
رضاءه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا. قال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة، تركوا كل شغل وبادروا. وهم أيضا في مبادرتهم إلى صلاة الجماعة في المساجد يخافون عذاب يوم القيامة.
٤- يكافئ الله ويجازي على الحسنات ويضاعف الثواب إلى عشر أمثاله.
والله يرزق من يشاء من عباده من غير أن يحاسبه على ما أعطاه إذ لا نهاية لعطائه.
حال الكافرين في الدنيا وخسرانهم في الآخرة
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
الإعراب:
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ: كَسَرابٍ: جار ومجرور في موضع رفع خبر المبتدأ وهو أعمالهم. وبِقِيعَةٍ في موضع جر صفة سراب أي كسراب كائن بقيعة، وقيعة: جمع قاع كجيرة جمع جار، ويَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً جملة فعلية في موضع جرّ صفة ل كَسَرابٍ أيضا.
وشَيْئاً منصوب على المصدر، أي لا شيء هناك.
يَغْشاهُ مَوْجٌ جملة فعلية في موضع جر صفة ل بَحْرٍ. ومِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ وكذا مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ يرتفع موج وسحاب بالظرف عند سيبويه، وعند الأخفش لجريه صفة على المذكور المرفوع بأنه فاعل. وكَظُلُماتٍ إما مرفوع بدلا من سَحابٌ أو على تقدير مبتدأ محذوف، أي هي ظلمات، وإما مجرور بدلا من كَظُلُماتٍ الأولى.

البلاغة:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وكذلك أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ كل منهما تشبيه تمثيلي رائع وبديع.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي حالهم على ضدّ حال المؤمنين، فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها في الآخرة لاغية مخيبة للآمال. كَسَرابٍ هو ما يرى في عين الإنسان أثناء سيره في الفلاة من لمعان الشمس وقت الظهيرة في شدة الحر، فيظن أنه ماء جار أو راكد على وجه الأرض. بِقِيعَةٍ جمع قاع، أي فلاة، وهو ما انبسط من الأرض. يَحْسَبُهُ يظنه.
الظَّمْآنُ العطشان، وخص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند ما تمسّ الحاجة إلى الظفر بثمرة عمله. حَتَّى إِذا جاءَهُ جاء ما تو همه ماء أو جاء موضعه. لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً مما ظنه أو حسبه، وكذلك الكافر يحسب أن عمله كالصدقة ينفعه، حتى إذا مات وقدم على ربه، يجد عمله لم ينفعه. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي عند عمله. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ جازاه عليه في الدنيا.
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أي المجازاة، لا يشغله حساب عن حساب.
أَوْ كَظُلُماتٍ أي والذين كفروا أعمالهم السيئة في الدنيا كالظلمات المتراكمة وأَوْ إما للتخيير فإن أعمال الكفار لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة في لج البحر والأمواج والسحاب، وإما للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، وإن كانت قبيحة فكالظلمات، وإما للتقسيم باعتبار وقتين وهو الظاهر، فإنها كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة.
فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق، أو ذي لجّ وهو معظم الماء، والمقصود: بحر عميق الماء كثيره ذو طبقات. يَغْشاهُ يغطيه. مِنْ فَوْقِهِ الظلمة الأولى أي الموج. مِنْ فَوْقِهِ والظلمة الثانية أي الموج الثاني، والمراد بظلمات البحر: أمواج متراكمة مترادفة، والمراد بالسحاب: سحاب غطى النجوم وحجب أنوارها. والسحاب: غيم. كَظُلُماتٍ أي هذه ظلمات: ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول وظلمة الثاني، وظلمة السحاب. إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أخرج الناظر يده في هذه الظلمات وهي أقرب شيء إليه. لَمْ يَكَدْ يَراها لم يقرب من رؤيتها فضلا عن أن يراها.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يهده الله لم يهتد، والمراد من لم يوفقه لأسباب الهداية لم يكن مهتديا.

سبب النزول: نزول الآية (٣٩) :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدّين، فلما جاء الإسلام كفر.
وقيل: في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافرا.
المناسبة:
بعد بيان حال المؤمنين، وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وبسببه يتمسكون بالعمل الصالح، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبع ذلك ببيان حال الكافرين، فإنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات، وضرب لكل من الحالين مثلا، أما المثل الأول الدال على الخيبة في الآخرة فهو قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وأما المثل الثاني لأعمالهم في الدنيا فهو أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي أن أعمالهم في الدنيا كظلمات في بحر.
التفسير والبيان:
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لحالي الكفار في الآخرة والدنيا، أو لنوعي الكفار: الداعي لكفره، والمقلد لأئمة الكفر، كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين: ناريا ومائيا، وكما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين: مائيا وناريا أيضا.
أما المثل الأول هنا فهو قوله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي إن الأعمال الصالحة التي يعملها الكفار الذين جحدوا توحيد

الله وكذبوا بالقرآن وبالرسول المنزل عليه، أو الدعاة إلى كفرهم، الذين يظنون أنها تنفعهم عند الله، وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب آمالهم في الآخرة ويلقون خلاف ما قدّروا، شبيهة بسراب يراه الإنسان العطشان في فلاة أو منبسط من الأرض، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه. وأعمالهم الصالحة: مثل صلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء وإقامة المشاريع الخيرية.
وهكذا حال الكافرين في الآخرة يحسبون أعمالهم نافعة لهم، منجّية من عذاب الله، فإذا جاء يوم القيامة وقوبلوا بالعذاب، فوجئوا أن أعمالهم لم تنفعهم، وإنما يجدون زبانية الله تأخذهم إلى جهنم، التي يسقون فيها الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.. الآيات [الكهف ١٨/ ١٠٢- ١٠٦]. وقال تعالى هنا: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أي ووجد عقاب الله وعذابه الذي توعد به الكافرين، فجازاه الله الجزاء الأوفى على عمله في الدنيا، والله سريع المجازاة، لا يشغله حساب عن حساب، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣]. هذا حالهم في الآخرة، أو حال الكفار الدعاة إلى الكفر.
والخلاصة: أن الكفار سيصطدمون بالخيبة والخسارة في الآخرة، فلا يجدون ما ينفعهم ولا ما ينجيهم.
أما المثل الثاني لحالهم في الدنيا أو حال الكفار الجهلة المقلدين لأئمة الكفر فهو كما قال تعالى:
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ أي إن مثل أعمال الكفار التي يعملونها في الدنيا على غير هدى،

أو مثل الذين يقلدون غيرهم، مثل ظلمات متراكمة في بحر عميق كثير الماء، تغمره الأمواج المتلاطمة، ويحجب نور الكواكب السماوية غيم كثيف، فهي ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، وكذا الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وهذه الظلمات حجبت عنه رؤية الحق وإدراك ما في الكون من عظات وآيات ترشد إلى الطريق الأقوم. قال الحسن: الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل. وقال ابن عباس: شبهوا قلبه وبصره وسمعه بهذه الظلمات الثلاث.
والمقصود من هذا المثل بيان أن الكافر تراكمت عليه أنواع الضلالات في الدنيا، فصار قلبه وبصره وسمعه في ظلمة شديدة كثيفة، لم يعد بعدها قادرا على تمييز طرق الصواب ومعرفة نور الحق. لذا قال تعالى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها أي إن تلك الظلمات الثلاث ظلمات متراكمة مترادفة، بعضها يعلو البعض الآخر، حتى إنه إذا مدّ الإنسان يده، وهي أقرب شيء إليه، لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها، ومعنى «لم يكد» : لم يقارب الوقوع، والذي لم يقارب الوقوع لم يقع.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يهده الله ولم يوفقه إلى الهداية، فهو هالك جاهل خاسر، في ظلمة الباطل لا نور له، ولا هادي له، كقوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف ٧/ ١٨٦]. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد ١٣/ ٣٣]، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم ١٤/ ٢٧]. وهذا مقابل لما قال في مثل المؤمنين يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ.

فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات مثلين لأعمال الكفار فهي إما كسراب خادع في فلاة أو صحراء، وإما كظلمات، والمثل الأول كما اختار الرازي دال على خيبة الكافر في الآخرة، والثاني دال على كون أعمالهم في متاهات وضلالات وظلمات يصعب اختراقها وتجاوزها، لكون قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم في ظلمة حالكة، يتخبط فيها، فلا يدري ما هو الصواب، وهو أيضا جاهل لا يدري أنه لا يدري.
ويستفاد من الآيات أن شرع الله ونظامه هو النور الصحيح المرشد لخيري الدنيا والآخرة، وأما التشريع المخالف لشرع الله فهو كالسراب الخادع، والظلمات المتراكمة. وهذا كله في مجال العقيدة. أما في مجال التحضر الدنيوي فقد يكون الكافر مبدعا فيها، متفوقا في إدراك غوامض الحياة، مبتكرا وسائل التقدم والمدينة، ولكنه عن الآخرة والنجاة فيها غافل جاهل.
قال ابن عباس في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يجعل الله له دينا فماله من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة، لم يهتد إلى الجنة كقوله تعالى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد ٥٧/ ٢٨].
والسبب في إحباط أعمال الكافر وإهدارها: أنها لا تعتمد على أصل صحيح وهو الإيمان بالله تعالى، والله لا يقبل عملا إلا من مؤمن معترف بالله وبصفاته، موحد له توحيدا تاما كاملا لتصح نية عمله.
والخلاصة: أن المثلين المذكورين في الآيتين هما تحذير وتنبيه للكفار، فمن عقل كلام الله وتدبر فيه، صحح اعتقاده، فيصلح له عمله ويستقيم في الدنيا، ومن ظل مصرا على كفره، معرضا عن التأمل في آيات ربه، لقي جزاء عسيرا، وعقابا أليما، ولم ينفعه أي عمل صالح، ينجّيه من عذاب الله يوم القيامة.