
وقرأ حمزة والكسائي «خالق» بصيغة اسم الفاعل وبالإضافة. فَمِنْهُمْ أي الدواب مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحية والحيتان والديدان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنس والطير، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحش يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ كما يشاء إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) فلا يمنعه مانع. لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) موصل إلى الفوز بالجنة وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا هما في الأمر والنهي ثُمَّ يَتَوَلَّى أي يعرض عن طاعتهما فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما قالوا هذه الكلمة.
وَما أُولئِكَ أي الذين يدعون الإيمان والطاعة بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) حقيقة.
وقال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر وَإِذا دُعُوا أي الذين ادعوا الايمان والطاعة إِلَى اللَّهِ أي إلى كتاب الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول بَيْنَهُمْ بكتاب الله إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) عن كتاب الله وحكم الرسول إن كان الحكم عليهم وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ أي إلى الرسول مُذْعِنِينَ (٤٩) أي طائعين لجزمهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم يحكم لهم فقوله إِلَيْهِ متعلق ب «يأتوا» لأنه متعد ب «إلى» أو ب «مذعنين» لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي إعراضهم لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم، أَمِ ارْتابُوا أي أم لأنهم شكوا في أمر نبوته صلّى الله عليه وسلّم بعد تقرير الإسلام في القلب، أَمِ لأنهم يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ أي يجورا عليهم في الحكم فإنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه كما قال تعالى، بَلْ أُولئِكَ أي المعرضون عن حكم الله هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) أي ليس إعراضهم عن الحكم لواحد من هذه الثلاثة، بل لأنهم هم الظالمون، أي يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، ويتم لهم جحوده، فيأبون المحاكمة إليه صلّى الله عليه وسلّم لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يقضي عليهم بالحق.
قال الضحاك: نزلت هذه الآية في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض، فتقاسما، فوقع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة: بعني أرضك. فباعها إياه وتقابضا. فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء! فقال لعلي: اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها، لأنه لا ينالها الماء. فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها، وعرفت حالها، لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال المغيرة: أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني، وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت تلك الآيات:
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي إلى كتابه وَرَسُولِهِ أي وإلى سنة رسوله لِيَحْكُمَ أي الرسول صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَهُمْ بحكم الله أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا أي أجبنا الدعاء، وَأَطَعْنا لأحكامهما.
وقرأ الجمهور «قول المؤمنين» بالنصب على أنه خبر «كان» و «أن يقولوا» اسمها. وهذا

أقوى صناعة، لأن الأولى جعل الأعرف الاسم و «أن يقولوا» أوغل في التعريف، لأن الفعل المبتدأ بأن لا سبيل إليه للتنكير بخلاف «قول المؤمنين»، فإنه يجوز تنكيره بعزل الإضافة عنه.
والمعنى: إنما كان قول المؤمنين المخلصين عند الدعوة خصوصية قولهم المحكي عنهم.
وقرأ الحسن «قول المؤمنين» بالرفع على العكس. وهذا أفيد بحسب المعنى، لأن مصب الفائدة هو الخبر، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر فائدة وأظهر دلالة على الحديث. والمعنى: إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولا آخر أصلا وهذا تعليم أدب الشرع بمعنى: أن ما يجب أن يسلك المؤمنون هكذا، وَأُولئِكَ المؤمنون القائلون بذلك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) أي الفائزون بكل مطلب، والناجون من كل غضب وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمروا به من الاحكام الشرعية، فيما سرهم وساءهم وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ الموصوفون بما ذكر هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) بالنعيم الدائم في الجنة.
وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء. وقالون اختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف وقصر كسرة الهاء والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
أي أقسم المنافقون به تعالى أقصى مراتب اليمين في الوكادة: لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
بالخروج إلى الغزو لَيَخْرُجُنَ
. نزلت هذه الآية لما قال المنافقون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا، ولئن أقمت أقمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. قُلْ
لهم إظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين في تلك اليمين: لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
وهذا خبر مبتدأ محذوف، والجملة تعليل للنهي، أي لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة نفاقية واقعة باللسان فقط من غير موافقة للقلب وهي معروفة لكل أحد.
وقرأ اليزيدي بالنصب على معنى تطيعون طاعة معروفة لكل أحد مشهورة في ذلك.
والمعنى: أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها على شمائله، وكذا المعصية لأنه ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها كما رواه الطبراني عن عثمان، وعن سعيد لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا من كان. وعن عثمان بن عفان قال: لو أن رجلا دخل بيتا في جوف بيت فأدى هناك عملا أوشك الناس أن يتحدثوا به وما من عامل عمل عملا إلا كساه الله رداء عمله إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(٥٣) مما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها. وهو مجازيكم على ذلك. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما يدعوكم إليه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في مسلكه إلى الله تعالى،

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ أي فإن تعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فاعلموا أن ما على الرسول ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد شاهدتموه عند قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي ما أمرتم به من الطاعة. وعن نافع أنه قرأ «ما حمل» بفتح الحاء والميم مع التخفيف أي عليه ما حمل من أعباء الرسالة، وَإِنْ تُطِيعُوهُ فيما أمركم به من الطاعة تَهْتَدُوا أي تصيبوا الحق وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) أي ما على الرسول إلا التبليغ عن الله الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي أقسم الله على من جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح من أصحاب محمد ليجعلنهم بدلا عن الكفار متصرفين في الأرض العرب والعجم تصرف الملوك في مماليكهم، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما استخلف الله تعالى بني إسرائيل في مصر والشام بعد إهلاك فرعون والجبابرة، وكما استخلف هارون ويوشع، وداود، وسليمان.
وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم بضم التاء وكسر اللام فالموصول مرفوع بخلاف قراءة الجمهور من فتح التاء واللام فإن الموصول منصوب وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ
أي وليثبتن الله لهم دينهم الذي اختار لهم وهو الإسلام وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء أَمْناً، لأنه كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة قبل الهجرة خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا فيها يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل منهم: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تعبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة». فأنزل الله تعالى هذه الآية
، وأنجز وعده وفتح لهم بلاد الشرق والغرب.
وقرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بسكون الباء الموحدة يَعْبُدُونَنِي حال من الموصول الأول الذي هو مفعول «وعد» أو استئناف بيان لجواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما بالهم يستخلفون ويثبتون في دين الإسلام ويأمنون فقيل: يعبدونني. لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من الفاعل، أي يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئا من الأوثان، وَمَنْ كَفَرَ أي جحد حق هذه النعم بأن لا يقيموا حقها بَعْدَ ذلِكَ أي بعد الاستخلاف والتمكين والتبديل فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) أي العاصون الخارجون عن حريم الأمن، وأول من كفر بتلك النعم قتلة عثمان رضي الله عنه. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عطف على مقدر يطلبه نظام الكلام تقديره: فلا تكفروا وأقيموا الصلاة فإنها مواصلة بينكم وبين ربكم. وَآتُوا الزَّكاةَ فإنها مواصلة بينكم وبين إخوانكم، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) أي راجين أن ترحموا لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، والخطاب لكل أحد ممن يصلح له، والموصول مفعول أول، و «معجزين» مفعول ثان و «في الأرض» ظرف له لإفادة شمول عدم الإعجاز

لجميع أجزاء الأرض أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم بالإهلاك في قطر من أقطار الأرض وإن هربوا كل مهرب.
وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على الغيبة، والفاعل ضمير يعود على ما دل عليه شأن الكلام، أي لا يحسبن حاسب إلخ فإنهم مدركون وَمَأْواهُمُ النَّارُ في الآخرة وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) أي والله لبئس المرجع هي، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي العبيد الصغار في الدخول.
وعن ابن عباس ليس للكبير من المماليك أن ينظر إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه.
وقال ابن المسيب: لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى قرطها. وشعرها. وشيء من محاسنها وقال الآخرون: بل للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مالكته وما شابهه وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ أي من الأحرار، وهم الصبيان الذين حكوا عورات النساء وميّزوا بين الجميلة وغيرها، وظاهر الآية أمر المماليك والأطفال الأحرار بالاستئذان، وفي الحقيقة أمر الأولياء بتأديبهم فإن المقصود أمر المؤمنين بأن يمنعوا هؤلاء من الدخول عليهم في هذه الأوقات الثلاث من غير إذن لو كان المقصود أمرهم للزم تكليفهم ولما كان لتخصيص النداء والخطاب بالمؤمنين وجه ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، فيكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة فثلاث مرات منصوب على الظرف الزماني أو على المصدرية، أي ثلاثة استئذانات، ثم بين الأوقات فقال: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنه وقت للقيام من المضاجع وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وهذا في محل نصب على أنه بدل من ثلاث مرات، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي أحدها من قبل إلخ. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها بين الناس، لأجل القيلولة- وهي شدة الحر عند انتصاف النهار- ف «من» بيان ل «حين»، أو تعليل ل «تضعون»، أي من أجل حر وقت الاستواء وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ، لأنه وقت التجرد عن ثياب اليقظة والالتحاف باللحاف ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ بالرفع خبر مبتدأ مقدر و «لكم» صفة، أي هي ثلاثة انكشافات كائنة لكم، أو مبتدأ وخبر أي ثلاث عورات مخصوصة لكم بالاستئذان، وعلى هذا فالوقف على العشاء هو وقف كاف- وقرأ أهل الكوفة بالنصب على البدل من ثلاث مرات وكأنه قيل: في أوقات ثلاث عورات لكم، وعلى هذا فالوقف على لكم وهو وقف تام لَيْسَ عَلَيْكُمْ في تمكينهم من الدخول عليكم وَلا عَلَيْهِمْ في ترك الاستئذان في الدخول، جُناحٌ أي إثم بَعْدَهُنَّ أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وإنما أباح الله تعالى ذلك في الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منهن لما في العادة أنه لا تكشف العورة فيها طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي لأنهم يكثرون التردد عليكم بالدخول والخروج للخدمة، فلو كلفتم الاستئذان في كل طوفة لضاق الأمر عليكم بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي كما أن