات، وقد أوضح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه المسألة بقوله: «حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحُفَّتْ النار بالشهوات».
فالجنة تستلزم أن أصبر على مشاقِّ الطاعات، وأن أُقدِّر الجزاء على العمل، أستحضره في الآخرة، فإنْ ضِقْتَ بالطاعات وكذَّبْتَ بجزاء الآخرة، فَلِمَ العمل إذن؟
ومثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي يجدّ ويجتهد في دروسه، لأنه يستحضر يوم الامتحان ونتيجته، وكيف سيكون موقفه في هذا اليوم، إذن: لو استحضر الإنسانُ الثوابَ على الطاعة لَسهُلَتْ عليه وهانتْ عليه متاعبها، ولو استحضر عاقبة المعصية وما ينتظره من جزائها لا بتعد عنها.

فالتكاليف الشرعية تستلزم الصبر، كما قال تعالى: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥].
فالحق تبارك وتعالى يريد منّا ألاَّ نعزل التكاليف عن جزائها، بل ضَعِ الجزاء نُصْب عينيك قبل أنْ تُقدِم على العمل.
لذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسأل أحد صحابته: «كيف أصبحتَ يا حارثة» فيقول: أصبحتُ مؤمناً حقاً، فقال: «إنَّ لكل حقّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك».
قال: عزفتْ نفسي عن الدنيا، حتى استوى عندي ذهبها ومدرها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون «.
فالمسألة إذن في نظرهم لم تكُنْ غيباً، إنما مشاهدة، كأنهم يرونها من شدة يقينهم بها؛ لذلك قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» عرفتَ فالزم «.
والإمام علي كرَّم الله وجهه يقول: لو كُشِف عني الحجاب ما ازددتُ يقيناً. لماذا؟ لأنه بلغ من اليقين في الغيب إلى حَدِّ العلم والمشاهدة.
ثم يقول تعالى: ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً﴾ [الفرقان: ٧٥].
التحية أن نقول له: إننا نُحيِّيك يعني: نريد حياتك بأُنْسك بِنَا، والسلام: الأمان والرحمة، لكن ممَّنْ يكون السلام؟ ورَدُّ السلام في

القرآن الكريم بمعان ثلاثة: سلام من الله، كما في قوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨].
وسلام من الملائكة: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣٢٤].
وسلام من أهل الأعراف، وهم قوم استوتْ حسناتهم وسيئاتهم، فلم يدخلوا الجنة، ولم يدخلوا النار، وهؤلاء يقولون: ﴿وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ [الأعراف: ٤٦].
إذن: فعباد الرحمن يُلَقَّوْن في الجنة سلاماً من الله، وسلاماً من الملائكة، وسلاماً من أهل الأعراف.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ﴾