
عمله وحفظ الفرج أَزْكى لَهُمْ أي أبعد لهم عن دنس الريبة، وأصلح من كل شيء نافع. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) من إجالة النظر وتحريك الجوارح للحظوظ وللحقوق.
وقدم الأمر بمنع البصر على الأمر بحفظ الفرج، لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أكثر.
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بالتّصون عن الزنا، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ وهي ثلاثة أمور:
أحدها: الثياب.
وثانيها: الحلي كالخاتم والسوار والخلخال، والدملج، والقلادة، والإكليل، والوشاح، والقرط.
وثالثها: الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها، والغمزة في خديها، والحناء في كفيها وقدميها. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأمور التي لا بد منها عادة كالخاتم والكحل، والخضاب في اليدين، والغمزة، والثياب. والسبب في تجويز النظر إليها إن في سترها حرجا بينا، لأن المرأة لا بد لها من مناولة الأشياء بيديها والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة، والمحاكمة والنكاح، وفي ذلك مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها كما لا يخفى. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي وليرخين قناعهن على صدورهن. وقد كانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن، فتظهر نحورهن وقلائدهن من جيوبهن، فأمرن بإرسال مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الخفية المنهية عن إبدائها للأجانب إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فإنهن المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الموضع المعهود، ولكنه يكره نظره أَوْ آبائِهِنَّ وإن علون من جهة الذكران والإناث، أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ في النسب أو اللبن أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ من غيرهن وإن سفلوا، أَوْ إِخْوانِهِنَّ في النسب أو اللبن أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ كذلك، لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن فلهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند الخدمة، وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهن، أَوْ نِسائِهِنَّ المختصة بهن من جهة الاشتراك في الحدين وهي حرائر المؤمنات أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من الإماء دون العبيد فإنهم بمنزلة الأجانب من ساداتهم. وقيل: من الإماء والعبيد فيجوز لهن أن يكشفن لهم ما عدا ما بين السرة والركبة، وينظروا له وكذا العكس وذلك بشرط العفة، وعدم الشهوة من الجانبين أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم ولا حاجة لهم إلى النساء، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمورهن. أو شيوخ صلحائهم قد ذهبت شهوتهم إذا كانوا معهن، غضوا أبصارهم، أو الممسوحون وهم ذاهبوا الذكر والأنثيين.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر «غير» بالنصب على الاستثناء والحال. أَوِ

الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ
أي الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء، ولم يدروا ما هي لعدم تمييزهم- كما قاله ابن قتيبة- أو الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء- كما قاله الفراء والزجاج- فيجوز أن يبدين للتابعين والأطفال ما عدا ما بين السرة والركبة. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي لا يضربن الأرض بأرجلهن ليتقعقع خلخالهن فيعلم أنهن ذوات خلخال، ومن فعل ذلك منهن بحليهن فهو مكروه، ومن فعل ذلك منهن تبرجا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال إن فعل ذلك عجبا حرم، فإن العجب كبيرة وإن فعل ذلك تبرجا لم يحرم. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) أي توبوا من نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة، أي فإنه وإن جب بالإسلام لكن يجب الندم عليه، والعزم على تركه كلما خطر بباله كما قال بعض العلماء: من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكره أن يجدد التوبة، لأنه يلزم أن يستمر على ندمه إلى أن يلقى ربه.
وقرأ ابن عامر هنا، وفي «الزخرف»، وفي «الرحمن» بضم الهاء وصلا، ووجهه أن الهاء كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين استثقلت الفتحة على حرف خفي، فضمت الهاء اتباعا للرسم واتباعا لحركة ما قبلها، وقد رسمت هذه الثلاثة دون ألف، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف. والباقون بدونها ابتاعا للرسم، فالرسم سنة متبعة.
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ أي زوجوا أيها الأولياء والسادات من لا زوج له من الأحرار والحرائر وَالصَّالِحِينَ لأمر النكاح مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ليحصن دينهم وهم الذين تنزلونهم منزلة الأولاد في المودة، وفي بذل المال والمنافع، وعدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر، لأن الغالب فيهم الصلاح لمساعدة الأولياء لهم، ولأنهم مستقلون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم إِنْ يَكُونُوا أي الأحرار فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، أي لا تنظروا إلى فقراء أحد الجانبين، الخاطب والمخطوبة، ففي فضل الله ما يغني عن المال، فإنه غاد ورائح، يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب، وَاللَّهُ واسِعٌ أي ذو سعة لخلقه، عَلِيمٌ (٣٢) بمقادير ما يصلحهم من الرزق، يبسطه لمن يشاء ويضيق وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي وليجتهد في قمع الشهوة من لا يتمكنون من الوصول إلى النكاح حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي فمن لا يتمكن من المال فليطلب العفة عن الحرام ولينتظر أن يوصله الله إلى بغيته من النكاح وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي والذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم وإمائكم ليصيروا أحرارا فَكاتِبُوهُمْ أي فصيروهم أحرارا بعقد الكتابة، والاسم الموصول منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور. إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي وفاء بأداء مال الكتابة، وصلاحا لا يؤذي الناس بعد العتق.

وهذا لندب الكتابة وليس لشرط الصحة. وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أي حطوا أيها السادة عن المكاتبين جزءا من مال الكتابة، أو ادفعوا إليهم جزءا مما أخذ منهم. وذلك للندب عند مالك وأبي حنيفة، وللوجوب عند الشافعي. وقيل: هو أمر بإعطاء سهمهم من الزكوات، فالأمر للوجوب حتما. وقيل: هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.
وروي أن غلاما لحويطب بن عبد العزى يقال له: صبيح سأله أن يكاتبه فأبى عليه، فنزلت هذه الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ
أي ولا تجبروا إماءكم على الزنا إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي تعففا عن الزنا، فالتقييد بهذا الشرط لأجل تحقق الإكراه المنهي عنه، لأنه لا يتحقق إلا عند إرادة التحصن. أما عند ميلهن للزنا فهو باختيارهن فلا يتصور الإكراه حينئذ. وفائدة الشرط بالمبالغة في النهي عن الإكراه أي إنهن إن أردن العفة فالسيد أحق بإرادتها وفي ذلك إشارة على أن السادة إكراههن على النكاح فليس للأمة أن تمتنع على السيد إذا زوجها لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتطلبوا بالإكراه الأمول بكسبهن وأولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ على الزنا فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) لهن لأنهن آثمات لأن الزنا لا يباح بإكراه.
روي أنه كان لعبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين ست جوار معاذة، ومسيكة، وأميمة وعمرة، وأروى، وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب، فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية وقيل: إن عبد بن أبي أسر رجلا فراود الأسير جارية عبد الله وكانت الجارية مسلمة، فامتنعت لإسلامها وأكرهها ابن أبي على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده فنزلت هذه الآية: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ.
قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بكسر الياء أي مبينات لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود، وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك. والباقون بفتحها، أي موضحات في هذه السورة من معاني الأحكام والحدود وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي وأنزلنا مثلا كائنا من نوع أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمة الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام، فتنتظم قصة عائشة لقصة يوسف وقصة مريم، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة انتظاما واضحا ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها، وبرأ عائشة بتلك الآيات العظام. وَمَوْعِظَةً تنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات، وسائر ما يخل بمحاسن الآداب لِلْمُتَّقِينَ (٣٤). وهذا حث للمخاطبين على الاغتنام بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثار الموعظة، المقتبسون من أنوارها، ثم ذكر الله تعالى مثلين:

أحدهما: في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور.
والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في غاية الظلمة. أما المثل الأول فقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
قال ابن عباس: أي الله هادي أهل السموات والأرض، فهم بنوره يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون، فمعنى النور هو الهداية، أي ذو نور، أي ذو هداية مَثَلُ نُورِهِ أي صفة النور الفائض من الله تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن كَمِشْكاةٍ أي كصفة كوة غير نافذة في الجدار في الإضاءة والتنوير، فِيها مِصْباحٌ أي سراج ضخم ثاقب. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي قنديل من الزجاج الصافي الأزهر. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي متلألئ وقّاد، شبيه بالدر في صفائه وزهرته. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على صيغة الماضي. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية، وسكون الواو على المضارع المبني للمفعول. وعن نافع وحفص بياء كذلك. وعن عاصم بياء مضمومة وفتح الواو، وتشديد القاف و «زيتونة» بدل من «شجرة»، و «لا شرقية» صفة لها، أي يبتدئ إيقاد المصابيح، وفتيلة الزجاج من زيت شجرة كثيرة المنافع، تبرز على جبل عال، أو صحراء واسعة فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب، أي تقع الشمس عليها طول النهار، لا شرقية وحدها، ولا غربية وحدها ولكنها شرقية وغربية. وكان زيتها الصفاء. وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، واختيار الفراء والزجاج.
وقال ابن عباس: في الزيتون منافع يسرج بزيته وهو إدام ودهان، ودباغ، ووقود يوقد بحطبه وثفله وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة حتى الرماد يغسل به الإبريسم، وهو أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة ثبتت بعد الطوفان، ونبتت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة، ودعا له سبعون نبيا بالبركة منهم إبراهيم ومنهم محمد صلّى الله عليه وسلّم
فإنه قال مرتين: «اللهم بارك في الزيت والزيتون»
«١».
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ وهذه الجملة صفة ل «شجرة» أي يقرب زيت تلك الشجرة يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا لصفائه.
قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإن الزيت إذا كان خالصا رؤي من بعيد كأن له شعاعا فإذا مسته النار إزداد ضوءا على ضوئه، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء العلم ازداد

نورا على نور، وهدى على هدى كقلب إبراهيم عليه السلام من قبل أن تجيئه المعرفة، أي قبل أن يخبره أحد بأن له ربا، فإنه قال: هذا ربي، فلما أخبره الله بأنه ربه وقال له: أسلم زاد هدى وقال:
أسلمت لرب العالمين. نُورٌ عَلى نُورٍ أي نور حاصل بالزيت، كائن مع نور بالنار في قنديل، فالزيت نور، والقنديل نور والمصباح نور فالمشكاة التي هي الطاقة غير النافذة أجمع للنور فيكون فيها أقوى مما لو كانت نافذة، فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كان أضوأ وأجمع لنوره بخلاف المكان المتسع، فإن الضوء ينتشر فيه، فالقنديل أعون على زيادة الإنارة، وكذلك ضوء الزيت. والمعنى: ذلك القرآن نور عظيم كائن على نور عظيم متضاعف من غير تحديد كتضاعف نور المشكاة بما ذكر يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يهدي الله لنوره المتضاعف، وهو القرآن من يشاء هدايته من عباده هداية موصلة إلى المطلوب، بأن يوفقهم لفهم ما فيه من دلائل حقيقته من الأخبار عن الغيب، وغير ذلك من موجبات الإيمان. فالله تعالى بين الدلائل حتى بلغت في الوضوح إلى الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه. فوضوح الدلائل لا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان والعلم. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ كافة تقريبا للمعقول من المحسوس. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو خفيا. فِي بُيُوتٍ صفة ل «مشكاة»، أي كمشكاة فيها مصباح في بيت من بيوت الله، أو صفة لزجاجة. والمعنى: ذلك القنديل معلق في مساجد أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ أي أمر الله أن نبنى رفيعة وتطهر عن الأنجاس والأقذار، وقد كره بعض العلماء تعليم الصبيان في المساجد ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والأوساخ فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتنظيفها وتطييبها
فقال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وجمروها في الجمع، واجعلوا لها على أبوابها المطاهر»
«١». وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ بجميع أذكاره تعالى.
وقال ابن عباس: يتلى في المساجد كتابه تعالى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ.
وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم بالبناء للمفعول ونائب الفاعل لفظ له، و «رجال» فاعل لفعل مقدر، أو خبر مبتدأ محذوف أي يسبح له رجال أو المسبح رجال، والوقف على الآصال حسن. والباقون بالبناء للفاعل و «رجال» فاعل ولا يوقف على «الآصال» لعدم تمام الكلام والصلاة التي تؤدي في الغداة صلاة الصبح، وفي العشي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وقرئ و «الإيصال» أي الدخول في الأصيل لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ولا فرد من أفراد البياعات عن حضور المساجد لطاعة الله،

وعن أداء الصلاة في وقتها جماعة. روى سالم عن ابن عمر رضي الله عنهم أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس، أغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد. فقال ابن عمر: نزلت هذه الآية في شأنهم.
وروي عن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى لا يقصد إلا ذلك كان أجره كأجر المعتمر»
«١».
وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد يؤثره على ما سواه إلا وله عند الله نزل يعد له في الجنة»
«٢».
وفي رواية سهل بن سعد مرفوعا: «من غدا إلى المسجد وراح ليعلم خيرا وليتعلمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله يرجع غانما»
«٣»، وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي وعن إعطاء المال الذي فرض إخراجه للمستحقين.
قال ابن عباس: إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) أي يخافون يوما تتقلب في ذلك اليوم القلوب بين طمع في النجاة وخوف من الهلاك وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤمر بهم أمن ناحية اليمين، أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ أي فإنهم وإن بالغوا في ذكر الله تعالى والطاعات خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته، ف «يخافون»، صفة ثانية ل «رجال» أو حال من مفعول «لا تلهيهم» و «يوما» مفعول به و «تتقلب» صفة له لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي أحسن جزاء أعمالهم بحسب وعده لهم من أن حسنة واحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وقوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق بمحذوف، أي أيفعلون هذه القربات ليجزيهم الله ف «اللام» لام العاقبة والصيرورة وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لم يستحقوه بأعمالهم وما لم يخطر ببالهم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) أي فالله يعطيهم غير جزاء أعمالهم مما لا يفي به الحساب، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أن مناط الرزق محض مشيئته تعالى، وللإعلام بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء الله تعالى أن يهديهم لنوره، فإن جميع ما ذكر من أعمالهم الحسنة مقتبس من القرآن الذي هو المراد بالنور، وبذلك يتم أحوال من اهتدى بهداه على أوضح وجه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ أي من أنواع البر كصدقة وعتق ووقف ونحو ذلك من كل ما لا يتوقف على نية، كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ أي في أرض منبسطة. والسراب: ما يتراءى في
(٢) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠: ٢٤) بما معناه.
(٣) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٨: ٣١)، والطبراني في المعجم الكبير (١٠:
٢٤١).