
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النّورهذه السورة كلها مدنية.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)قوله سُورَةٌ قرأ الجمهور، «سورة» بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر ومجاهد «سورة» بالنصب، وروي ذلك أيضا عن عمر بن عبد العزيز وعن أبي الدرداء، فوجه الرفع خبر ابتداء مضمر تقديره هذه سورة، أو ابتداء وخبره مقدم تقديره فيما يتلى عليكم، ويحتمل أن يكون قوله «سورة» ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة، فحسن الابتداء لذلك ويكون الخبر في قوله: الزَّانِيَةُ وفيما بعد ذلك، والمعنى السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم ولكن يلحق هذا القول: إن كون الابتداء هو الخبر ليس بالبين إلا أن نقدر الخبر في السورة بأسرها وهذا بعيد في القياس، وقول الشاعر «فارس ما تركوه»، ووجه النصب إضمار فعل قدره بعضهم اتلوا سورة أو نحوه، وجعله بعضهم أنزلنا سُورَةٌ أَنْزَلْناها، وقال الفراء هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه، وقرأ جمهور الناس «وفرضناها» بتخفيف الراء، ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وجوهه إذ هو مشبه بالفرض في الأجرام، وقرأ مجاهد وغيره وأبو عمرو وابن كثير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود «وفرّضناها» بشد الراء ومعناه جعلناها فرائض فرائض، فمن حيث تردد ذلك ضعّف الفعل للمبالغة والتكثير، وقرأ الأعمش «وفرضناها لكم»، وحكى الزهراوي عن بعض العلماء أنه قال كل ما في السورة من أمر ونهي فرض لا حض بهذه اللفظة، و «الآيات البينات» أمثالها ومواعظها وأحكامها، وقال الزهراوي المعنى ليس فيها مشكل تأويلها موافق لظاهرها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تحكم، وقوله لَعَلَّكُمْ أي على توقع البشر ورجائهم، وقرأ جمهور الناس «الزانية» بالرفع، وقرأ عيسى الثقفي «الزانية» بالنصب وهو أوجه عند سيبويه لأنه عنده كقولك زيدا أضرب، ووجه الرفع عنده خبر ابتداء تقديره فيما يتلى عليكم الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، وأجمع الناس على صفحة رقم 160

الرفع، وإن كان القياس عند سيبويه النصب، وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه والخبر في قوله فَاجْلِدُوا لأن المعنى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي مجلودان بحكم الله تعالى وهذا قول جيد وهو قول أكثر النحاة، وإن شئت قدرت الخبر ينبغي أن يجلدا، وقرأ ابن مسعود «والزان» بغير ياء، وقدمت الزَّانِيَةُ في اللفظ من حيث كان في ذلك الزمن زنى النساء أفشى وكان لأمراء العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك وإذا العار بالنساء ألحق إذ موضعهن الحجبة والصيانة، فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما، والألف واللام في قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي للجنس وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة وهذه الآية باتفاق ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء، وجماعة العلماء على عموم هذه الآية وأن حكم المحصنين منسوخ منها، واختلفوا في الناسخ فقالت فرقة الناسخ السنة المتواترة في الرجم، وقالت فرقة بل القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي حكمه وهو الذي قرأه عمر في المنبر بمحضر الصحابة: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»، وقال إنا قرأناه في كتاب الله، واتفق الجميع على أن لفظه رفع وبقي حكمه، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه ليس في هذه الآية نسخ بل سنة الرجم جاءت بزيادة، فالمحصن، على رأي هذه الفرقة يجلد ثم يرجم، وهو قول علي بن أبي طالب وفعله بشراحة ودليلهم قول النبي ﷺ «والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»، ويرد عليهم فعل النبي ﷺ حيث رجم ولم يجلد، وبه قال جمهور الأمة إذ فعله كقوله رفع الجلد عن المحصن وقال ابن سلام وغيره هذه الآية خاصة في البكرين.
قال الفقيه الإمام القاضي: لأنه لم يبق من هذا حكمه إلا البكران واستدلوا على ذلك بقول النبي ﷺ «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»، وبقوله «على ابنك جلد مائة»، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج الإماء والعبيد وغيرهم منها، وقد تقدم بسط كثير من هذه المعاني في سورة النساء، و «الجلد» يكون والمجلود قاعد، عند مالك ولا يجزىء عنده إلا في في الظهر، وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف وهو قول علي بن أبي طالب ويفرق الضرب على كل الأعضاء، وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل، ويترجح قول مالك رحمه الله بقول النبي ﷺ «البينة أو حد في ظهرك»، وقول عمر: أو لأوجعن مثناك، ويعرى الرجل عند مالك والنخعي وأبي عبيدة بن الجراح وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي وغيرهم يرون أن يضرب على قميص وهو قول عثمان وابن مسعود أيضا، وأما المرأة فتستر قولا واحدا، وقرأ الجمهور «رأفة» همزة ساكنة على وزن فعلة، وقرأ ابن كثير «رأفة» على وزن فعله بفتح العين، وقرأ عاصم أيضا «رأفة» على وزن فعالة كسآمة وكآبة، وهذه مصادر أشهرها الأولى من رأف إذا أرق ورحم، وقرأ الجمهور «تأخذكم» بالتاء من فوق، وقرأ أبو عبد الرحمن «يأخذكم» بالياء من تحت واختلف الناس في الرأفة المنهي عنها فيم هي فقال أبو مجلز ولا حق بن حميد ومجاهد وعكرمة وعطاء هي في إسقاط الحد أي أقيموه، ولا بد وهذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما ومن رأيهم أن الضرب في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد، وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما «الرأفة» المنهي عنها هي في تخفيف الضرب عن الزناة، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الخمر والفرية، ويشتد ضرب الزنا، وقال سليمان بن يسار