البغاء فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهن كما في قراءة ابن مسعود وقد أخرجها عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه لكن بتقديم لهن غَفُورٌ رَحِيمٌ ورويت كذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وينبىء عنه على ما قيل قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنه قال: غفور رحيم لهن وليست لهم، وكان الحسن إذا قرأ الآية يقول: لهن والله لهن، وفي تخصيص ذلك بهن وتعيين مداره على ما سمعت مع سبق ذكر المكرهين أيضا في الشرطية دلالة على كونهم محرومين من المغفرة والرحمة بالكلية كأنه قيل: لا لهم أو لا له ولظهور هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط اللازم في الجملة الشرطية على الأصح كما في المغني، وقيل: في توجيه أمر العائد: إن إِكْراهِهِنَّ مصدر مضاف إلى المفعول وفاعل المصدر ضمير محذوف عائد على اسم الشرط والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهن. ورده أبو حيان بأنهم لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف للمصدر في نحو هند عجبت من ضرب زيد وإن كان المعنى من ضربها زيدا فلم يجوزوا هذا التركيب ولا فرق بينه وبين ما نحن فيه، وقيل: جواب الشرط محذوف والمذكور تعليل لما يفهم من ذلك المحذوف والتقدير ومن يكرههن فعليه وبال إكراههن لا يتعدى إليهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن، وفيه عدول عن الظاهر وارتكاب مزيد إضمار بلا ضرورة، وكون ذلك لتسبب الجزاء على الشرط ليس بشيء.
وقال في البحر: الصحيح أن التقدير غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم ليكون في جواب الشرط ضمير يعود على اسم الشرط المخبر عنه بجملة الجواب ويكون ذلك مشروطا بالتوبة، وفيه إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل وأمر الربط لا يتوقف على ذلك، ومثله ما قيل: إن التقدير لهما فالوجه ما تقدم، والجار والمجرور في قراءة من سمعت قال ابن جني: متعلق بغفور لأنه أدنى إليه ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل، ويجوز أن يتعلق برحيم لأجل حرف الجر إذا قدر خبرا بعد خبر، ولم يقدر صفة لغفور لامتناع تقدم الصفة على موصوفها والمعمول إنما يصح وقوعه حيث يقع عامله وليس الخبر كذلك، وأيضا يحسن في الخبر لأن رتبة الرحمة أعلى من رتبة المغفرة لأن المغفرة مسببة عنها فكأنها متقدمة معنى وإن تأخرت لفظا والمعنى على تعلقه بهما كما لا يخفى، وتعليق المغفرة لهن مع كونهن مكرهات لا إثم لهن بناء على أن المكره غير مكلف ولا إثم بدون تكليف، وتفصيل المسألة في الأصول قيل: لشدة المعاقبة على المكره لأن المكرهة مع قيام العذر إذا كانت بصدد المعاقبة حتى احتاجت إلى المغفرة فما حال المكره وللدلالة على أن حد الإكراه الشرعي والمصابرة إلى أن ينتهي إليه فيرتكب ضيق والله تعالى يغفر ذلك بلطفه. وقيل: لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التشبث في التجافي عنه أو لاعتبار أنهن وإن كن مكرهات لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلة البشرية.
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [٣٤. ٤٠] كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شؤونها المستوجبة للإقبال الكلي على العمل بمضمونها، وصدر بالقسم المعربة عنه اللام لإبراز كمال العناية بشأنه أي وبالله لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة الكريمة آيات مبينات لكل مالكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك مما هو من مبادي بيانها على أن مُبَيِّناتٍ من بين المتعدي والمفعول محذوف وإسناد التبيين إلى الآيات مجازي أو آيات واضحات صدقتها الكتب القديمة والعقول السليمة على أنها من بين بمعنى تبين اللازم أي آيات تبين كونها آيات من الله تعالى، ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر «مبينات» على صيغة المفعول أي آيات بينها الله تعالى وجعلها واضحة الدلالة على الأحكام والحدود وغيرها، وجوز أن يكون الأصل مبينا فيها الأحكام فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول.
وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ عطف على آياتٍ أي وأنزلنا مثلا كائنا من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام فينتظم قصة عائشة رضي الله تعالى عنها المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مريم رضي الله تعالى عنها حيث أسند إليهما مثل ما أسند إلى عائشة من الإفك فبرأهما الله تعالى منه وسائر الأمثال الواردة في هذه السورة الكريمة انتظاما أوليا، وهذا أوفق بتعقيب الكلام بما سيأتي إن شاء الله تعالى من التمثيلات من تخصيص الآيات بالسوابق وحمل المثل على القصة العجيبة فقط وَمَوْعِظَةً تتعظون بها وتنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب فهي عبارة عما سبق من الآيات والمثل لظهور كونها من المواعظ بالمعنى المذكور، ويكفي في العطف التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي، وقد خصت الآيات بما يبين الحدود والأحكام والموعظة بما يتعظ به كقوله تعالى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: ٢] وقوله سبحانه: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور: ١٢] إلخ وغير ذلك من الآيات الواردة في شأن الآداب وقيدت الموعظة بقوله سبحانه:
لِلْمُتَّقِينَ مع شمولها للكل حسب شمول الإنزال حثا للمخاطبين على الاغتنام بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثارها المقتبسون من أنوارها فحسب، وقيل: المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن المجيد من الآيات والأمثال والمواعظ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ النور في اللغة- على ما قال ابن السكيت- الضياء وهذا ظاهر في عدم الفرق بين النور والضياء، وفرق بينهما جمع وإن كان إطلاق أحدهما على الآخر شائعا فقال الإمام السهيلي في الروض في قول ورقة:
ويظهر في البلاد ضياء نور | يقيم به البرية أن يموجا |
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم | ولم تكثر القتلى بها حين سلت |
وقال أبو حيان: أي لا هي شرقية ولا غربية، ولعل ما ذكرنا أولى، والجملة في موضع الصفة لزيتونة.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا، وكلمة لَوْ في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء الشيء لانتفاء غيره في الزمان الماضي فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له إجمالا بإدخالها على أبعدها منه، والواو الداخلة عليها لعطف الجملة المذكورة على جملة محذوفة مقابلة لها عند الجزولي ومن وافقه، ومجموع الجملتين في حيز النصب على الحالية من المستكن في الفعل الموجب أو المنفي، وتقدير الآية الكريمة يكاد زيتها يضيء لو مسته نار ولو لم تمسسه نار أي يضيء كائنا على كل حال من وجود شرط الإضاءة وعدمه، وحذفت الجملة الأولى حسبما هو المطرد في الباب ثقة بدلالة الثانية عليها دلالة واضحة.
وقال الزمخشري: الواو للحال ومقتضاه أن لَوْ مع ما بعدها حال فالتقدير والحال لو كان أو لم يكن كذا أي مفروضا ثبوته أو انتفاؤه، لكن الزمخشري ومثله المرزوقي يقدر ولو كان الحال كذا. وتعقب ذلك بأن أدوات الشرط لا تصلح للحالية لأنها تقتضي عدم التحقق والحال يقتضي خلافه. والتزم لذلك أنه انسلخ عنها الشرطية وأنها مؤولة صفحة رقم 361
بالحال كما أن الحال تكون في معنى الشرط نحو لأفعلنه كائنا ما كان أي إن كان هذا أو غيره ولذا لا تحتاج إلى الجزاء أصلا، وإنما قدر الحال بعد لو على ما قيل: إشارة إلى أنه قصد إلى جعل الجملة حالا قبل دخول الشرط المنافي له ثم دخلت لَوْ تنبيها على أنها حال غير محققة واعترض الرضي للقول بأنها عاطفة بأنه لو كان كذلك لوقع التصريح بالمعطوف عليه في الاستعمال وليس كذلك وذهب إلى أنها اعتراضية.
ويجوز الاعتراض في آخر الكلام والمقصود منه التأكيد. وأجيب عن اعتراضه بأن ظهور ترتب الجزاء على المعطوف عليه أغنى عن ذكره حتى كان ذكره تكرارا، وبالجملة الذي عطف عليه الأكثرون وارتضوه كونها عاطفة، ويجعل مجموع الجملتين في موضع الحال على ما سمعت يندفع ما يتوهم من أن كاد تنافي اعتبار العطف هنا فتأمل، وقرأ ابن عباس والحسن «يمسسه» بالياء التحتية وحسنه الفصل وكون الفاعل غير حقيقي التأنيث نُورٌ عَلى نُورٍ أي هو نور عظيم كائن على نور على أن يكون نُورُ خبر مبتدأ محذوف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، والجملة فذلكة للتمثيل وتصريح بما حصل منه وتمهيد لما يعقبه فالمراد من الضمير النور الذي مثلت صفته العظيمة الشأن بما سمعت لا النور المشبه به وحمله عليه لا يليق كما قيل بشأن التنزيل الجليل، وليس معنى كونه نورا فوق نور أنه نور واحد معين أو غير معين فوق نور آخر مثله ولا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل إنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره بسبب انضمام الشعاع المنعكس منه إلى أصل الشعاع بخلاف المكان المتسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ويمده بإضاءة مرتبة أخرى عادة.
والظاهر عندي أن التشبيه الذي تضمنته الآية الكريمة من تشبيه المعقول وهو نوره تعالى بمعنى أدلته سبحانه لكن من حيث إنها أدلة أو القرآن أو التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل أو الهدى أو نحو ذلك بالمحسوس وهو نور المشكاة المبالغ في نعته وأنه ليس في المشبه به أجزاء ينتزع منها الشبه ليبني عليه أنه مركب أو مفرق، وذكر أنه إذا كان المراد تشبيه النور بمعنى الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات فهو من التشبيه المركب العقلي وقد شبه فيه الهيئة المنتزعة بأخرى فإن النور وإن كان لفظه مفردا دال على متعدد وكذا إذا كان المراد تشبيه ما نور الله تعالى به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها، وفي الحواشي الطيبة الطيبية بعد اختيار أن المراد بالنور الهداية بوحي ينزله ورسول يبعثه ما هو ظاهر في أن التشبيه من التشبيه المفرق بل صرح بذلك أخيرا، واستدل عليه بأن التكرير في الآية يستدعي ذلك وقد أطال الكلام في هذا المقام، ومنه أن المشبهات المناسبة على هذا المعنى صدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقلبه الشريف واللطيفة الربانية فيه والقرآن وما يتأثر منه القلب عند استمداده. والتفصيل أنه شبه صدره عليه الصلاة والسلام بالمشكاة لأنه كالكوة ذو وجهين فمن وجه يقتبس النور من القلب المستنير ومن آخر يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق وذلك لاستعداده بانشراحه مرتين مرة في صباه وأخرى عند إسرائه قال الله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر: ٢٢] وهذا تشبيه صحيح قد اشتهر عن جماعة من المفسرين، روى محيي السنة عن كعب هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة والشجرة المباركة شجرة النبوة، وروى الإمام عن بعضهم أن المشكاة صدر محمد عليه الصلاة والسلام والزجاجة قلبه والمصباح ما في قلبه من الدين، وفي حقائق السلمي عن أبي سعيد الخزاز
المشكاة حوف محمد صلّى الله عليه وسلّم والزجاجة قلبه الشريف والمصباح النور الذي فيه، وشبه قلبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري لصفائه وإشراقه وخلوصه عن كدورة الهوى ولوث النفس الأمّارة وانعكاس نور اللطيفة إليه. وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب.
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: القلوب أربعة قلب أجود فيه مثل السراج يزهر- وفيه- أما القلب الأجود فقلب المؤمن سراجه فيه نوره» الحديث،
وشبه نفس القرآن بالشجرة المباركة لثبات أصلها وتشعب فروعها وتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها قال الله تعالى: كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [إبراهيم: ٢٤، ٢٥] الآية. وروى محيي السنة عن الحسن وابن زيد الشجرة المباركة شجرة الوحي يكاد زيتها يضيء تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم تقرأ. وشبه ما يستمده نور قلبه الشريف صلوات الله تعالى وسلامه عليه من القرآن وابتداء تقويته منه بالزيت الصافي قال الله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: ٥٢] فكما جعل سبحانه القرآن سبب توقده منه في قوله تعالى: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ جعل ضوءه مستفادا من انعكاس نور اللطيفة إليه في قوله عز وجل وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ.
والمعنى على ما ذكر في انسان العين يكاد سر القرآن يظهر للخلق قبل دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه مسحة من معنى قوله:
رق الزجاج ورقت الخمر... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح... وكأنما قدح ولا خمر
ومنه وصفت الشجرة بكونها لا شرقية ولا غربية. وعن ابن عباس تشبيه فؤاده صلّى الله عليه وسلّم بالكوكب الدري وأن الشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام. ومعنى لا شرقية ولا غربية أنه ليس بنصراني فيصلي نحو المشرق ولا يهودي فيصلي نحو المغرب. والزيت الصافي دين إبراهيم عليه السلام، وقد يقال على تفريق التشبيه لكن على مشرع آخر شبه القرآن بالمصباح على ما سبق ونفسه صلّى الله عليه وسلّم الزكية الطاهرة بالشجرة لكونها نابتة من أرض الدين متشعبة فروعها إلى سماء الإيمان متدلية أثمارها إلى فضاء الإخلاص والإحسان وذلك لاستقامتها بمقتضى قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] غير مائلة إلى طرفي الإفراط والتفريط وذلك معنى قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ويشبه ما محض من تلك الثمرات بعد التصفية التامة للتهيئة وقبول الآثار بالزيت الصافي لوفور قوة استعدادها للاستضاءة للدهنية القابلة للاشتعال، ومن ثم خصت شجرة الزيتون لأن لب ثمرتها الزيت الذي تشتعل به المصابيح، وخص هذا الدهن لمزيد إشراقه مع قلة الدخان يكاد زيت استعداده صلوات الله تعالى وسلامه عليه لصفائه وزكائه يضيء ولو لم يمسسه نور القرآن، روى البغوي عن محمد بن كعب القرظي تكاد محاسن محمد صلّى الله عليه وسلّم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه، قال ابن رواحة:
لو لم يكن فيه آيات مبينة... كانت بداهته تنبيك عن خبره
وفي حقائق السلمي مثل نوره في عبده المخلص والمشكاة القلب والمصباح النور الذي قذف فيه والمعرفة تضيء في قلب العارف بنور التوفيق يوقد من شجرة مباركة يضيء على شخص مبارك تتبين أنوار باطنة على آداب ظاهرة وحسن معاملته زيتونة لا شرقية ولا غربية جوهرة صافية لا لها حظ في الدنيا ولا في الآخرة لاختصاصها بموالاة
العزيز الغفار وتفردها بالفرد الجبار إلى غير ذلك، وجعل بعضهم التشبيه من المركب الوهمي بناء على أن المراد من النور المشبه الهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم.
وكان الظاهر على هذا دخول الكاف على المصباح دون المشكاة المشتملة عليه، ومن هنا قيل إن في الآية قلبا، ووجه بعضهم دخولها على المشكاة بأن المشتمل مقدم على المشتمل عليه في رأي العين فقدم لفظا ودخل الكاف عليه رعاية لذلك، وقيل إنه على هذا أيضا تشبيه مفرق لأنه شبه الهدى بالمصباح والجهالات بظلم استلزمتها وهو كما ترى.
ومن الناس من جعل التشبيه مفرقا لكن بنى كلامه على ما أسسه الفلاسفة فجعل النور المشبه ما منح الله تعالى به عباده من القوى الخمس الدراكة المترتبة التي نيط بها المعاش وهي القوة الحساسة أعني الحس المشترك الذي يدرك المحسوسات بجواسيس الحواس الخمس الظاهرة والقوة الخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاء والقوة العقلية المدركة للحقائق الكلية والقوة الفكرية التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها على وجه يحصل به العلم بالمجهولات والقوة القدسية التي يختص بها الأنبياء والأولياء وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت، وجعل ما في حيز الكاف عبارة عن أمور شبه بكل منها واحد من هذه الخمس فقال: شبهت القوة الحساسة بالمشكاة من حيث إن محلها تجويف في مقدم الدماغ كالكوة تضع فيه الحواس الظاهرة ما تحس به وبذلك يضيء، وشبهت القوة الخيالية بالزجاجة من حيث إنها تقبل الصور المدركة من الجوانب كما تقبل الزجاجة الأنوار الحسية من الجوانب ومن حيث إنها تضبط الأنوار العقلية وتحفظها كما تحفظ الزجاجة الأنوار الحسية، ومن حيث إنها تستنير بما يشتمل عليها من المعقولات، وشبهت القوة العقلية بالمصباح لإضاءتها بالإدراكات والمعارف وشبهت القوة الفكرية بالشجرة المباركة من حيث إنها تؤدي إلى نتائج كثيرة هي بمنزلة ثمرات الشجرة، واعتبرت زيتونة لأن لها فضيلة على سائر الأشجار من حيث إن لب ثمرتها هو الزيت الذي له منافع جمة، منها أنه مادة المصابيح والأنوار الحسية وله من بين سائر الأدهان خاصة زيادة الإشراق وقلة الدخان، واعتبار وصف لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ في جانب المشبه من حيث إن القوة الفكرية مجردة عن اللواحق الجسمية أو من حيث إن انتفاعها ليس مختصا بجانب الصور ولا بجانب المعاني، وشبهت القوة القدسية بالزيت الذي يكاد يضيء من غير أن تمسسه نار من حيث إنها لكمال صفائها وشدة استعدادها لا تحتاج إلى تعليم أو تفكر. واعترض بأن حق النظم الكريم على هذا أن يقال: مثل نوره كمشكاة وزجاجة ومصباح وشجرة مباركة زيتونة وزيت يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار حتى يفيد تشبيه كل واحد بكل واحد. وأجيب بأنه لما كان كل من هذه الحواس يأخذ ما يدركه مما قبله كما يأخذ المظروف من ظرفه أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الظرفية دلالة على بديع صنعه سبحانه وحكمته جل شأنه.
وجوز أن يراد تشبيه النور المراد به القوة العقلية للنفس بمراتبها بذلك ومراتبها أربع، الأولى أن تكون النفس خالية عن جميع العلوم الضرورية والنظرية مستعدة لها كما في مبدأ الطفولية وتسمى القوة العقلية في هذه المرتبة بالعقل الهيولاني لأنها كالهيولى في أنها في ذاتها خالية عن جميع الصور قابلة لها، وثانيتها أن تستعمل آلاتها أي الحواس مطلقا فيحصل لها علوم أولية، وتستعد لاكتساب علوم نظرية وتسمى القوة المذكورة في هذه المرتبة عقلا بالملكة لحصول ملكة الانتقال إلى النظريات لها بسبب تلك الأوليات، وثالثتها أن تصير النظريات مخزونة عندها وتحصل لها ملكة استحضارها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلا بالفعل لحصول تلك العلوم لها بالقوة القريبة من الفعل، ورابعتها أن ترتب العلوم الأولية وتدرك العلوم النظرية مشاهدة
إياها بالفعل وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلا مستفادا لاستفادتها من العقل الفعال فشبهت القوة بالمرتبة الأولى بالمشكاة الخالية في بدء الأمر عن الأنوار الحسية المستعدة للاستنارة بها وبالمرتبة الثانية بالزجاجة المتلألئة في نفسها القابلة للأنوار الفائضة عليها من الغير الخارجي وبالمرتبة الثالثة بالمصباح الذي اشتعلت فتيلته المشبعة من الزيت وبالمرتبة الرابعة بالنور المتضاعف المشار إليه بقوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ والشيخ ابن سينا بعد أن بين المراتب حمل مفردات التنزيل عليها، وحقق في المحاكمات وجه الترتيب فيها حيث جعل الزجاجة في المشكاة والمصباح في الزجاجة بأن هناك استعدادا محضا كما في المرتبة الأولى واستعداد اكتساب كما في المرتبة الثانية واستعداد استحضار كما في المرتبة الثالثة ولا شك أن استعداد الاكتساب بحسب الاستعداد المحض واستعداد الاستحضار بحسب استعداد الاكتساب فتكون الزجاجة التي هي عبارة عن العقل بالملكة كأنما هي في المشكاة التي هي عبارة عن العقل الهيولاني والمصباح وهو العقل بالفعل في الزجاجة التي هي العقل بالملكة لأنه إنما يحصل باعتبار حصول العقل أولا وحيث إن العقل بالملكة إنما يخرج من القوة إلى الفعل بالفكر أو بالحدس أو بالقوة القدسية أشير إلى الفكر بالشجرة الزيتونة وإلى الحدس بالزيت وإلى القوة القدسية بيكاد زيتها يضيء ودفع ما يظهر من عدم انطباق ما ذكر على النظم الجليل لأنه وصف فيه الشجرة بما سمعت من الصفات، وهذه أمور متباينة لا يجوز وصف أحدها بالآخر بأن الشجرة الزيتونة شيء واحد فإذا ترقت في أطوارها حصل لها زيت إذا ترقى وصفا كاد يضيء وكذلك الاكتساب قوة نفسية هي فكرة فإذا ترقت كانت حدسا، ثم قوة قدسية فهي وإن كانت متباينة ترجع إلى شيء واحد كالشجرة وذكر أن قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ إشارة إلى أنها ليست من عالم الحس الذي لا يخلو عن أحد الأمرين، ولا يخفى عليك أن هذا مع تكلفه وابتنائه على ما أسسه الفلاسفة الذين هم في عمى عن نور الشريعة ولله تعالى در من قال فيهم:
قطعت الأخوة عن معشر | بهم مرض من كتاب الشفا |
فماتوا على دين رسطالس | وعشنا على سنة المصطفى |
٤٠] يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ [النور: ٣٥] أي يهدي سبحانه هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن، وإظهاره في مقام الإضمار لزيادة تقريره وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عز وجل مَنْ يَشاءُ هدايته من عباده بأن يوفقهم سبحانه لفهم وجوه دلالة الأدلة العقلية والسمعية التي نور بها السماوات والأرض على وجه ينتفعون به أو بأن يوفقهم لفهم ما في القرآن من دلائل حقيته وكونه من عنده عز وجل من الإعجاز والإخبار عن الغيب وغير ذلك من موجبات الإيمان وفيه احتمالات أخر بحسب ما في النور من الأقوال، وأيا ما كان ففيه إيذان بأن مناط هذه الهداية وملاكها ليس إلا مشيئته تعالى وأن إظهار الأسباب بدونها بمعزل عن الإفضاء إلى المطالب:
إذا لم يك التوفيق عونا لطالب | طريق الهدى أعيت عليه مطالبه |
نوره المراد به ما يشمل القرآن أو القرآن المبين فقط بنور المشكاة، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار على ما في إرشاد العقل السليم للإيذان باختلاف ما أسند إليه تعالى من الهداية الخاصة وضرب الأمثال الذي هو من قبيل الهداية العامة كما يفصح عنه تعليق الأولى بمن شاء والثانية بالناس كافة.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو باطنا ومن قضيته أن تتعلق مشيئته تعالى بهداية من يليق بها ويستحقها من الناس دون من عداهم لمخالفته الحكمة التي هي مبنى التكوين والتشريع وأن تكون هدايته سبحانه العامة على فنون مختلفة وطرائق شتى حسبما تقتضيه أحوالهم وتقوم به الحجة له تعالى عليهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله، وقيل جيء بها لوعد من تدبر الأمثال ووعيد من لم يكترث بها، وقيل لبيان أن فائدة ضرب الأمثال التي هي للتوضيح إنما هي للناس وليس بذاك، وإظهار الاسم الجليل لتأكيد استقلال الجملة والاشعار بعلة الحكم وبما ذكر آنفا من اختلاف حال المحكوم به ذاتا وتعلقا.
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ إلخ استئناف لبيان حال من حصلت لهم الهداية لذلك النور وذكر بعض أعمالهم القلبية والقالبية، فالجار والمجرور- أعني متعلق قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ بيسبح وفيها تكرير لذلك جيء به للتأكيد والتذكير بما بعد في الجملة وللإيذان بأن التقديم للاهتمام دون الحصر، ومثل ما ذكر في التكرير للتأكيد وقوله تعالى: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران:
١٠٧] وقولك مررت بزيد به، وبعض النحاة أعرب نحو ذلك بدلا كما في شرح التسهيل، وفي المغني هو من توكيد الحرف بإعادة ما دخل عليه مضمرا وليس الجار والمجرور توكيدا للجار والمجرور لأن الظاهر لكونه أقوى لا يؤكد بالضمير، وليس المجرور بدلا بإعادة الجار لأنه لا يبدل مضمر من مظهر وإنما جوزه بعض النحاة قياسا، وأنت تعلم أن ما ذكر غير وارد لأن المجموع بدل أو توكيد، وأتي بالظاهر هربا من التكرار، ورِجالٌ فاعل يُسَبِّحُ وتأخيره عن الظروف لأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الانتظام وقال الرماني فِي بُيُوتٍ متعلق بيوقد، وقال الحوفي: متعلق بمحذوف وقع صفة لمشكاة، وقيل هو صفة لمصباح، وقيل صفة لزجاجة، وهو على هذه الأقوال الأربعة تقييد للممثل به للمبالغة فيه، والتنوين في الموصوف للنوعية لا للفردية لينافي ذلك في جمع البيوت. وأورد على ما ذكر أن شيئا منه لا يليق بشأن التنزيل الجليل كيف لا وأن ما بعد قوله تعالى وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ على ما هو الحق أو بعد قوله سبحانه نُورٌ عَلى نُورٍ على ما قيل إلى قوله تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ كلام متعلق بالممثل قطعا فتوسطيه بين أجزاء التمثيل مع كونه من قبيل الفصل بين الشجرة ولحائه بالأجنبي يؤدي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتمثيل المهديين لنوره تعالى بطريق الاستتباع والاستطراد مع كون بيان حال أضدادهم مقصودا بالذات ومثل هذا مما لا عهد به في كلام الناس فضلا أن يحمل عليه الكلام المعجز. وتعقبه الخفاجي بأنه زخرف من القول إذ لا فصل فيه وما قبله إلى هنا من المثل، والظاهر عندي أن التمثيل قد تم عند قوله تعالى: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ وقيل هو متعلق بسبحوا أو نحوه محذوفا، وتلك الجملة على ما قيل مترتبة على ما قبلها وترك الفاء للعلم به كما في نحو قم يدعوك، ومنعوا تعلقه بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله، والمراد بالبيوت المساجد كلها كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: إنما هي أربع مساجد لم يبنهن إلا نبي، الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام ومسجد المدينة ومسجد قباء بناهما رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن الحسن أن المراد بها بيت المقدس والجمع من حيث إن فيه مواضع يتميز بعضها عن بعض وهو خلاف الظاهر جدا.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذه الآية فِي بُيُوتٍ إلخ فقام إليه عليه الصلاة والسلام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بيوت الأنبياء عليهم السلام فقام إليه أبو بكر رضي الله تعالى فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما قال: نعم من أفاضلها»
وهذا إن صح لا ينبغي العدول عنه.
وقال أبو حيان: الظاهر أنها مطلقة تصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم، وجوز أن يراد بها صلاة المؤمنين أو أبدانهم بأن تشبه صلاتهم الجامعة للعبادات القولية والفعلية أو أبدانهم المحيطة بالأنوار بالبيوت المذكورة- أعني المساجد- ثم يستعار اسمها لذلك. وتعقب بأنه لا حسن فيما ذكر وأظنك لا تكتفي بهذا المقدار من الجرح، والمراد بالإذن الأمر وبالرفع التعظيم أي أمر سبحانه بتعظيم قدرها، وروي هذا عن الحسن والضحاك ولا يخفى أنه إذا أريد بها المساجد فتعظيم قدرها يكون بأشياء شتى كصيانتها عن دخول الجنب والحائض والنفساء ولو على وجه العبور وقد قالوا بتحريم ذلك وإدخال بحاسة فيها يخاف منها التلويث ولذا قالوا: ينبغي لمن أراد أن يدخل المسجد أن يتعاهد النعل والخف عن النجاسة ثم يدخل فيه احترازا عن تلويث المسجد، ومنع إدخال الميت فيها ومنع إدخال الصبيان والمجانين وهو حرام حيث غلب تنجيسهم وإلا فهو مكروه، وقد جاء الأمر بتجنيبهم عن المساجد مطلقا.
أخرج ابن ماجة عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع ومنع إنشاد الضالة وإنشاد الأشعار
، فقد أخرج الطبراني وابن السني وابن منده عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا فض الله تعالى فاك ثلاث مرات ومن رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا: لا وجدتها ثلاث مرات» الحديث
. وينبغي أن يقيد المنع من إنشاد الشعر بما إذا كان فيه شيء مذموم كهجو المسلم وصفة الخمر وذكر النساء والمردان وغير ذلك مما هو مذموم شرعا، وأما إذا كان مشتملا على مدح النبوة والإسلام أو كان مشتملا على حكمة أو باعثا على مكارم الأخلاق والزهد ونحو ذلك من أنواع الخير فلا بأس بإنشاده فيها، ومنع إلقاء القملة فيه بعد قتلها وهو مكروه تنزيها على ما صرح به بعض المتأخرين، ويندب أن لا تلقى حية في المسجد،
فقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن رجل من الأنصار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرجها»
ومنع البول فيها ولو في إناء وقد صرحوا بحرمة ذلك، وفي الأشباه وأما الفصد في المسجد في إناء فلم أره، وينبغي أن لا فرق أي لأن كلّا من البول والدم نجس مغلظ، ومنع إلقاء البصاق فيها.
وفي البدائع يكره التوضي في المسجد لأنه مستقذر طبعا فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم،
وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى في قبلة المسجد نخامة فقام إليها فحكها بيده الشريفة صلّى الله عليه وسلّم ثم دعا بخلوق فلطخ مكانها»
فقال الشعبي: هو سنة، وذكروا أن إلقاء النخام فوق الحصير أخف من وضعها تحته فإن اضطر إليه دفنها،
وفي حديث أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا «التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه»
وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعا أيضا نحوه، ومنع الوطء فيها وفوقها كالتخلي
وصرحوا بحرمة ذلك، ومنع دخول من أكل ذا رائحة كريهة فيها كالثوم والبصل والكراث وأكل الفجل إذا تجشأ كذلك، وقد كان الرجل في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا وجد منه ريح الثوم يؤخذ بيده ويخرج إلى البقيع، والظاهر أن الأبخر أو من به صنان مستحكم حكمه حكم آكل الثوم والبصل، وكذا حكم من رائحة ثيابه كريهة كثياب الزياتين والدباغين، وعن مالك أن الزياتين يتأخرون ولا يتقدمون إلى الصف الأول ويقعدون في أخريات الناس، ومنع الثوم والأكل فيها لغير معتكف، ومنع الجلوس فيها للمصيبة أو للتحدث بكلام الدنيا، ومنع اتخاذها طريقا وهو مكروه أو حرام، وقد جاء النهي عن ذلك في حديث رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن اتخاذها طريقا من أشراط الساعة وفي القنية معتاد ذلك يأثم ويفسق، نعم إن كان هناك عذر لم يكره المرور، ومن تعظيمها رشها وقمها، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال: كان المسجد يرش ويقم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج عن يعقوب بن زيد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتبع غبار المسجد بجريدة وكذا تعليق القناديل فيها وفرشها بالآجر والحصير، وفي مفتاح السعادة ولأهل المسجد أن يفرشوا المسجد بالآجر والحصير ويعلقوا القناديل لكن من مال أنفسهم لا من مال المسجد إلا بأمر الحاكم، ولعل محل ذلك ما لم يعين الواقف شيئا من ريع الوقف لذلك، وينبغي أن يكون إيقاد القناديل الكثيرة فيها في ليالي معروفة من السنة كليلة السابع والعشرين من رمضان الموجب لاجتماع الصبيان وأهل البطالة ولعبهم ورفع أصواتهم وامتهانهم بالمساجد بدعة منكرة، وكذا ينبغي أن يكون فرشها بالقطائف المنقوشة التي تشوش على المصلين وتذهب خشوعهم كذلك، ومن التعظيم أيضا تقديم الرجل اليمنى عند دخولها واليسرى عند الخروج منها، وصلاة الداخل ركعتين قبل الجلوس إذا كان دخوله لغير الصلاة على ما ذكره بعضهم،
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطوا المساجد حقها: قيل وما حقها؟ قال: ركعتان قبل أن تجلس»
ومن ذلك أيضا بناؤها رفيعة عالية لا كسائر البيوت لكن لا ينبغي تزيينها بما يشوش على المصلين، وفي حديث أخرجه ابن ماجة والطبراني عن جبير بن مطعم مرفوعا أنها لا تبنى بالتصاوير ولا تزين بالقوارير. وفسر بعضهم الرفع ببنائها رفيعة كما في قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [البقرة: ١٢٧] والأولى عندي تفسيره بما سبق وجعل بنائها كذلك داخلا في العموم ويدخل فيه أمور كثيرة غير ما ذكرنا وقد ذكرها الفقهاء وأطالوا الكلام فيها.
زعم بعض المفسرين أن إسناد الرفع إليها مجاز، والمراد ترفع الحوائج فيها إلى الله تعالى، وقيل: ترفع الأصوات بذكر الله عز وجل فيها، ولا يخفى مافيه، وفي التعبير عن الآمر بالإذن تلويح بأن اللائق بحال المأمور أن يكون متوجها إلى المأمور به قبل الآمر به ناويا لتحقيقه كأنه مستأذن في ذلك فيقع الأمر به موقع الأمر فيه، والمراد بذكر اسمه تعالى شأنه ما يعم جميع أذكاره تعالى، وجعل من ذلك المباحث العلمية المتعلقة به عز وجل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به توحيده عز وجل وهو قول: لا إله إلا الله، وعنه أيضا المراد تلاوة كتابه سبحانه.
وقيل: ذكر أسمائه تعالى الحسنى. والظاهر ما قدمنا، وعطف الذكر على الرفع من قبيل عطف الخاص على العام فإن ذكر اسمه تعالى فيها من أنواع تعظيمها، وليس من عطف التفسير في شيء خلافا لمن توهمه، والتسبيح التنزيه والتقديس ويستعمل باللام وبدونها كما في قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: ١] والمراد به إما ظاهره أو الصلاة لاشتمالها عليه وروي هذا عن ابن عباس والحسن والضحاك.
وعن ابن عباس كل تسبيح في القرآن صلاة، وأيد إرادة الصلاة هنا تعيين الأوقات بقوله سبحانه: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والغدو جمع غداة كفتى وفتاة أو مصدر أطلق على الوقت الغدو، وأيد بأن أبا مجلز قرأ «والإيصال» مصدرا
أي الدخول في وقت الأصيل، والْآصالِ كما قال الجوهري جمع أصيل كشريف وأشراف، واختاره جماعة مع أن جمع فعيل على أفعال ليس بقياسي.
واختار الزمخشري أنه جمع أصل كعنق وأعناق والأصل كالأصيل العشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح فيشمل الأوقات ما عدا الغداة وهي من أول النهار إلى الزوال ويطلقان على أول النهار وآخره، وإفرادهما بالذكر لشرفهما وكونهما أشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والاشتغال بالأشغال. وعن ابن عباس أنه حمل الغداة على وقت الضحى وهو مقتضى ما أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان عنه رضي الله تعالى عنه من قوله: «إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها الأغواص وتلا الآية حتى بلغ الآصال.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمنهال عن يعقوب والمفضل وأبان «يسبح» بالياء التحتية والبناء للمفعول ونائب الفاعل لَهُ أو فِيهَا إن لم يتعلق فِي بُيُوتٍ به أو بِالْغُدُوِّ والأولية للأول لأنه ولي الفعل والإسناد إليه حقيقي دون الأخيرين. وجوز أن يكون المجرور فيما ذكر نائب الفاعل والجار فيه زائدا، وفيه ارتكاب لما لا داعي إليه، ورفع «رجال» على هذه القراءة على أنه فاعل لفعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف على ما في البحر أي يسبح له أو المسبح له رجال. والجملة استئناف بياني وقع جوابا لسؤال نشأ من الكلام السابق. وهذا نظير قوله:
ليبك يزيد ضارع لخصومة | متخبط مما تطيح الطوائح |
وقرأ أبو حيوة وابن وثاب «تسبح» بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو «رجال» والتأنيث لأن جمع التكثير كثيرا ما يعامل معاملة المؤنث، وقرأ أبو جعفر «تسبيح» بالتاء الفوقية والبناء للمفعول وهو قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ على أن الباء زائدة والإسناد مجازي بجعل الأوقات المسبح فيها ربها مسبحة، وجوز أبو حيان أن يكون الإسناد إلى ضمير التسبيحة الدال عليه «تسبح» أي تسبح هي أي التسبيحة كما قالوا في قوله تعالى: لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية: ١٤] على قراءة من بنى يجزي للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء. قال في إرشاد العقل السليم: وهذا أولى من التوجيه الأول إذ ليس هنا مفعول صريح. وضعفه بعضهم هنا بأن الوحدة لا تناسب المقام، وأجيب بالتزام كون الوحدة جنسية.
وأيا ما كان فرفع «رجال» على هذه القراءة على الفاعلية أو الخبرية كما سمعت آنفا. والتنوين فيه على جميع القراءات للتفخيم، وقوله سبحانه: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة مفيدة لكمال تبتلهم إلى الله تعالى من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم كائنا ما كان. وتخصيص الرجال بالذكر لأنهم الأحقاء بالمساجد.
فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أم سلمة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خير مساجد النساء قعر بيوتهن»
وتخصيص التجارة التي هي المعاوضة مطلقا بذلك لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة وَلا بَيْعٌ أي ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان في غاية الريح. وإفراده بالذكر مع اندراجه تحت التجارة للإيذان بإنافته على سائر أنواعها لأن ربحه متيقن ناجز وربح ما عداه متوقع في ثاني الحال عند البيع فلم يلزم من نفي إلهاء ما عداه نفي إلهائه ولذلك كرر كلمة لا لتذكير النفي وتأكيده، وجوز أن يراد بالتجارة المعاوضة الرابحة بالبيع المعاوضة مطلقا فيكون ذكره بعدها من باب التعميم بعد التخصيص للمبالغة، ونقل عن الواقدي أن المراد بالتجارة هو الشراء لأنه صفحة رقم 369
أصلها ومبدؤها فلا تخصيص ولا تعميم، وقيل: المراد بالتجارة الجلب لأنه الغالب فيها فهو لازم لها عادة. ومنه يقال:
تجر في كذا أي جلبه. ويؤيد هذا ما
أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في هؤلاء الموصوفين بما ذكر: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله تعالى.
وأخرج الديلمي وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه
، وفي ذلك أيضا ما يقتضي أنهم كانوا تجارا وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية لأنه لا يقال فلان لا تلهيه التجارة إلا إذا كان تاجرا وروي ذلك عن ابن عباس.
أخرج الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال: أما والله لقد كانوا تجارا فلم تكن تجارتهم ولا بيعهم يلهيهم عن ذكر الله تعالى، وبه قال الضحاك، وقيل إنهم لم يكونوا تجارا والنفي راجع للقيد والمقيد كما في قوله:
على لاحب لا يهتدى بمناره كأنه قيل: لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم فإن الآية نزلت فيمن فرغ عن الدنيا كأهل الصفة، وأنت تعلم أن الآية على الأول المؤيد بما سمعت أمدح ولم نجد لنزولها فيمن فرغ عن الدنيا سندا قويا أو ضعيفا ولا يكتفى في هذا الباب بمجرد الاحتمال عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بالتسبيح والتحميد ونحوهما وَإِقامِ الصَّلاةِ أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير.
والأصل أقوام فنقلت حركة الواو لما قبلها فالتقى ساكنان فحذفت فقيل: إقام، وعن الزجاج أنه قلبت الواو ألفا ثم حذف لاجتماع ألفين. وأورد عليه أنه لا داعي إلى قلبها ألفا مع فقد شرطه وهو أن لا يسكن ما بعدها. وأوجب الفراء لجواز هذا الحذف تعويض التاء فيقال: إقامة أو الإضافة كما هنا. وعلى هذا جاء قوله:
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا | وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا |
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير إيتاء الزكاة بإخلاص طاعة الله تعالى وفيه بعد كما ترى، وإيراد هذا الفعل هاهنا وإن لم يكن مما يفعل في البيوت لكونه قرينة لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد. وكذا قوله تعالى: يَخافُونَ إلى آخره فإنه صفة أخرى لرجال أو حال من مفعول لا تُلْهِيهِمْ أو استئناف مسوق للتعليل. وأيا ما كان فليس خوفهم مقصورا على كونهم في المساجد.
وقوله تعالى: يَوْماً مفعول ليخافون على تقدير مضاف أي عقاب يوم وهو له أو بدونه وجعله ظرفا لمفعول محذوف بعيد. وأما جعله ظرفا ليخافون والمفعول محذوف فليس بشيء أصلا إذ المراد أنهم يخافون في الدنيا يوما تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ لا أنهم يخافون شيئا في ذلك اليوم الموصوف بأنه تتقلب فيه إلخ، والمراد به يوم القيامة ومعنى تقلب القلوب والأبصار فيه اضطرابها وتغيرها أنفسها فيه من الهول والفزع كما في قوله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: ١٠] أو تغير أحوالها بأن تفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر أو بأن تتوقع القلوب النجاة تارة وتخاف الهلاك أخرى وتنظر الأبصار يمينا تارة وشمالا أخرى لما أن أغلب أهل الجمع لا يدرون من أي ناحية يؤخذ بهم ولا من أي وجهة يؤتون كتبهم، وقيل: المراد تقلب فيه القلوب والأبصار على جمر جهنم وليس بشيء، ومثله قول الجبائي: إن المراد تنتقل من حال إلى حال فتلفحها النار ثم تنضجها ثم تحرقها، وقرأ ابن محيصن «تنقلب» بإسكان التاء الثانية. صفحة رقم 370
وقوله سبحانه لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق على ما استظهره أبو حيان بيسبح وجوز أبو البقاء أن يتعلق بلا تلهيهم أو بيخافون ولا يخفى أن تعلقه بأحد المذكورين محوج إلى تأويل، ولعل تعلقه بفعل محذوف يدل عليه ما حكي عنهم أولى من جميع ذلك أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة والخوف من غير صارف لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى أَحْسَنَ ما عَمِلُوا واللام على سائر الأوجه للتعليل. وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون لام الصيرورة كالتي في قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] وموضع الجملة حال والتقدير يخافون ملهمين ليجزيهم الله وهو كما ترى، والجزاء المقابلة والمكافأة على ما يحمد ويتعدى إلى الشخص المجزي بعن قال تعالى:
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: ٤٨، ١٢٣] وإلى ما فعله ابتداء بعلى تقول جزيتة على فعله وقد يتعدى إليه بالباء فيقال جزيته بفعله وإلى ما وقع في مقابلته بنفسه وبالباء، قال الراغب: يقال جزيته كذا وبكذا، والظاهر أن أحسن هو ما وقع في المقابلة فيكون الجزاء قد تعدى إليه بنفسه ويحتاج إلى تقدير مضاف أي ليجزيهم أحسن جزاء عملهم أو الذي عملوه حسبما وعد لهم بمقابلة حسنة واحدة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ليكون الأحسن من جنس الجزاء.
وجوز أن يكون الأحسن هو الفعل المجزى عليه أو به الشخص وليس هناك مضاف محذوف والكلام على حذف الجار أي ليجزيهم على أحسن أو بأحسن ما عملوا، وأحسن العمل أدناه المندوب فاحترز به عن الحسن وهو المباح إذ لا جزاء له ورجح الأول بسلامته عن حذف الجار الذي هو غير مقيس في مثل ما نحن فيه بخلاف حذف المضاف فإنه كثير مقيس، وجوز أن يكون المضاف المحذوف قبل «أحسن» أي جزاء أحسن ما عملوا، والظاهر أن المراد بما عملوا أعم مما سبق وبعضهم فسره به وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها ولم يخطر ببالهم كيفياتها ولا كميتها بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: ٢٦]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم حكاية عنه عز وجل «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
إلى غير ذلك من المواعيد الكريمة التي من جملتها قوله سبحانه:
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فإنه تذييل مقرر للزيادة ووعد كريم بأنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب والموصول عبارة عمن ذكرت صفاتهم الجميلة كأنه قيل والله يرزقهم بغير حساب، ووضعه موضع ضميرهم للتنبيه بما في حيز الصلة على أن مناط الرزق المذكور محض مشيئته تعالى لا أعمالهم المحكية كما أنها المناط لما سبق من الهداية لنوره عز وجل وللإيذان بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء سبحانه أن يهديهم لنوره حسبما يعرب عنه ما فصل من أعمالهم الحسنة فإن جميعها من آثار تلك الهداية وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخره عطف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف الذين كفروا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ أي أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة سقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف ونحو ذلك على ما قيل، وقيل أعمالهم التي يظنون الانتفاع بها سواء كان مما يشترط فيها الإيمان كالحج أم كانت مما لا يشترط فيها ذلك كسقاية الحاج وسائر ما تقدم، وقيل المراد بها ما يشمل الحسن والقبيح ليتأتى التشبيهان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك، والسراب بخار رقيق يرتفع من قعور القيعان فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه من بعيد الماء السارب أي الجاري واشترط فيه الفراء اللصوق في الأرض، وقيل هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة، وقيل: هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر يخيل للناظر أنه ماء سارب، قال الشاعر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم | كلمع سراب في الفلا متألق |
وجوز أن يكون هو الصفة وبقيعة ظرفا لما يتعلق به الكاف وهو الخبر والحسبان الظن على المشهور وفرق بينهم الراغب بأن الظن أن يخطر النقيضان بباله ويغلب أحدهما على الآخر والحسبان أن يحكم بأحدهما من غير أن يخطر الآخر بباله فيعقد عليه الأصبع ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك، وتخصيص الحسبان بالظمئان مع شموله كل من يراه كائنا من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشبه الذي هو المطلع والمقطع المؤيس.
وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما «الظمآن» بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم حَتَّى إِذا جاءَهُ أي إذا جاء العطشان ما حسبه ما، وقيل: إذا جاء موضعه لَمْ يَجِدْهُ أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به شَيْئاً أصلا لا محققا ولا مظنونا كان يراه من قبل فضلا عن وجه أنه ماء، ونصب شَيْئاً قيل على الحالية، وأمر الاشتقاق سهل، وقيل على أنه مفعول ثان لوجد بناء على أنها من أخوات ظن، وجوز أن يكون منصوبا على البدلية من الضمير، ويجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا نعت إذا كان مفيدا كما صرح به الرضي، واختار أبو البقاء أنه منصوب على المصدرية كأنه قيل لم يجده وجدانا وهو كما ترى وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ عطف على جملة لَمْ يَجِدْهُ فهو داخل في التشبيه أي ووجد الظمآن مقدوره تعالى من الهلاك عند السراب المذكور، وقيل أي وجد الله تعالى محاسبا إياه على أن العندية بمعنى الحساب لذكر التوفية بعد بقوله سبحانه: فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي أعطاه وافيا كاملا حساب عمله وجزاءه أو أتم حسابه بعرض الكتبة ما قدمه وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله حساب عن حساب.
وفي إرشاد العقل السليم أن بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل قد تم بقوله سبحانه: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، وقوله تعالى: وَوَجَدَ إلخ بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن، ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر للخيبة عنده أصلا فليست الجملة معطوفة على لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم عينا ولا أثرا كما في قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: ٢٣] كيف لا وأن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافعة لهم في الآخرة حتى إذا جاؤوها لم يجدوها شيئا كأنه قيل: حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئا ووجدوا الله أي حكمه وقضاءه عند المجيء، وقيل: عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافيا حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها فإن اعتقادهم لنفعها بغير إيمان وعملهم بموجبه كفر على كفر موجب للعقاب قطعا، وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا إما لإرادة الجنس كالظمآن صفحة رقم 372
الواقع في التمثيل وإما للحمل على كل واحد منهم، وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم انتهى، ولا يخفى ما فيه من البعد وارتكاب خلاف الظاهر.
وأيا ما كان فالمراد بالظمئان مطلق الظمآن، وقيل المراد به الكافر، وإليه ذهب الزمخشري قال: شبه سبحانه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ويجد زبانية الله تعالى عنده يأخذونه فيسقونه الحميم والغساق وكأنه مأخوذ مما
أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي في غرائبه عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردا عطاشا فيقولون أين الماء فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماء فينطلقون إليه فيجدون الله تعالى عنده فيوفيهم حسابهم والله سريع الحساب»
، واستطيب ذلك العلامة الطيبي حيث قال: إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة ولم يطلق لقوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ إلخ لأنه من تتمة أحوال المشبه به، وهذا الأسلوب أبلغ لأن خيبة الكافر أدخل وحصوله على خلاف ما يؤمله أعرق.
وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم من حمل الظمآن على الكافر تشبيه الشيء نفسه، ورد بأن التشبيه على ما ذكره جار الله تمثيلي أو مقيد لا مفرق كما توهم فلا يلزم من اتحاد بعض المفردات في الطرفين تشبيه الشيء بنفسه كاتحاد الفاعل في- أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى-، وبالجملة هو أحسن مما في الإرشاد كما لا يخفى على من سلم ذهنه من غبار العتاد.
والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان تعبد وليس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام ولا يأبى ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لأنه غير خاص بسبب النزول وإن دخل فيه دخولا أوليا، ولا يرد عليه أن الآية مدنية نزلت بعد بدر وعتبة قتل في بدر فإن كثيرا من الآيات نزل بسبب الأموات وليس في ذلك محذور أصلا، ثم لا يبعد أن يكون في حكم هؤلاء الكفرة الفلاسفة ومتبعوهم من المتزينين بزي الإسلام فإن اعتقادهم وأعمالهم حيث لم تكن على وفق الشرع كسراب بقيعة. أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على كَسَرابٍ، وكلمة أو قيل لتقسيم حال أعمالهم الحسنة، وجوز الإطلاق باعتبار وقتين فإنها كالسراب في الآخرة من حيث عدم نفعها وكالظلمات في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق، وخص هذا بالدنيا لقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فإنه ظاهر في الهداية والتوفيق المخصوص بها، والأول بالآخرة لقوله تعالى:
وَوَجَدَ إلخ وقدم أحوال الآخرة التي هي أعظم وأهم لاتصال ذلك بما يتعلق بها من قوله سبحانه: لِيَجْزِيَهُمُ إلخ ثم ذكر أحوال الدنيا تتميما لها.
وجوز أن يعكس ذلك فيكون المراد من الأول تشبيه أعمالهم بالسراب في الدنيا حال الموت، ومن الثاني تشبيهها بالظلمات في القيامة كما
في الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة»
ويكون ذلك ترقيا مناسبا للترتيب الوقوعي وليس بذلك لما سمعت، وقيل للتنويع، وذلك أنه أثر ما مثلت أعمالهم التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد ويفتخرون بها في كل واد وناد بما ذكر من حال السراب مثلت أعمالهم القبيحة التي ليس فيها شائبة خيرية يغتر بها المغترون بالظلمات المذكورة، وزعم الجرجاني أن المراد هنا تشبيه كفرهم فقط وهو كما ترى. والظاهر على التنويع أن يراد من الأعمال في قوله تعالى: أَعْمالُهُمْ ما يشمل النوعين.
واعترض بأنه يأبى ذلك قوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ بناء على دخوله في التشبيه لأن أعمالهم الصالحة وإن سلم أنها لا تنفع مع الكفرة لا وخامة في عاقبتها كما يؤذن به قوله سبحانه: وَوَجَدَ إلخ. وأجيب بأنه ليس فيه ما
يدل على أن سبب العقاب الأعمال الصالحة بل وجد أن العقاب بسبب قبائح أعمالهم لكنها ذكرت جميعها لبيان أن بعضها جعل هباء منثورا وبعضها معاقب به، وجوز أن تكون للتخيير في التشبيه لمشابهة أعمالهم الحسنة أو مطلقا السراب لكونها لاغية لا منفعة فيها، والظلمات المذكورة لكونها خالية عن نور الحق، واختاره الكرماني.
واعترض بأن الرضي كغيره ذكر أنها لا تكون للتخيير إلا في الطلب. وأجيب بأنه وإن اشتهر ذلك فقد ذهب كثير إلى عدم اختصاصه به كابن مالك والزمخشري ووقوعه في التشبيه كثير، وأيا ما كان فليس في الكلام مضاف محذوف. وقال أبو علي الفارسي: فيه مضاف محذوف والتقدير أو كذي ظلمات، ودل عليه ما يأتي من قوله سبحانه: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ والتشبيه عنده هنا يحتمل أن يكون للأعمال على نمط التشبيه السابق ويقدر أو كأعمال ذي ظلمات. ويحتمل أن يكون للكفرة ويقدر أو هم كذي ظلمات والكل خلاف الظاهر، وأمر الضمير سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
وقرأ سفيان بن حسين «أوكظلمات» بفتح الواو، ووجه ذلك في البحر بأنه جعلها واو عطف تقدمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام. وقيل هي أَوْ التي في قراءة الجمهور وفتحت الواو للمجاورة كما كسرت الدال لها في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ على بعض القراءات فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر. وقيل اللجة وهي أيضا معظمه وهو صفة بَحْرٍ وكذا جملة قوله تعالى: يَغْشاهُ أي يغطي ذلك البحر ويستره بالكلية مَوْجٌ وقدمت الأولى لإفرادها. وقيل الجملة صفة ذي المقدر والضمير راجع إليه، وقد علمت حال ذلك التقدير وقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ جملة من مبتدأ وخبر محلها الرفع على أنها صفة لموج أو الصفة الجار والمجرور وما بعده فاعل له لاعتماده على الموصوف. والمراد يغشاه أمواج متراكمة متراكبة بعضها على بعض، وقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ صفة لموج الثاني على أحد الوجهين المذكورين أي من فوق ذلك الموج سحاب ظلماني ستر أضواء النجوم، وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعفها حتى كأنها بلغت السحاب ظُلُماتٌ خبر مبتدأ محذوف أي هي ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ أي متكاثفة متراكمة، وهذا بيان لكمال شدة الظلمات كما أن قوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ بيان لغاية قوة النور خلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به كما يعرب عنه ما بعده.
وأجاز الحوفي أن يكون ظُلُماتٌ مبتدأ خبره قوله تعالى: بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ. وتعقبه أبو حيان وتبعه ابن هشام بأن الظاهر أنه لا يجوز لما فيه من الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلا أن يقدر صفة لها يؤذن بها التنوين أي ظلمات كثيرة أو عظيمة وهو تكلف. وأجاز أيضا أن يكون بَعْضُها بدلا من ظُلُماتٌ. وتعقب بأنه لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله تعالى أعلم الإخبار بأنها ظلمات وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة لا الإخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة متراكمة. وقرأ قنبل «ظلمات» بالجر على أنه بدل من ظُلُماتٌ الأولى لا تأكيد لها. وجملة بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ في موضع الصفة له. وقرأ البزي «سحاب ظلمات» بإضافة سحاب إلى ظلمات وهذه الإضافة كالإضافة في لجين الماء أو لبيان أن ذلك السحاب ليس سحاب مطر ورحمة.
إِذا أَخْرَجَ أي من ابتلى بها، وإضماره من غير ذكر لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة. وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ظُلُماتٌ واحتج إليه لأن جملة إِذا أَخْرَجَ إلخ في موضع الصفة لظلمات ولا بد لها من رابط ولا يتعين ما أشرنا إليه. وقيل: ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل على حد
«لا يشرب الخمر وهو
مؤمن»
أي إذا أخرج المخرج فيها يَدَهُ وجعلها بمرأى منه قريبة من عينيه لينظر إليها لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقرب من رؤيتها وهي أقرب شيء إليه فضلا عن أن يراها. وزعم ابن الأنباري زيادة يَكَدْ. وزعم الفراء والمبرد أن المعنى لم يرها إلا بعد الجهد فإنه قد جرى العرف أن يقال: ما كاد يفعل ولم يكد يفعل في فعل قد فعل بجهد مع استبعاد فعله وعليه جاء قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: ٧١] ومن هنا خطأ ابن شبرمة ذا الرمة بقوله:
ذا غير النأي المحبين لم يكد | رسيس الهوى من حب مية يبرح |
وقد علم أن كاد موضوعة لشدة قرب الفعل من الوقوع ومشارفته فمحال أن يوجب نفيه وجود الفعل لأنه يؤدي إلى أن يكون ما قارب كذلك فالنظر إلى أنه إذا لم يكن المعنى على أن ثمت حالا يبعد معها أن تكون ثم تغيرت كما في قوله تعالى: فَذَبَحُوها إلخ يلتزم الظاهر ويجعل المعنى أن الفعل لم يقارب أن يكون فضلا عن أن يكون والآية على ذلك وكذا البيت، وقد ذكر أن لم يكد فيهما جواب إِذا فيكون مستقبلا وإذا قلت: إذا خرجت لم أخرج فقد نفيت خروجا في المستقبل فاستحال أن يكون المعنى فيهما على أن الفعل قد كان.
وهذا التحقيق خلاصة ما حقق الشيخ في دلائل الإعجاز، ومنه يعلم تخطئة من زعم أن كاد نفيها إثبات وإثباتها نفي.
وفي الحواشي الشهابية أن نفي كاد على التحقيق المذكور أبلغ من نفي الفعل الداخلة عليه لأن نفي مقاربته يدل على نفيه بطريق برهاني إلا أنه إذا وقع في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل وربما أشعر بأنه وقع بعد اليأس منه كما في آية البقرة، وإذا وقع في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي فإن قامت قرينة على ثبوته فيه أشعر بأنه انتفى وأيس منه بعد ما كان ليس كذلك كما في هذه الآية فإنه لشدة الظلمة لا يمكنه رؤية يده التي كانت نصب عينيه، ثم فرع على هذا أن لك أن تقول: إن مراد من قال: إن نفيها إثبات وإثباتها نفي أن نفيها في الماضي يشعر بالثبوت في المستقبل وعكسه كما سمعت، وهذا وجه تخطئة ابن شبرمة وتغيير ذي الرمة لأن مراده أن قديم هواها لم يقرب من الزوال في جميع الأزمان ونفيه في المستقبل يوهم ثبوته في الماضي فلا يقال: إنهما من فصحاء العرب المستشهد بكلامهم فكيف خفي ذلك عليهما ولذا استبعده في الكشف وذهب إلى أن قصتهما موضوعة أوصى بحفظ ذلك حيث قال: فاحفظه فإنه تحقيق أنيق وتوفيق دقيق سنح بمحض اللطف والتوفيق انتهى.
ولعمري أن ما أول به كلام القائل بعيد غاية البعد ولا أظنه يقع موقع القبول عنده ونفى كل فعل في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل ونفيه في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي ولا اختصاص لكاد بذلك فيا ليت شعري هل دفع الإيهام ما غير إليه ذو الرمة بيته فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن مانع الرؤية شدة الظلمة وهو كذلك لأن شرط الرؤية بحسب العادة في هذه النشأة الضوء سواء كانت بمحض خلق الله تعالى كما ذهب إليه أهل الحق أو كانت بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط مصمت أو مؤلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس أو لا على هيئة مخروط بل على استواء لكن مع ثبوت طرفه الذي يلي العين واتصاله بالمرئي أو بتكيف الشعاع الذي في العين بكيفية الهواء وصيرورة الكل آلة للرؤية كما ذهب إليه فرق الرياضيين أو كانت صفحة رقم 375
بانطباع شبح المرئي في جزء من الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد كما ذهب إليه الطبيعيون، وهذان المذهبان هما المشهوران للفلاسفة ونسب للإشراقيين منهم.
واختاره شهاب الدين القتيل أن الرؤية بمقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقلية وإذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم إشراقي حضوري على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية بلا شعاع ولا انطباع، واختار الملا صدرا أنها بإنشاء صورة مماثلة للمرئي بقدرة الله تعالى من عالم الملكوت النفساني مجردة عن المادة الخارجية حاضرة عند النفس المدركة قائمة بها قيام الفعل بفاعله لا قيام المقبول بقابله، وتحقيق ذلك بما له وما عليه في مبسوطات كتب الفلسفة. وربما يظن أن الظلمة سواء كانت وجودية أو عدم ملكة من شروط الرؤية كالضوء لكن بالنسبة إلى بعض الأجسام كالأشياء التي تلمع بالليل. ونفى ابن سينا ذلك وقال: لا يمكن أن تكون الظلمة شرطا لوجود اللوامع مبصرة وذلك لأن المضيء مرئي سواء كان الرائي في الظلمة أو في الضوء كالنار نراها مطلقا، وأما الشمس فإنما لا يمكننا أن نراها في الظلمة لأنها متى طلعت لم تبق الظلمة، وأما الكواكب واللوامع فإنما ترى في الظلمة دون النهار لأن ضوء الشمس غالب على ضوئها وإذا انفعل الحس عن الضوء القوي لا جرم لا ينفعل عن الضعيف، فأما في الليل فليس هناك ضوء غالب على ضوئها فلا جرم ترى، وبالجملة فصيرورتها غير مرئية ليس لتوقف ذلك على الظلمة بل لوجود المانع عن الرؤية وهو وجود الضوء الغالب انتهى، ويمكن أن يقال: إن ضوء الشمس على ما ذكر مانع عن رؤية اللوامع ورفع مانع الرؤية شرط لها ودفع الضوء هو الظلمة فالظلمة شرط رؤية اللوامع بالليل وهو المطلوب فتدبر ولا تغفل والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ اعتراض تذييلي جيء به لتقرير ما أفاده التمثيل من كون أعمال الكفار كما فصل وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم لنوره، وإيراد الموصول للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى هدايتهم أي من لم يشأ الله تعالى أن يهديه الله سبحانه لنور في الدنيا فما له هداية ما من أحد أصلا فيها، وقيل: معنى الآية من لم يكن له نور في الدنيا فلا نور له في الآخرة. وقيل: كلا الأمرين في الآخرة، والمعنى من لم ينوره الله تعالى بعفوه ويرحمه برحمته يوم القيامة فلا رحمة له من أحد فيها والمعول عليه ما تقدم. والظاهر أن المراد تشبيه أعمال الكفرة بالظلمات المتكاثفة من غير اعتبار أجزاء في طرفي التشبيه يعتبر تشبيه بعضها ببعض، ومنهم من اعتبر ذلك فقال: الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة والبحر اللجي صدر الكافر وقلبه والموج الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبه والموج الثاني الفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان. وقيل: الظلمات أعمال الكافر والبحر هواه العميق القعر الكثير لخطر الغريق هو فيه والموج ما يغشى قلبه من الجهل والغفلة. والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء والكل كما ترى ولو جعل من باب الإشارة لهان الأمر.
ومن باب الإشارة ما قيل إن في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى أنه ينبغي للشيخ إذا أراد تأديب المريد وكسر نفسه الأمارة أن يؤدبه بمحضر طائفة من المريدين الذين لا يحتاجون إلى تأديب.
ومن هنا قال أبو بكر بن طاهر: لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب وهم طائفة من المؤمنين لا المؤمنون أجمع، والزنا عندهم إشارة إلى الميل للدنيا وشهواتها، وفي قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً إلخ. وقوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ إلخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للأخيار معاشرة الأشرار إن الطيور على أشباهها تقع. وفي
قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يشنع عليه المنكرون من المشايخ أن يحزن من ذلك ويظنه شرا له فإنه خير له موجب لترقيه.
وفي قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ إلخ إشارة إلى أنه ينبغي للشيوخ والأكابر أن لا يهجروا أصحاب العثرات وأهل الزلات من المريدين وأن لا يقطعوا إحسانهم وفيوضاتهم عنهم، وفي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه بالاستئناس فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره ذلك، وأطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم فقال: ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من الأدب ويجمع حواسه ويعتمد بقلبه طالبا الإذن ويجعل شيخه واسطة بينه وبين الولي المزور في ذلك فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني فليدخل وإلّا فليرجع، وهذا هو المعني بأدب الزيارة عندهم ولم نجد ذلك عن أحد من السلف الصالح. والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي الله تعالى عنهم ينادي أحدهم أأدخل يا أمير المؤمنين أو يا ابن بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام أو نحوه ذلك ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين وهو أيضا مما لم نعرفه عن أحد من السلف ولا ذكره فقهاؤنا وما أظنه إلا بدعة ولا يعد فاعلها إلا مضحكة للعقلاء، وكون المزور حيا في قبره لا يستدعي الاستئذان في الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور كما يتأدب معه حيا كما لا يخفى. وقد رأيت بعد كتابتي هذه في الجوهر المنتظم في زيارة القبر المعظم صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه، قال بعضهم: وينبغي أن يقف- يعني الزائر- بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء انتهى.
وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى. ومنه يعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى فاحفظ ذاك والله تعالى يعصمنا من البدع وإياك. وقيل في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ إلخ إن فيه أمرا بغض بصر النفس عن مشتهيات الدنيا وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة وبصر السر عن الدرجات والقربات وبصر الروح عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى وبصر الهمة عن أن يرى نفسه أهلا لشهود الحق تنزيها له تعالى وإجلالا، وأمرا بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه، والإشارة بأمر النساء بعدم إبداء الزينة إلا لمن استثنى إلى أنه لا ينبغي لمن تزين بزينة الأسرار أن يظهرها لغير المحارم ومن لم يسترها عن الأجانب. وبقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ إلخ إلى النكاح المعنوي وهو أن يودع الشيخ الكامل في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الإلهي. وقد أشير إلى هذا الاستعداد بقوله سبحانه: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ثم قال جل وعلا: وَلْيَسْتَعْفِفِ أي ليحفظ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ شيخا في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ بأن يوفق لهم شيخا كاملا أو يخصهم سبحانه بجذبة من جذباته، وأشير بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ إلخ إلى أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الخير وهو التوحيد والمعرفة والتوكل والرضا والقناعة وصدق العمل والوفاء بالعهد ووجب أن يؤتي بعض المواهب (١) التي خصها الله تعالى بها الشيخ، وأشير بقوله تعالى: