سورة النّور
مدنية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وحكى أبو حيان الإجماع على مدنيتها ولم يستثن الكثير من آيها شيئا، وعن القرطبي أن آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ [النور: ٥٨] إلخ مكية، وهي اثنتان وستون آية، وقيل أربع وستون آية، ووجه اتصالها بسورة المؤمنين أنه سبحانه لما قال فيها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [المؤمنون: ٥] ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنا والاستئذان الذي إنما جعل من أجل النظر وأمر فيها بالإنكاح حفظا للفرج وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا.
وقال الطبرسي في ذلك: إنه تعالى لما ذكر فيما تقدم أنه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر والنهي ذكر جل وعلا هاهنا جملة من الأوامر والنواهي ولعل الأول أولى،
وجاء عن مجاهد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نساءكم سورة النور»
وعن حارثة بن مضرب رضي الله تعالى عنه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
سُورَةٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة وأشير إليها بهذه تنزيلا لها منزلة الحاضر المشاهد، وقوله تعالى:
أَنْزَلْناها مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة من حيث الذات بالفخامة من حيث الصفات على ما ذكره شيخ الإسلام، والقول بجواز أن تكون للتخصيص احترازا عما هو قائم بذاته تعالى ليس بشيء أصلا كما لا يخفى.
وجوز أن تكون سُورَةٌ مبتدأ محذوف الخبر أي ما يتلى عليكم أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها إلخ، وذكر بعضهم أنه قصد من هذه الجملة الامتنان والمدح والترغيب لا فائدة الخبر ولا لازمها وهو كون المخبر عالما
بالحكم للعلم بكل ذلك، والكلام فيما إذا قصد به مثل هذا إنشاء على ما اختاره في الكشف وهو ظاهر قول الإمام المرزوقي في قوله قومي هم قتلوا أميم أخي هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار، واختار آخرون أن الجملة خبرية مراد بها معناها إلا أنها إنما أوردت لغرض سوى إفادة الحكم أو لازمه وإليه ذهب السالكوتي، وأول كلام المروزي بأن المراد بالإخبار فيه الإعلام، وتحقيق ذلك في موضعه، واعترض شيخ الإسلام هذا الوجه بما بحث فيه.
وجوز ابن عطية أن تكون سُورَةٌ مبتدأ والخبر قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ وفيه من البعد ما فيه والوجه الوجيه هو الأول، وعندي في أمثال هذه الجمل أن الإثبات فيها متوجه إلى القيد، وقد ذكر ذلك الشيخ عبد القاهر وهو هنا إنزالها وفرضها، وإنزال آيات بينات فيها لأجل أن يتذكر المخاطبون أو مرجوا تذكرهم فتأمل.
وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء «سورة» بالنصب على أنها مفعول فعل محذوف أي اتل، وقدر بعضهم اتلوا بضمير الجمع لأن الخطابات الآتية بعده كذلك وليس بلازم لأن الفعل متضمن معنى القول فيكون الكلام حينئذ نظير قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ [آل عمران: ٣٢] ولا شك في جوازه.
وجوز الزمخشري أن تكون نصبا على الإغراء أي دونك سورة، ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء لضعفها في العمل لما أن عملها بالحمل على الفعل، وكلام ابن مالك يقتضي جوازه وزعم أنه مذهب سيبويه وفيه بحث، وجوز غير واحد كون ذلك من باب الاشتغال وهو ظاهر على مذهب من لا يشترط في المنصوب على الاشتغال صحة الرفع على الابتداء وأما على مذهب من يشترط ذلك فغير ظاهر لأن «سورة» نكرة لا مسوغ لها فلا يجوز رفعها على الابتداء، ولعل من يشترط ذلك ويقول بالنصب على الاشتغال هنا يجعل النكرة موصوفة بما يدل عليه التنوين كأنه قيل: سورة عظيمة كما قيل:- شر أهر ذا ناب-.
وقال الفراء: نصب «سورة» على أنها حال من ضمير النصب في أَنْزَلْناها والحال من الضمير يجوز أن يتقدم عليه انتهى، ولعل الضمير على هذا للأحكام المفهومة من الكلام فكأنه قيل: أنزلنا الأحكام سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن وإلى هذا ذهب في البحر، وربما يقال: يجوز أن يكون الضمير للسورة الموجودة في العلم من غير ملاحظة تقييدها بوصف، و «سورة» المذكورة موصوفة بما يدل عليه تنوينها فكأنه قيل: أنزلنا السورة حال كونها سورة عظيمة، ولا يخفى أن كل ذلك تكلف لا داعي إليه مع وجود الوجه الذي لا غبار عليه، وقوله تعالى:
وَفَرَضْناها إما على تقدير مضاف أي فرضنا أحكامها وإما على اعتبار المجاز في الإسناد حيث أسند ما للمدلول للدال لملابسة بينهما، تشبه الظرفية، ويحتمل على بعد أن يكون في الكلام استخدام بأن يراد بسورة معناها الحقيقي وبضميرها معناها المجازي أعني الأحكام المدلول عليها بها، والفرض في الأصل قطع الشيء الصلب والتأثير فيه، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه فكأنه قيل: أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا وفي ذكر ذلك براعة استهلال على ما قيل.
وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير «وفرّضناها» بتشديد الراء لتأكيد الإيجاب، والإشارة إلى زيادة لزومه أو لتعدد الفرائض وكثرتها أو لكثرة المفروض عليهم من السلف والخلف، وفي
الحواشي الشهابية قد فسر فَرَضْناها بفصلناها ويجري فيه ما ذكر أيضا وَأَنْزَلْنا فِيها أي في هذه السورة آياتٍ بَيِّناتٍ يحتمل أن يراد بها الآيات التي نيطت بها الأحكام المفروضة وأمر الظرفية عليه ظاهر، ومعنى كونها بينات وضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها مطلقا لأنها أسوة لأكثر الآيات في ذلك، وتكرير أَنْزَلْنا مع استلزام إنزال السورة إنزالها إبراز كمال العناية بشأنها، ويحتمل أن يراد بها جميع آيات السورة والظرفية حينئذ باعتبار اشتمال الكل على كل واحد من أجزائه، ومعنى كونه بينات أنها لا إشكال فيها يحوج إلى تأويل كبعض الآيات، وتكرير أَنْزَلْنا مع ظهور أن إنزال جميع الآيات عين إنزال السورة لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ورفعا لمحلها كقوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: ٥٨] بعد قوله سبحانه:
نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: ٥٨] والاحتمال الأول أظهر، وقال الإمام: إنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله تعالى: فَرَضْناها إشارة إلى الأحكام المبنية أولا، وقوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد ويؤيده قوله عز وجل: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى يتذكرونها انتهى، وهو عندي وجه حسن، نعم قيل فيما ذكره من التأييد نظر إذ لمن ذهب إلى الاحتمال أن يقول: المراد من التذكر غايته وهو اتقاء المحارم بالعمل بموجب تلك الآيات، ولقائل أن يقول: إن هذا محوج إلى ارتكاب المجاز في التذكر دون ما ذكره الإمام فإن التذكر عليه على معناه المتبادر ويكفي هذا القدر في كونه مؤيدا، وأصل تَذَكَّرُونَ تتذكرون حذف إحدى التاءين وقرىء بإدغام الثانية منهما في الذال الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها أولا، ورفع «الزانية» على أنها خبر مبتدأ محذوف والكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل مما يتلى عليكم أو في الفرائض أي المشار إليها في قوله تعالى: وَفَرَضْناها حكم الزانية والزاني، والفاء في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ سببية وقيل سيف خطيب، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر جملة «فاجلدوا» إلخ، والفاء في المشهور لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام فيه وفيما عطف عليه موصولة أي التي زنت والذي زنى فاجلدوا إلخ، وبعضهم يجوز دخول الفاء في الخبر إذا كان في المبتدأ معنى يستحق به أن يترتب عليه الخبر وإن لم يكن هناك موصول كما في قوله: «وقائلة خولان فانكح فتاتهم» فإن هذه القبيلة مشهورة بالشرف والحسن شهرة حاتم بالسخاء وعنترة بالشجاعة وذلك معنى يستحق به أن يترتب عليه الأمر بالنكاح وعلى هذا يقوى أمر دخول الفاء هنا كما لا يخفى، وقال العلامة القطب: جيء بالفاء لوقوع المبتدأ بعد أما تقديرا أي أما الزانية والزاني فاجلدوا إلخ، ونقل عن الأخفش أنها سيف خطيب، والداعي لسيبويه على ما ذهب إليه ما يفهم من الكتاب كما قيل من أن النهج المألوف في كلام العرب إذا أريد بيان معنى وتفصيله اعتناء بشأنه أن يذكر قبله ما هو عنوان وترجمة له وهذا لا يكون إلا بأن يبنى على جملتين فما ذهب إليه في الآية أولى لذلك مما ذهب إليه غيره، وأيضا هو سالم من وقوع الإنشاء خبرا والدغدغة التي فيه، وأمر الفاء عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف، وقال أبو حيان: سبب الخلاف أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا لا بما يقبل مباشرة أداة الشرط وغيرهما لا يشترط ذلك.
وقرأ عبد الله «والزان» بلا ياء تخفيفا، وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن قائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس «الزانية والزاني» بنصبهما على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء على ما قال ابن جني لأن مآل المعنى إلى الشرط والأمر في الجواب يقترن بها فيجوز زيدا فأضربه لذلك ولا يجوز زيدا فضربته بالفاء لأنها لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا.
والمراد هنا على ما في بعض شروح الكشاف إن أردتم معرفة حكم الزانية والزاني فاجلدوا إلخ، وقيل: إن جلدتم الزانية والزاني فاجلدوا إلخ وهو لا يدل على الوجوب المراد وقيل دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٥٤] ويجوز أن تكون عاطفة والمراد جلد بعد جلد وذلك لا ينافي كونه مفسرا للمعطوف عليه لأنه باعتبار الاتحاد النوعي انتهى.
وأنت تعلم أنه لم يعهد العطف بالفاء فيما اتحد فيه لفظ المفسر والمفسر وقد نصوا على عدم جواز زيدا فضربته بالاتفاق فلو ساغ العطف فيما ذكر لجاز هذا على معنى ضرب بعد ضرب، على أن كون المراد فيما نحن فيه جلد بعد جلد مما لا يخفى ما فيه فالظاهر ما نقل عن ابن جني، والمشهور أن سيبويه والخليل يفضلان قراءة النصب لمكان الأمر، وغيرهما من البصريين والكوفيين يفضلون الرفع لأنه كالإجماع في القراءة وهو أقوى في العربية لأن المعنى عليه من زنى فاجلدوه كذا قال الزجاج، وقال الخفاجي بعد نقله كلام سيبويه في هذا المقام: ليس في كلام سيبويه شيء مما يدل على التفضيل كما سمعت بل يفهم منه أن الرفع في نحو ذلك أفصح وأبلغ من النصب من جهة المعنى وأفصح من الرفع على أن الكلام جملة واحدة من جهة المعنى واللفظ معا فليراجع وليتأمل والجلد ضرب الجلد وقد طرد صوغ فعل المفتوح العين الثلاثي من أسماء الأعيان فيقال رأسه وظهره وبطنه، وجوز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد نحو عصاه ضربه بالعصا، والمراد هنا المعنى الأول فإن الأخبار قد دلت على أن الزانية والزاني يضربان بسوط لا عقدة عليه ولا فرع له، وقيل: إن كون الجلد بسوط كذلك كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة وأما قبله فكان تارة باليد وتارة بالنعل وتارة بالجريدة الرطبة وتارة بالعصا، ثم الظاهر من ضرب الجلد أعم من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة، وزعم بعضهم وليس بشيء أن الظاهر أن يكون بلا واسطة وأنه ربما يستأنس به لما ذهب إليه أصحابنا وبه قال مالك من أنه ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا ينزع لستر عورته به، وعن الشافعي، وأحمد أنه يترك عليه قميص أو قميصان، وروى عبد الرزاق بسنده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتي برجل في حد فضربه وعليه كساء قسطلاني، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد، وأما الامرأة فلا ينزع عنها ثيابها عندنا إلا الفرو والمحشو ووجه ظاهر.
وفي بعض الأخبار ما يدل على أن الرجل والمرأة في عدم نزع الثياب إلا الفرو والمحشو سواء، وكأن من لا يقول بنزع الثياب يقول: إن الجلد في العرف الضرب مطلقا وليس خاصا بضرب الجلد بلا واسطة، نعم ربما يقال: إن في اختياره على الضرب إشارة إلى أن المراد ضرب يؤلم الجلد وكأنه لهذا قيل ينزع الفرو والمحشو فإن الضرب في الأغلب لا يؤلم جلد من عليه واحد منهما، وينبغي أن لا يكون الضرب مبرحا لأن الإهلاك غير مطلوب، ومن هنا قالوا:
إذا كان من وجب عليه الحد ضعيف الخلقة فخيف عليه الهلاك يجلد جلدا ضعيفا يحتمله، وكذا قالوا: يفرق الضرب على أعضاء المحدود لأن جمعه في عضو قد يفسده وربما يفضي إلى الهلاك، وينبغي أن يتقى الوجه والمذاكير لما
روي موقوفا على عليّ كرّم الله تعالى وجهه أنه أتي برجل سكران أو في حد فقال: اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير
، وكذا الرأس لأنه مجمع الحواس الباطنة فربما يفسد وهو إهلاك معنى، وكان أبو يوسف يقول باتقائه ثم رجع وقال يضرب ضربة واحدة، وروي عنه أنه استثنى البطن والصدر وفيه نظر إلا أن يقال: كان الضرب في زمانه كالضرب الذي يفعله ظلمة زماننا وحينئذ ينبغي أن يقول باستثناء الرأس قطعا، وعن مالك أنه خص الظهر وما يليه بالجلد لما صح من
قوله صلّى الله عليه وسلّم لهلال بن أمية: «البينة وإلا فحد في ظهرك»
وأجيب بأن المراد بالظهر فيه نفسه أي فحد
ثابت عليك بدليل ما ثبت عن كبار الصحابة من عمر وعلي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه»
فإنه في نحو الحد فما سواه داخل في الضرب، ثم خص منه الفرج بدليل الإجماع، وعن محمد في التعزيز ضرب الظهر وفي الحدود ضرب الأعضاء، ثم هذا الضرب يكون للرجل قائما غير ممدود وللمرأة قاعدة وجاء ذلك عن عليّ كرم الله تعالى وجهه، وكأن وجهه أن مبني الحد على التشهير زجرا للعامة عن مثله والقيام أبلغ فيه، والمرأة مبني أمرها على الستر فيكتفى بتشهير الحد فقط من غير زيادة، وإن امتنع الرجل ولم يقف أو لم يصبر فلا بأس بربطه على أسطوانة أو إمساك أحد له، والمراد من العدد المفروض في جلد كل واحد منهما أعني مائة جلدة ما يقال له مائة جلدة بوجه من الوجوه وإن لم تتعين الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى تمام المائة فلو ضربه مائة رجل بمائة سوط دفعة واحدة كفى في الحد بل قالوا: جاز أن تجمع الأسواط فيضرب مرة واحدة بحيث يصيبه كل واحد منها
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه ضرب في حد بسوط له طرفان أربعين ضربة فحسب كل ضربة بضربتين
، وقدمت الزانية على الزاني مع أن العادة تقديم الزاني عليها لأنها هي الأصل إذ الباعثة فيها أقوى ولولا تمكينها لم يزن، واشتقاقهما من الزنا وهو مقصور في اللغة الفصحى وهي لغة أهل الحجاز وقد يمد في لغة أهل نجد وعليها قال الفرزدق.
أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه | ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا |
وقد أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن تقدم من السلف وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت، وإنكار الخوارج ذلك باطل لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فجهل مركب، وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس ما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه عليه الصلاة والسلام متواتر المعنى كشجاعة عليّ كرم الله تعالى وجهه وجود حاتم، والآحاد في تفاصيل صوره وخصوصياته وهم كسائر المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنى كالمتواتر لفظا إلا أن انحرافهم عن الصحابة والمسلمين وترك التردد إلى علماء المسلمين والرواة أوقعهم في جهالات كثيرة لخفاء السمع عنهم والشهرة، ولذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز في القول بالرجم من كونه ليس في كتاب الله تعالى صفحة رقم 277
ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا: ذلك من فعله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين فقال لهم: وهذا أيضا كذلك، وقد كوشف بهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وكاشف بهم حيث قال كما روى البخاري: خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى عز وجل فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروى أبو داود أنه رضي الله تعالى عنه خطب وقال: «إن الله عز وجل بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق وأنزل عليه كتابا فكان فيما أنزل عليه آية الرجم يعني بها قوله تعالى: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فقرأناها وو عيناها إلى أن قال:
وإني خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: «لا نجد الرجم» الحديث بطرقه، وقال: لولا أن يقال: إن عمر زاد في الكتاب لكتبتها على حاشية المصحف الشريف ومن الناس من ذهب إلى أن الناسخ الآية المنسوخة التي ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه.
وقال العلامة ابن الهمام: إن كون الناسخ السنة القطعية أولى من كون الناسخ ما ذكر من الآية لعدم القطع بثبوتها قرآنا، ثم نسخ تلاوتها وإن ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه وسكت الناس فإن كون الإجماع السكوتي حجة مختلف فيه وبتقدير حجيته لا نقطع بأن جميع المجتهدين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذ ذاك حضورا ثم لا شك في أن الطريق في ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه ظني ولهذا والله تعالى أعلم
قال علي كرّم الله تعالى وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها: جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ التلاوة، ويعلم من قوله المذكور كرم الله تعالى وجهه أنه قائل بعدم نسخ عموم الآية فيكون رأيه أن الرجم حكم زائد في حق المحصن ثبت بالسنة وبذلك قال أهل الظاهر وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما
رواه أبو داود من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الثيب بالثيب جلد مائة ورمي الحجارة»
وفي رواية غيره «ورجم بالحجارة»
وعند الحنفية لا يجمع بين الرجم والجلد في المحصن وهو قول مالك والشافعي ورواية أخرى عن أحمد لأن الجلد يعري عن المقصود الذي شرع الحد له وهو الانزجار أو قصده إذا كان القتل لاحقا له، والعمدة في استدلالهم على ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يجمع بينهما قطعا،
فقد تظافرت الطرق أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد سؤاله ماعزا عن الإحصان وتلقينه الرجوع لم يزد على الأمر بالرجم فقال: اذهبوا به فارجموه
وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت بذلك فارجمها»
ولم يقل فاجلدها ثم ارجمها،
وجاء في باقي الحديث الشريف «فاعترفت فأمر بها صلّى الله عليه وسلّم فرجمت»
وقد تكرر الرجم في زمانه صلّى الله عليه وسلّم ولم يرو أحد أنه جمع بينه وبين الجلد فقطعنا بأنه لم يكن إلا الرجم فوجب كون الخبر السابق منسوخا وإن لم يعلم خصوص الناسخ، وأجيب عما فعل عليّ كرم الله تعالى وجهه من الجمع بأنه رأي لا يقاوم ما ذكر من القطع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا لا يقاوم إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يقال: إنه كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عنده الإحصان إلا بعد الجلد وهو بعيد جدا كما يظهر من الرجوع إلى القصة والله تعالى أعلم، وإحصان الرجم يتحقق بأشياء نظمها بعضهم فقال:
شروط (١) إحصان أتت ستة... فخذها عن النص مستفهما
بلوغ وعقل وحرية... ورابعها كونه مسلما
وعقد صحيح ووطء مباح... متى اختل شرط فلن يرجما
وزاد غير واحد كون واحد من الزوجين مساويا الآخر في شرائط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فلو تزوج الحر المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير محصنا بهذا الدخول حتى لو زنى من بعد لا يرجم، وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون أو صبي ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعد.
وذكر ابن الكمال شرطا آخر وهو أن لا يبطل إحصانهما بالارتداد فلو ارتد والعياذ بالله تعالى ثم أسلما لم يعد إلا بالدخول بعده ولو بطل بجنون أو عته عاد بالإفاقة، وقيل بالوطء بعده. والشافعي لا يشترط المساواة في شرائط الإحصان وقت الإصابة فلا رجم عنده في المسألتين السابقتين، وكذا لا يشترط الإسلام فلو زنى الذمي الثيب الحر يجلد عندنا ويرجم عنده وهو رواية عن أبي يوسف وبه قال أحمد، وقول مالك كقولنا.
واستدل المخالف بما
في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟
فقالوا: نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام: كذبتم فيما زعمتم أن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع أحدهم يعني عبد الله بن صور يا يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجما.
ودليلنا ما
رواه إسحاق بن رهوايه في مسنده قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن»
وقد رفع هذا الخبر كما قال إسحاق مرة ووقف أخرى، ورواه الدارقطني في سننه وقال: لم يرفعه غير راهويه بن راهويه، ويقال: إنه رجع عن ذلك والصواب أنه موقوف اهـ.
وفي العناية أن لفظ إسحاق كما تراه ليس فيه رجوع وإنما ذكر عن الراوي أنه مرة رفعه ومرة أخرجه مخرج الفتوى ولم يرفعه ولا شك في أن مثله بعد صحة الطريق إليه محكوم برفعه على ما هو المختار في علم الحديث من أنه إذا تعارض الرفع والوقف حكم بالرفع وبعد ذلك إذا خرج من طرق فيها ضعف لا يضر.
وأجاب بعض أجلة أصحابنا بأنه كان الرجم مشروعا بدون اشتراط الإسلام حين رجم صلّى الله عليه وسلّم الرجل والمرأة اليهوديين وذلك بما أنزله الله تعالى إليه عليه الصلاة والسلام، وسؤاله صلّى الله عليه وسلّم اليهود عما يجدونه في التوراة في شأنه ليس لأن يعلم حكمه من ذلك.
والقول بأنه عليه الصلاة والسلام كان أول ما قدم المدينة مأمورا بالحكم بما في التوراة ممنوع بل ليس ذلك إلا ليبكتهم بترك الحكم بما أنزل الله تعالى عليهم فلما حصل الغرض حكم صلّى الله عليه وسلّم برجمهما بشرعه الموافق لشرعهم وإذا علم أن الرجم كان ثابتا في شرعنا حال رجمها بلا اشتراط الإسلام. وقد ثبت حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المفيد لاشتراط الإسلام وليس تاريخ يعرف به تقدم اشتراط الإسلام على عدم اشتراطه أو تأخره عنه حصل التعارض بين فعله صلّى الله عليه وسلّم رجم اليهوديين وقوله المذكور فيطلب الترجيح، وقد قالوا: إذا تعارض القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر يقدم القول على الفعل، وفيه وجه آخر وهو أن تقديم هذا القول موجب لدرء الحد وتقديم ذلك الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحد والأولى في الحدود ترجيح الرافع عند التعارض.
ولا يخفى أن كل مترجح فهو محكوم بتأخره اجتهادا فيكون المعول عليه في الحكم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقول المخالف: إن المراد بالمحصن فيه المحصن الذي يقتص له من المسلم خلاف الظاهر لأن أكثر استعمال الإحصان في إحصان الرجم.
ورد بعضهم بالآية على القائلين: إن حد زنا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة وهم الإمام الشافعي والإمام أحمد والثوري والحسن بن صالح، ووجه الرد أن قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ شروع في بيان حكم الزنا ما هو فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلا لا بيانا وتفصيلا إذ يفهم منه أنه تمام وليس بتمام في الواقع فكان مع الشروع في البيان أبعد من البيان، لأنه أوقع في الجهل المركب وقبله كان الجهل بسيطا فيفهم بمقتضى ذلك أن حد الزانية والزاني ليس إلا الجلد، وأخصر من هذا أن المقام مقام البيان فالسكوت فيه يفيد الحصر، وقال المخالف: لو سلمنا الدلالة على الحصر وأن المذكور تمام الحكم ليكون المعنى أن حد كل ليس إلا الجلد فذلك منسوخ بما صح من
رواية عبادة بن الصامت عنه صلّى الله عليه وسلّم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»
وأجيب بأنه بعد التسليم لا تصح دعوى النسخ بما ذكر لأنه خبر الواحد وعندنا لا يجوز نسخ الكتاب به والقول بأن الخبر المذكور قد تلقته الأمة بالقبول لا يجدي نفعا لأنه إن أريد بتلقيه بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع،
فقد صح عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه لا يقول بتغريبهما وقال: حسبهما من الفتنة أن ينفيا
، وفي رواية كفى بالنفي فتنة، وإن أريد إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك ولم تخرج بذلك عن كونها آحادا، على أنه ليس فيه أكثر من كون التغريب واجبا ولا يدل على أنه واجب بطريق الحد بل ما
في صحيح البخاري من قول أبي هريرة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد
ظاهر في أن النفي ليس من الحد لعطفه عليه، وكونه استعمل الحد في جزء مسماه وعطف على الجزء الآخر بعيد فجاز كونه تعزيرا لمصلحة، وقد يغرب الإمام لمصلحة يراها في غير ما ذكر كما صح أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غرب نصر بن حجاج إلى البصرة بسبب أنه لجماله افتتن بعض النساء به فسمع قائلة يقال: إنها أم الحجاج الثقفي ولذا قال له عبد الملك يوما يا ابن المتمنية تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها | أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج |
إلى فتى ماجد الأعراق (١) مقتبل | سهل المحيا كريم غير ملجاج |
ثم إن التغريب ليس مخصوصا بالرجل عند أولئك الأئمة فقد قالوا: تغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في آخر، ولو امتنع ففي قول يجبره الإمام وفي آخر لا، ولو كانت الطريق آمنة ففي تغريبها بلا محرم قولان، وعند مالك والأوزاعي إنما ينفى الرجل ولا تنفى المرأة
لقوله عليه الصلاة والسلام: «البكر بالبكر»
إلخ، وقال غيرهما ممن تقدم: إن الحديث يجب أن يشملها فإن أوله
«خذوا عني قد جعل الله تعالى لهن سبيلا البكر بالبكر»
إلخ وهو نص على أن النفي والجلد سبيل للنساء والبكر يقال: على الأنثى ألا ترى إلى
قوله عليه الصلاة والسلام: «البكر تستأذن»
ومع قطع النظر عن كل ذلك قد يقال: إن هذا من المواضع التي تثبت الأحكام فيه في النساء بالنصوص المفيدة إياها للرجال بتنقيح المناط، هذا ثم لا يخفى أن الظاهر من الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ما يشمل الرقيق وغيره فيكون
مقدار الحد في الجميع واحدا لكن قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: ٢٥] الآية أخرجت الإماء فإن الآية نزلت فيهن، وكذا أخرجت العبيد إذ لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط فيرجع في ذلك إلى دلالة النص بناء على أنه لا يشترط في الدلالة أولوية المسكوت بالحكم من المذكور بل المساواة تكفي فيه وقيل تدخل العبيد بطريق التغليب عكس القاعدة وهي تغليب الذكور.
ولا يشترط الإحصان في الرقيق لما
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن»
وفيه دليل على أن الشرط أعني الإحصان في الآية الدالة على تنصيف الحد لا مفهوم له، ونقل عن ابن عباس وطاوس أنه لا حد على الأمة حتى تحصن بزوج، وفيه اعتبار المفهوم، ثم هذا الإحصان شرط للجلد لأن الرجم لا يتنصف، وللشافعي في تغريب العبد أقوال: يغرب سنة يغرب نصف سنة لا يغرب أصلا والخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا لأئمة المسلمين ونوابهم.
واختلف في إقامة المولى الحد على عبده فعندنا لا يقيمه إلا بإذن الإمام والشافعي ومالك وأحمد يقيمه من غير إذن، وعن مالك إلا في الأمة المزوجة، واستثنى الشافعي من المولى الذمي والمكاتب والمرأة، وكذا اختلف في إقامة الخارجي المتغلب الحد فقيل يقيم وقيل لا، وأدلة الأقوال المذكورة وتحقيق ما هو الحق منها في محله، والظاهر أن إقامة الحد المذكور بعد تحقق الزنا بإحدى الطرق المعلومة، وقال إسحاق:
إذا وجد رجل وامرأة في ثوب واحد يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وروي ذلك عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما
، وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد: يؤديان على مذاهبهم في الأدب وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ تلطف ومعاملة برفق وشفقة فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته وإقامة حده الذي شرعه عز وجل، والمراد النهي عن التخفيف في الجلد بأن يجلدوهما جلدا غير مؤلم أو بأن يكون أقل من مائة جلدة.
وقال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء: المراد النهي عن إسقاط الحد بنحو شفاعة كأنه قيل: أقيموا عليهما الحد ولا بد، وروي معنى ذلك عن عمر وابن جبير، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز الشفاعة في إسقاط الحد، والظاهر أن المراد عدم جواز ذلك بعد ثبوت الحد عند الحاكم، وأما قبل الوصول إليه والثبوت فإن الشفاعة عند الرافع لمن اتصف بسبب الحد إلى الحاكم ليطلقه قبل الوصول وقبل الثبوت تجوز، ولم يخصوا ذلك بالزنا لما
صح أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبه أسامة بن زيد حين شفع في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية السارقة قطيفة وقيل حليا فقال له: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ ثم قام فخطب فقال: أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله تعالى لو أن فاطمة بنت محمد سرقت وحاشاها لقطعت يدها»
وكما تحرم الشفاعة يحرم قبولها فعن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا الله تعالى عنه إن عفا، وبِهِما قيل متعلق بمحذوف على البيان أي أعني بهما، وقيل بترأفوا محذوفا أي ولا ترأفوا بهما، ويفهم صنيع أبي البقاء اختيار تعلقه بتأخذ والباء للسببية أي ولا تأخذكم بسببهما رأفة ولم يجوز تعلقه برأفة معللا بأن المصدر لا يتقدم معموله عليه، وعندي هو متعلق بالمصدر ويتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره.
وقد حقق ذلك العلامة سعد الملة والدين في أول شرح التلخيص بما لا مزيد عليه، وفِي دِينِ قيل متعلق بتأخذ وعليه أبو البقاء، وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لرأفة. وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد «ولا يأخذكم» بالياء التحتية لأن تأنيث رَأْفَةٌ مجازي وحسن ذلك الفصل وقرأ ابن
كثير «رأفة» بفتح الهمزة، وابن جريج «رافة» بألف بعد الهمزة على وزن فعالة وروي ذلك عن عاصم وابن كثير، ونقل أبو البقاء أنه قرأ «رافة» بقلب الهمزة الفا وهي في كل ذلك مصدر مسموع إلا أن الأشهر في الاستعمال ما وافق قراءة الجمهور.
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من باب التهييج والإلهاب كما يقال: إن كنت رجلا فافعل كذا ولا شك في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم لكن قصد تهييجهم وتحريك حميتهم ليجدوا في طاعة الله تعالى ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها، وذكر الْيَوْمِ الْآخِرِ لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة الرأفة بهما وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليحضره زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب أو لذلك وللعبرة والموعظة، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة لا للتفضيح وهو في غاية البعد من السياق، والأمر هنا على ما يدل عليه كلام الفقهاء للندب.
واختلف في هذه الطائفة فأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الرجل فما فوقه وبه قال أحمد وقال عطاء وعكرمة وإسحاق بن راهويه: اثنان فصاعدا وهو القول المشهور لمالك وقال قتادة والزهري: ثلاثة فصاعدا، وقال الحسن: عشرة، وعن الشافعي وزيد: أربعة وهو قول لمالك قال الخفاجي: وتحقيق المقام أن الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف الدوران أو الإحاطة فهي إما صفة نفس أي نفس طائفة فتطلق على الواحد أو صفة جماعة أي جماعة طائفة فتطلق على ما فوقه فهي كالمشترك بين تلك المعاني فتحمل في كل مقام على ما يناسبه.
وذكر الراغب أنها إذا أريد بها الواحد يصح أن تكون جمعا كني به عن الواحد، ويصح أن تكون مفردا والتاء فيها كما في رواية، وفي حواشي العضد للهروي يصح أن يقال للواحد طائفة ويراد نفس طائفة فهي من الطواف بمعنى الدوران.
وفي شرح البخاري حمل الشافعي الطائفة في مواضع من القرآن على أوجه مختلفة بحسب المواضع فهي في قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: ١٢٢] واحد فأكثر واحتج به على قبول خبر الواحد وفي قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ أربعة وفي قوله سبحانه: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء: ١٠٢] ثلاثة، وفرقوا في هذه المواضع بحسب القرائن، أما في الأولى فلأن الإنذار يحصل به، وأما في الثانية فلأن التشنيع فيه أشد، وأما في الثالثة فلضمير الجمع بعد في قوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء: ١٠٢] وأقله ثلاثة، وكونها مشتقة من الطواف لا ينافيه لأنه يكون بمعنى الدوران أو هو الأصل وقد لا ينظر إليه بعد الغلبة فلذا قيل: إن تاءها للنقل انتهى ولا يخلو عن بحث.
والحق أن المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير، والزجر وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة، وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه كما لا يخفى.
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً تقبيح لأمر الزاني أشد تقبيح ببيان أنه بعد أن رضي بالزنا لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة فبينهما كما بين سهيل والثريا فترى هذه شامية إذا ما استقلت وترى ذاك إذا ما استقل يمانيا وإنما يليق به أن ينكح زانية هي في ذلك طبقه ليوافق- كما قيل- شن طبقه أو مشركة هي أسوأ منه حالا وأقبح أفعالا «فلا ينكح» خبر مراد منه لا يليق به أن ينكح كما تقول: السلطان لا يكذب أي لا يليق به أن يكذب نزل فيه عدم لياقة
الفعل منزلة عدمه وهو كثير في الكلام، ثم المراد اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا فيكون فيه من تقبيح الزنا ما فيه.
ولا يشكل صحة نكاح الزاني المسلم الزانية المسلمة وكذا العفيفة المسلمة وعدم صحة نكاحه المشركة المذكورة في الآية إذا فسرت بالوثنية بالإجماع لأن ذلك ليس من اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا بل من حيثية أخرى يعلمها الشارع كما لا يخفى، وعلى هذا الطرز قوله تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ أي الزانية بعد أن رضيت بالزنا فولغ فيها كلب شهوة الزاني لا يليق أن ينكحها من حيث إنها كذلك إلا من هو مثلها وهو الزاني أو من هو أسوأ حالا منها وهو المشرك، وأما المسلم العفيف فإن غيرته تأبى ورود جفرتها.
تجتنب الأسود ورود ماء | إذا كان الكلاب يلغن فيه |
روي في سبب نزولها مما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والبيهقي وابن المنذر وغيرهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وأنه وعد رجلا من أسارى مكة بحمله قال فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة فجاءت عناق فأبصرت سواد ظل تحت الحائط فلما انتهت إلى غرفتي فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد فقالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة قلت: يا عناق حرم الله تعالى الزنا قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى غار أو كهف فدخلت فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فطل بولهم على رأسي وعماهم الله تعالى عني ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله أنكح عناق؟ فأمسك فلم يرد عليّ شيئا حتى نزل الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يا مرثد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلا تنكحها
لأن تفريع النهي فيه عن نكاح تلك البغي مما لا شبهة في صحته على تقدير كون الآية المفرع عليها لتقبيح أمر الزاني والزانية فكأنه قيل: إذا علمت أمر الزانية وأنها بلغت في القبح إلى حيث لا يليق أن ينكحها إلا مثلها أو من هو أسوأ حالا فلا تنكحها.
نعم في هذا الخبر ما هو أوفق بجعل الإشارة فيما مر إلى نكاح الزانية ويعلم منه وجه تقديم الزَّانِي والأخبار عن الزانية بأنه لا ينكحها إلا زان أو مشرك على خلاف ما تقتضيه المقابلة، هذا وللعلماء في هذه الآية الجليلة كلام كثير لا بأس بنقل ما تيسر منه وإبداء بعض ما قيل فيه ثم انظر فيه وفيما قدمناه واختر لنفسك ما يحلو فأقول: نقل عن الضحاك والقفال، وقال النيسابوري: إنه أحسن الوجوه في الآية أن قوله سبحانه: الزَّانِي لا صفحة رقم 283
يَنْكِحُ
إلخ حكم مؤسس على الغالب المعتاد جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب غالبا في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين، ونظير هذا الكلام لا يفعل الخير إلا تقي فإنه جار مجرى الغالب، ومعنى التحريم على المؤمنين على هذا قيل التنزيه وعبر به عنه للتغليظ، ووجه ذلك أن نكاح الزواني متضمن التشبه بالفساق والتعرض للتهمة والتسبب لسوء القالة والطعن في النسب إلى كثير من المفاسد، وقيل: التحريم على ظاهره وذلك الفعل يتضمن محرمات والحرمة ليست راجعة إلى نفس العقد ليكون العقد باطلا وعلى القولين الآية محكمة، ولا يخفى أن حمل الزاني والزانية على من شأنهما الزنا والتقحب لا يخلو عن بعد لأنهما فيما تقدم لم يكونا بهذا المعنى والظاهر الموافقة، وأيضا لا يكاد يسلم أن الغالب عدم رغبة من شأنه الزنا في نكاح العفائف ورغبته في الزواني أو المشركات فكثيرا ما شاهدنا كثيرا من الزناة يتحرون في النكاح أكثر من تحري غيرهم فلا يكاد أحدهم ينكح من في أقاربها شبهة زنا فضلا عن أن تكون فيها وقليلا ما سمعنا برغبة الزاني في نكاح زانية أو مشركة، وأيضا في حمل التحريم على التنزيه نوع بعد وكذا حمله على ظاهره مع التزام أن الحرمة ليست راجعة إلى نفس العقد.
وفي البحر روي عن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أن الآية في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كان من عادتهن الإنفاق على من تزوجهن فنزلت الآية لذلك، والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك القوم أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية للتوبيخ، ومعنى لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة أي لا تنزع نفسه إلا إلى هذه الخسائس لقلة انضباطها، والإشارة- بذلك- إلى نكاح أولئك البغايا والتحريم على ظاهره، ويرد على هذا التأويل أن الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك انتهى.
وأنت تعلم أن هذا لا يرد بعد حمل نفي النكاح على نفي إرادة التزوج إذ يكون المعنى حينئذ الزانية لا يريد أن يتزوجها إلا زان أو مشرك وليس في الإجماع ما يأباه، وفيه أيضا كلام ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى، نعم كون الزَّانِي إشارة إلى أحد أولئك القوم وهم من المهاجرين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين كما جاء في آثار كثيرة وقد أسلموا وتابوا من الزنا محل تردد إذ يبعد كل البعد أن يسم الله عز وجل بالزنا صحابيا كان قد زنى قبل إسلامه ثم أسلم وتاب فخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويطلق سبحانه عليه هذا الوصف الشنيع الذي غفره تبارك وتعالى له بمجرد أنه مال إلى نكاح زانية بسبب ما به من الفقر قبل العلم بحظر ذلك مع أنهم كانوا نادين على فراق من ينكحونهن إذا وجدوا عنهن غنى.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم والمدينة غالية السعر شديدة الجهد وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب وإماء لبعض الأنصار قد رفعت كل امرأة منهن على بابها علامة لتعرف أنها زانية وكن من أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيرا فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي فيهم من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من فضول ما يكتسبن فقال بعضهم: نستأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن
فنصيب من فضول ما يكتسبن فإذا وجدنا عنهن غنى تركناهن فأنزل الله تعالى الآية
، وأيضا إطلاق الزاني عليه بهذا المعنى لا يوافق إطلاق الزانية على إحدى صاحبات الرايات، وكذا لا يوافق إطلاق الزاني على من أطلق عليه في قوله سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا إلخ.
وقال أبو مسلم وأبو حيان وأخرجه أبو داود في ناسخه والبيهقي في سننه، والضياء في المختارة وجماعة من طريق ابن جبير عن ابن عباس أن النكاح بمعنى الوطء أي الزنا وذلِكَ إشارة إليه، والمعنى الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة والزانية لا يطؤها حين زناها إلا زان من المسلمين أو أخس منه وهو المشرك وحرم الله تعالى الزنا على المؤمنين.
وتعقب بأنه لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج وبأنه يؤدي إلى قولك الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني إلا بزان وهو غير مسلم إذ قد يزني الزاني بغير زانية يعلم أحدهما بالزنا والآخر جاهل به يظن الحل، وإذا ادعى أن ذلك خارج مخرج الغالب كان من الأخبار بالواضحات، وإن حمل النفي على النهي كان المعنى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية وبالعكس وهو ظاهر الفساد.
وأجيب عن الأول بأن جل العلماء على أن النكاح في قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠] بمعنى الوطء دون العقد وردوا على من فسره بالعقد وزعم أن المطلقة ثلاثا تحل لزوجها الأول بعقد الثاني عليها دون وطء، وعن الثاني بأنه إخبار خارج مخرج الغالب أريد به تشنيع أمر الزنا ولذلك زيدت المشركة، والاعتراض بالوضوح ليس بشيء.
وللفاضل سري الدين المصري كلام طويل في ذلك، وما قيل: إنه حينئذ يكون كقوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور: ٢٦] إلخ فيحصل التكرار ستعلم إن شاء الله تعالى أنه لا يتم إلا في قول، وقيل: النكاح بمعنى التزوج والنفي بمعنى النهي وعبر به عنه للمبالغة، وأيد بقراءة عمرو بن عبيد «لا ينكح» بالجزم والتحريم على ظاهره.
قال ابن المسيب: وكان الحكم عاما في الزناة أن لا يتزوج أحدهم إلا زانية ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: ٣٢] وقوله سبحانه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣] وروي القول بالنسخ عن مجاهد، وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي قال في الأم: اختلف أهل التفسير في قوله تعالى:
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً إلخ اختلافا متباينا، قيل: هي عامة ولكنها نسخت أخبرنا سفيان عن يحيى عن سعيد بن المسيب أنه قال: هي منسوخة نسختها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فهي أي الزانية من أيامي المسلمين كما قال ابن المسيب إن شاء الله تعالى، ولنا دلائل من الكتاب والسنة على فساد غير هذا القول وبسط الكلام، وقد نقل هذا عن الإمام الشافعي البقاعي ثم قال: إن الشافعي لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية الأيامى فقط بل مع ما انضم إليها من الإجماع وغيره من الآيات والأحاديث بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقنا كدلالة الخاص على ما تناوله فلا يقال: إنه خالف أصله في أن الخاص لا ينسخ بالعام بل العام المتأخر محمول على الخاص لأن ما تناوله الخاص متيقن وما تناوله العام مظنون اهـ.
والجبائي يزعم أن النسخ بالإجماع ولعله أراد أنه كاشف عن ناسخ وإلا فالإجماع لا يكون ناسخا كما بين في علم الأصول، نعم في تحقق الإجماع هنا كلام، واعترض هذا الوجه بأنه يلزم عليه حل نكاح المشرك للمسلمة، وأقول: إن نكاح الكافر للمسلمة كان حلالا قبل الهجرة وبعدها إلى سنة الست وفيها بعد الحديبية نزلت آية التحريم كما صرح بذلك العلامة ابن حجر الهيتمي وغيره، وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زوج بنته زينب رضي الله تعالى عنها لأبي
العاص بن الربيع قبل البعثة وبعث عليه الصلاة والسلام ثم هاجر وهاجرت معه وهي في نكاح أبي العاص ولم يكن مؤمنا إذ ذاك واستمر الأمر على ذلك إلى سنة الست فلما نزلت آية التحريم لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء وأظهر إسلامه رضي الله تعالى عنه فردها صلّى الله عليه وسلّم له بنكاحه الأول.
فيحتمل أن يكون النكاح المذكور حلالا عند نزول الآية التي من فيها بأن يكون نزولها قبل سنة الست ثم نسخ، وفي هذه السورة آيات نصوا على أن نزولها كان قبل ذلك وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [النور:
١١] إلخ قال: إنها نزلت عام غزوة بني المصطلق وكانت سنة خمس لليلتين خلتا من شعبان فلعل هذه الآية من هذا القبيل بل في أثر رواه ابن أبي شيبة عن ابن جبير وذكره العراقي وابن حجر ما ظاهره أن هذه الآية مكية فإذا انضم هذا إلى ما روي عن ابن المسيب وقال به الشافعي يكون فيها نسخان لكن لم أر من نبه على ذلك، وإذا صح كان هذا الوجه أقل من الأوجه السابقة مؤنة وكأني بك لا تفضل عليه غيره.
وذهب قوم إلى أن حرمة التزوج بالزانية أو من الزاني إن لم تظهر التوبة من الزنا باقية إلى الآن، وعندهم أنه إن زنى أحد الزوجين يفسد النكاح بينهما، وقال بعضهم: لا ينفسخ إلا أن الرجل يؤمر بطلاق زوجته إذا زنت فإن أمسكها أثم، وعند بعض من العلماء أن الزنا عيب من العيوب التي يثبت بها الخبار فلو تزوجت برجل فبان لها أنه ممن يعرف بالزنا ثبت لها الخيار في البقاء معه أو فراقه، وعن الحسن أن حرمة نكاح الزاني للعفيفة إنما هي فيما إذا كان مجلودا وكذا حرمة نكاح العفيف للزانية إنما هي إذا كانت مجلودة فالمجلود عنده لا يتزوج إلا مجلودة والمجلودة لا يتزوجها إلا مجلود وهو موافق لما في بعض الأخبار.
فقد أخرج أبو داود وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله»
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر «أن رجلا تزوج امرأة ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد فجاؤوا به إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه ففرق بينه وبين امرأته وقال له: لا تتزوج إلا مجلودة مثلك
، وعن ابن مسعود والبراء بن عازب أن من زنى بامرأة لا يجوز له أن يتزوجها أصلا، وأبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وجماعة من التابعين والأئمة على خلافه.
واستدل على ذلك بما
أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال: الحرام لا يحرم الحلال»
هذا ومن أضعف ما قيل في الآية: إنه يجوز أن يكون معناها ما في الحديث من أن من زنى تزني امرأته ومن زنت يزني زوجها فتأمل جميع ذاك والله عز وجل يتولى سداك.
وقرأ أبو البرهسم «وحرّم» بالبناء للفاعل وهو الله تعالى، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «وحرم» بفتح الحرم وضم الراء وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ شروع في بيان حكم من نسب الزنا إلى غيره بعد بيان حكم من فعله، والموصول على ما اختاره العلامة الثاني في التلويح منصوب بفعل محذوف يدل فعل الأمر بعد عليه أي اجلدوا الذين، ويجوز أن يكون في محل رفع على الابتداء ولا يخفى عليك خبره والآية نزلت في امرأة عويمر كما في صحيح البخاري، وعن سعيد بن جبير أنها نزلت بسبب قصة الإفك والرمي مجاز عن الشتم.
وجرح اللسان كجرح اليد والمراد الرمي بالزنا كما يدل عليه إيراد ذلك عقيب الزواني مع جعل المفعول الْمُحْصَناتِ الدال على النزاهة عن الزنا وهذا كالصريح في ذلك، وربما يدعى أن اشتراط أربعة من الشهود يشهدون بتحقق ما رمي به كما يدل عليه قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً قرينة
على المراد بناء على العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا، والظاهر أن المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رامي المحصن بدلالة النص للقطع بإلغاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد، وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر، وتخصيص الذكور في جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة، وقيل المراد الفروج المحصنات وفيه أن إسناد الرمي يأباه مع ما فيه من التوصيف بالمحصنات من مخالفة الظاهر.
وقال ابن حزم وحكاه الزهراوي: المراد الأنفس المحصنات واستدل له أبو حيان بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٢٤] فإنه لولا أن المحصنات صالح للعموم لم يقيد وتعقب بأن من النساء هناك قرينة على العموم ولا قرينة هنا، وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الاعتماد على ما تقدم والإحصان هنا، وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الاعتماد على ما تقدم والإحصان هنا لا يتحقق إلا بتحقق العفة عن الزنا وهو معناه المشهور وبالحرية والبلوغ والعقل والإسلام.
قال أبو بكر الرازي: ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك، ولعل غيره علم كما ستعلم إن شاء الله تعالى، وثبوته بإقرار القاذف أو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين خلافا لزفر، ووجه اعتبار العفة عن الزنا ظاهر لكن في شرح الطحاوي في الكلام على العفة عدم الاقتصار على كونها عن الزنا حيث قال فيها: بأن لم يكن وطئ امرأة بالزنا ولا بشبهة ولا بنكاح فاسد في عمره فإن كان فعل ذلك مرة يريد النكاح الفاسد تسقط عدالته ولا حد على قاذفه، وكذا لو وطئ في غير الملك كما إذا وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره سقطت عدالته، ولو وطئ في الملك إلا أنه محرم فإنه ينظر إن كانت الحرمة مؤقتة لا تسقط عدالته كما إذا وطئ امرأته في الحيض أو أمته المجوسية، وإن كانت مؤبدة سقطت عدالته كما إذا وطئ أمته وهي أخته من الرضاعة.
ولو مس امرأة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم تزوج بنتها فدخل بها أو أمها لا يسقط إحصانه عند أبي حنيفة عليه الرحمة (١) وعندهما يسقط، ولو وطئ امرأة بالنكاح ثم تزوج بها سقط إحصانه انتهى.
والمذكور في غير كتاب أن أبا حنيفة يشترط في سقوط الحد عن قاذف الواطئ في الحرمة المؤبدة كون تلك الحرمة ثابتة بحديث مشهور كحرمة وطء المنكوحة بلا شهود الثابتة
بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نكاح إلا بشهود»
وهو حديث مشهور أو ثابتة بالإجماع كموطوءة أبيه بالنكاح أو بملك اليمين لو تزوجها الابن أو اشتراها فوطئها، ومثل ذلك عنده وطء مزنيته فإنه لا يعتبر الخلاف عند ثبوت الحرمة بالنص وهنا قد ثبتت به لقوله تعالى:
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٢٢] وإنما يعتبره إذا ثبتت بقياس أو احتياط كثبوتها بالنظر إلى الفرج والمس بشهوة فإن ثبوتها فيما ذكر لإقامة السبب مقام المسبب احتياطا، ومن هذا يعلم حال فروع كثيرة فليحفظ، وما ذكر من سقوط إحصان من وطئ أمته وهي أخته من الرضاع فيه خلاف الكرخي فإنه قال: لا يسقط الإحصان بوطئها وهو قول الشافعي ومالك وأحمد لقيام الملك فكان كوطء أمته المجوسية، وفيه أن الحرمة في وطء المجوسية يمكن ارتفاعها فتكون مؤقتة وحرمة الرضاع لا يمكن ارتفاعها فلم يكن المحل قابلا للحل أصلا، واشترط في الملك أن لا يظهر فساده بالاستحقاق فلو اشترى جارية فوطئها ثم استحقت فقذفه إنسان لا يحد. وفي كافي
الحاكم والقهستاني والفتح أن الوطء في الشراء الفاسد يسقط الحد عن القاذف وحمله بعضهم على ما ذكرنا، وقال بعض الأجلة: كما يشترط العفة عن الزنا يشترط السلامة عن تهمته ويحترز به عن قذف ذات ولد ليس له أب معروف فإنهم ذكروا أنه لا يحد قاذفها لمكان التهمة، وقد ذكر ذلك الحصكفي في باب اللعان من شرح تنوير الأبصار، ولا تقاس اللواطة على الزنا فلو قذف بها لا يحد القاذف خلافا لأبي يوسف ومحمد وقد اختلفا في أحكام كثيرة ذكرها زين الدين في بحره، وأما اعتبار الحرية فلأنها يطلق عليها اسم الإحصان قال الله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ فإن المراد بالمحصنات فيه الحرائر فالرقيق ليس محصنا بهذا المعنى وكونه محصنا بمعنى آخر كالإسلام وغيره فيكون محصنا من وجه دون وجه وذلك شبهة في إحصانه فوجب درء الحد عن قاذفه فلا يحد حتى يكون محصنا بجميع المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره في تحقق الإحصان وهو كون المقذوفة زوجة أو كون المقذوف زوجا فإنه جاء بمعناه في قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٢٤] أي المتزوجات ولا يعتبر في إحصان القذف بل في إحصان الرجم، ثم لا شك في أن الإحصان أطلق بمعنى الحرية كما سمعت وبمعنى الإسلام في قوله عز وجل: فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: ٢٥] قال ابن مسعود:
أسلمن وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان، وعن داود عدم اشتراط الحرية وأنه يحد قاذف العبد وأما اعتبار العقل والبلوغ ففيه إجماع إلا ما روي عن أحمد عليه الرحمة من أن الصبي الذي يجامع مثله محصن فيحد قاذفه، والأصح عنه موافقة الجماعة، وقول مالك في الصبية التي يجامع مثلها يحد قاذفها خصوصا إذا كانت مراهقة فإن الحد لعلة إلحاق العار ومثلها يلحقه العار، وكذا قوله وقول الليث: إنه يحد قاذف المجنون لذلك والجماعة يمنعون كون الصبي والمجنون يلحقهما العار بنسبتهما إلى الزنا بل ربما يضحك من ناسبهما إليه إما لعدم صحة قصده منهما وإما لعدم مخاطبتهما بالمحرمات وما أشبه ذلك، ولو فرضنا لحوق عار بالمراهق فليس ذلك على الكمال فيندرئ الحد، ومثل الصبي والمجنون في أنه ربما يضحك من نسبة الزنا إليهما الرتقاء والمجبوب بل هما أولى بذلك لعدم تصوره فيهما ولذا لا يحد بقذفهما، وإلا ما روي عن سعيد وابن أبي ليلى من أنه يحد بقذف الذمية إذا كان لها ولد مسلم، وكذا ما قيل: إنه يحد بقذفها إذا كانت تحت مسلم، ثم إن الإسلام والحرية إذا لم يكونا موجودين وقت الزنا المقذوف به بل كانا موجودين وقت القذف لا يفيدان شيئا فلو قذف امرأة مسلمة زنت في نصرانيتها أو رجلا مسلما زنى في نصرانيته وقال: زنيت وأنت كافرة أو زنيت وأنت كافر أو قذف معتقا زنى وهو عبد أو معتقة زنت وهي أمة وقال: زنيت أو زنيت وأنت عبد أو أنت أمة لا يحد، وكذا المكاتب والمكاتبة والكافر الحربي إذا زنى في دار الحرب ثم أسلم، ويفهم من كلامهم أن البلوغ والعقل كالإسلام والحرية في ذلك، فقد صرحوا فيما إذا قال: زنيت وأنت صغيرة أو زنيت وأنت مجنون بأنه لا يحد، وكان المدار في درء الحد الصدق في كل ذلك، ومن هنا قال في المبسوط: إن الموطوءة إذا كانت مكرهة يسقط إحصانها ولا يحد قاذفها كما يسقط إحصان المكره الواطئ ولا يحد قاذفه لأن الإكراه يسقط الإثم ولا يخرج الفعل به من أن يكون زنى، لكن ذكر فيه أن من قذف زانيا لا حد عليه سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنى آخر من جنسه أو أبهم في حالة القذف، ووجه أن الله تعالى أوجب الحد على من رمى المتصف بالإحصان وبالزنا لا يبقى إحصان فلا يثبت الحد خلافا لإبراهيم وابن أبي ليلى، نعم إذا كان القذف بزنا تاب عنه المقذوف يعزر القاذف، وهذا يقتضي أنه لا يحتاج سقوط الحد في المسائل السابقة إلى التقييد فليتأمل، ولو تزوج مجوسي بأمه أو بنته ثم أسلم ففسخ النكاح فقذفه مسلم في حال إسلامه يحد عند أبي حنيفة عليه الرحمة بناء على ما يراه من أن أنكحة المجوس لها حكم الصحة.
وقال الإمامان: لا يحد بناء على أن ليس لها حكم الصحة وهو قول الأئمة الثلاثة، ولا يعلم خلاف بين من يعتبر الحرية في الإحصان في أنه لا حد على من قذف مكاتبا مات وترك وفاء لتمكن الشبهة في شرط الحد وهو الإحصان لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أنه مات حرا أو عبدا وذلك يوجب درء الحد ولأنه يدرأ بالشبهة، لا يحد من قذف أخرس فإن هناك احتمال أن يصدقه لو نطق ولا يعول على إشارته هنا وإن قالوا: إنها تقوم مقام عبارته في بعض الأحكام لقيام الاحتمال فيها، واشترطوا أيضا أن يوجد الإحصان وقت الحد حتى لو ارتد المقذوف سقط الحد ولو أسلم بعد، وكذا لو زنى أو وطئ وطأ حراما أو صار معتوها أو أخرس وبقي ذلك لم يحد كما في كافي الحاكم، واشترطوا أيضا أن لا يموت قبل أن يحد القاذف لأن الحد لا يورث، وأن لا يكون المقذوف ولد القاذف أو ولد ولده فلا يحد من قذف أحدهما إلى غير ذلك مما ستعلم بعضه إن شاء الله تعالى، ولم يصرح أكثر الفقهاء بشروط القاذف، ويفهم من كلامهم أنه يشترط فيه أن يكون- بالغا- فلا يحد الصبي إذا قذف ويعزر- عاقلا- فلا يحد المجنون ولا لسكران إلا إذا سكر بمحرم- ناطقا- فلا يحد الأخرس لعدم التصريح بالزنا، وصرح بهذا ابن الشلبي عن النهاية- طائعا- فلا يحد المكره- قاذفا- في دار العدل. فلا يحد القاذف في دار
الحرب أو البغي، وفي الآية إشارة إلى بعض ذلك، ويحتمل أن يعد من الشروط كونه عالما بالحرمة حقيقة أو حكما بأن يكون ناشئا في دار الإسلام، لكن في كافي الحاكم حربي دخل دار الإسلام بأمان فقذف مسلما يحد في قوله الأخير وهو قول صاحبيه، وظاهره أنه يحد ولو كان قذفه في فور دخوله، ولعل وجهه أن الزنا حرام في كل ملة فيحرم القذف به أيضا فلا يصدق بالجهل، ويشترط أن يكون القذف بصريح الزنا بأي لسان كان كما صرح به جمع من الفقهاء وألحقوا به بعض ألفاظ ثبت الحد بها بالأثر والإجماع فيحد بقوله: زنيت أو زاني بياء ساكنة وكذا يا زانىء بهمزة مضمومة عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد فلا يحد بذلك عنده لأنه حقيقة عنده في الصعود. وتعقب بأن ذلك إنما يفهم منه إذا ذكر مقرونا بمحل الصعود، على أنه ينبغي أن يكون المذهب أنه لو قيل مع ذكر محل الصعود في حالة الغضب والسباب يكون قذفا، فقد جزم في المبسوط بالحد فيما إذا قال: زنأت في الجبل أو على الجبل في حالة الغضب ولو قال لامرأة: يا زاني حد اتفاقا، وعلله في الجوهرة بأن الأصل في الكلام التذكير، ولو قال للرجل: يا زانية لا يحد عند الإمام وأبي يوسف لأنه أحال كلامه فوصف الرجل بصفة المرأة، وقال محمد: يحد لأن الهاء تدخل للمبالغة كما في علامة، وأجيب بأن كونها للمبالغة مجاز بل هي لما عهد لها من التأنيث ولو كانت في ذلك حقيقة فالحد لا يجب للشك، ويحد بقوله: أنت أزنى من فلان أو مني على ما في الظهيرية وهو الظاهر، لكن في الفتح عن المبسوط أنه لا حد في أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس، وعلله في الجوهرة بأن معناه أنت أقدر على الزنا، وفي الفتح بأن أفعل في مثله يستعمل للترجيح في العلم فكأنه قال: أنت أعلم بالزنا، ولا يخفى أن قصد ذلك في حالة السباب بعيد، وفي الخانية في أنت أزنى الناس أو أزنى من فلان الحد، وفي أنت أزنى مني لا حد، ولا يخفى أن التفرقة غير ظاهرة، وقد يقال: إن قوله: أنت أزنى من فلان فيه نسبة فلان إلى الزنا وتشريك المخاطب معه في ذلك بخلاف أنت أزنى مني لأن فيه نسبة نفسه إلى الزنا وذلك غير قذف فلا يكون قذفا للمخاطب لأنه تشريك له فيما ليس بقذف، ويحد بلست لأبيك لما فيه من نسبة الزنا إلى الأم ولما جاء في الأثر عن ابن مسعود لا حد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل من أبيه، وقيد بكونه في حالة الغضب إذ هو في حالة الرضا يراد به المعاتبة بنفي مشابهته له، وذكر أن مقتضى القياس أن لا حد به مطلقا لجواز أن ينفى النسب من أبيه من غير أن تكون الأم زانية من كل وجه بأن تكون موطوءة بشبهة ولدت في عدة الواطئ لكن ترك ذلك للأثر، ولا حد بالتعريض كأن يقول ما أنا بزان أو ليست أمي زانية وبه قال الشافعي وسفيان الثوري وابن شبرمة والحسن بن صالح وهو الرواية المشهورة عن أحمد، وقال مالك وهو رواية عن أحمد: يحد
بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: كان عمر رضي الله تعالى عنه يضرب الحد بالتعريض،
وعن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه جلد رجلا بالتعريض
، ولأنه إذا عرف المراد بدليله من القرينة صار كالصريح، وللجماعة أن الشارع لم يعتبر مثله فإنه حرم صريح خطبة المتوفى عنها زوجها في العدة وأباح التعريض فقال سبحانه: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة: ٢٣٥] وقال تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ [البقرة:
٢٣٥] فإذا ثبت من الشرع عدم اتحاد حكمهما في غير الحد لم يجز أن يعتبر مثله على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه، وهو أولى من الاستدلال بأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يلزم الحد للذي قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود يعرض بنفسه لأن إلزام حد القذف متوقف على الدعوى والمرأة لم تدع ذلك، ولا حد بوطئك فلان وطأ حراما أو جامعك حراما أو فجرت بفلانة أو يا حرام زاده أو اذهب فقل لفلان: إنك زان فذهب الرسول فقال له ذلك عنه بأن قال: فلان يقول إنك زان لا إذا قال له: إنك زان فإنه يحد الرسول حينئذ، واستيفاء ما فيه حد وما لا حد فيه في كتب الفقه، وقولنا في كذا حد على إرادة إذا تحقق الشرط المفهوم من قوله سبحانه: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا إلخ، واشترط الإتيان بأربعة شهداء تشديدا على القاذف، ويشترط كونهم رجالا لما صرحوا به من أنه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود، وظاهر إتيان التاء في العدد مشعر باشتراط كونهم كذلك، ولا يشترط فيهم العدالة ليلزم من عدم الإتيان بأربعة شهداء عدول الجلد لما صرح به في الملتقط من أنه لو أتى بأربعة فساق فشهدوا أن الأمر كما قال درىء الحد عن القاذف والمقذوف والشهود، ووجه ذلك أن في الفاسق نوع قصور وإن كان من أهل الأداء والتحمل ولذا لو قضى بشهادته نفذ عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا فيسقط الحد عنهم وعن القاذف وكذا عن المقذوف لاشتراط العدالة في الثبوت، ولو كانوا عميانا أو عبيدا أو محدودين في قذف فإنهم يحدون للقذف دون المشهود عليه لعدم أهلية الشهادة فيهم كما قيل.
والظاهر أن القاذف يحد أيضا لأن الشهود إذا حدوا مع أنهم إنما تكلموا على وجه الشهادة دون القذف فحد القاذف أولى، والظاهر أن المراد ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على من رمي بأنه زنى، والمتبادر أن يكون ذلك عن معاينة لكن قال في الفتح: لو شهد رجلان أو رجل وامرأتان على إقرار المقذوف بالزنا يدرأ عن القاذف الحد وكذا عن الثلاثة أي الرجل والمرأتين لأن الثابت بالبينة كالثابت فكأنا سمعنا إقراره بالزنا انتهى.
وأنت تعلم أن البينة على الإقرار لا تعتبر بالنسبة إلى حد المقذوف لأنه إن كان منكرا فقد رجع بالإنكار عن الإقرار وهو موجب لدرء الحد فتلغو البينة، وإن أقر بشرطه لا تسمع فإنها إنما تسمع مع الإقرار في سبعة مواضع ليس هذا الموضع منها، ويشترط اجتماع شهود الزنا في مجلس الحاكم بأن يأتوا إليه مجتمعين أو فرادى ويجتمعوا فيه ويقوم منهم إلى الحاكم واحد بعد واحد فإن لم يأتوا كذلك بأن أتوا متفرقين أو اجتمعوا خارج مجلس الحاكم ودخلوا واحدا بعد واحد لم تعتبر شهادتهم وحدوا حد القذف.
والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شُهَداءَ وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن الحسن والشعبي وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج وتحد الثلاثة، وروي مثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وظاهر الآية أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد وحده ولا يجلد الشاهد إلا أن المأثور جلده، فقد روي أنه شهد على المغيرة بالزنا شبل بن معبد البجلي وأبو بكرة وأخوه نافع وتوقف زياد فحد الثلاثة عمر رضي الله تعالى عنه بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكروا عليه وهم هم وفي كلمة ثُمَّ إشعار بجواز تأخير الإتيان بالشهود كما أن في كلمة لَمْ إشارة إلى تحقق العجز عن الإتيان بهم وتقرره.
وفي غير كتاب من كتب الفروع لأصحابنا أن القاذف إذا عجز عن الشهود للحال واستأجل لإحضارهم زاعما أنهم في المصر يؤجل مقدار قيام الحاكم من مجلسه فإن عجز حد ولا يكفل ليذهب لطلبهم بل يحبس ويقال: ابعث إليهم من يحضرهم عند الإمام، وأبي يوسف في أحد قوليه لأن سبب وجوب الحد ظهر عند الحاكم فلا يكون له أن يؤخر الحد لتضرر المقذوف بتأخير دفع العار عنه والتأخير مقدار قيامه من المجلس قليل لا يتضرر به، وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد يكفل أي بالنفس إلى ثلاثة أيام.
وكان أبو بكر الرازي يقول: مراد أبي حنيفة أن الحاكم لا يجبره على إعطاء الكفيل فأما إذا سمحت نفسه به فلا بأس لأن تسليم نفسه مستحق عليه والكفيل بالنفس إنما يطالب بهذا القدر، وذكر ابن رستم عن محمد أنه إذا لم يكن له من يأتي بالشهود يبعث معه الحاكم واحدا ليرده عليه، والأمر في قوله سبحانه: فَاجْلِدُوهُمْ لولاة الأمر ونوابهم.
والظاهر وجوب الجلد إن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن ليلى، وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلا بمطالبته. وقال مالك: كذلك إلا أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إن كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف كذا قال أبو حيان وللمقذوف المطالبة وإن كان آمرا للقاذف بقذفه لأن بالأمر لا يسقط الحد كما نقل الحصكفي ذلك عن شرح التكملة ثم لا يخفى أن القول بأن القاذف لا يحد إلا بمطالبة المقذوف ظاهر في أن الحد حق العبد ويشهد لذلك أحكام كثيرة ذكرها أصحابنا. منها أنه لا تبطل الشهادة على ما يوجبه بالتقادم، ومنها أنه لا يدفعه الرجوع عن الإقرار بموجبه. ومنها أنه يقام على المستأمن وإنما يؤاخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد، ومنها أنه يقدم استيفاؤه على استيفاء حد الزنا وحد السرقة وشرب الخمر ومنها أنه يقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في أيام قضائه ولذا لو قذف بحضرته يحده.
وعندنا أحكام تشهد بأنه حق الله عز وجل. منها أن استيفاءه إلى الإمام وهو إنّما يتعين نائبا في استيفاء حق الله تعالى وأما حق العبد فاستيفاؤه إليه. ومنها أنه لا يحلف القاذف إذا أنكر سببه وهو القذف ولم تقم عليه بينة. ومنها أنه لا ينقلب مالا عند السقوط. ومنها أنه يتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقا له عز وجل، وذكر ابن الهمام أنه لا خلاف في أن فيه حق الله تعالى وحق العبد إلا أن الشافعي مال إلى تغليب حق العبد باعتبار حاجته وغنى الحق سبحانه وتعالى ونحن صرنا إلى تغليب حق الله تعالى لأن ما للعبد من الحقوق يتولى استيفاءه مولاه فيصير حق العبد موجبا لتغليب حق الله تعالى لا مهدرا ولا كذلك عكسه أي لو غلب حق العبد لزم أن لا يستوفي حق الله عز وجل إلا بأن يجعل ولاية استيفائه إليه وذلك لا يجوز إلا بدليل ينصبه الشرع على إنابة العبد في الاستيفاء ولم يثبت ذلك بل الثابت هو استنابة الإمام حتى كان هو الذي يستوفيه كسائر الحدود التي هي حقه سبحانه وتعالى. ويتفرع على الخلاف أن من ثبت أنه قذف فمات قبل إقامة الحد على القاذف لا يورث عنه إقامة الحدّ عندنا إذ الإرث يجري في حقوق العباد بشرط كونها مالا أو ما يتصل بالمال (١) أو ما ينقلب إليه (٢) وتورث عنده، وأن الحد لا يسقط عندنا بعد ثبوته إلا أن يقول المقذوف: لم يقذفني أو كذب شهودي وحينئذ يظهر أن القذف لم يقع موجبا للحد لا أنه وقع ثم سقط بقوله ذلك وهو كما إذا صدقه المقذوف، وقال زين الدين: إن المقذوف إذا عفا لم يكن للإمام استيفاء الحد
(٢) كالقصاص.
لعدم الطلب فإذا عاد وطلب يقيمه ويلغو العفو، وعند الشافعي يصح العفو وعن أبي يوسف مثله، وكأن المراد أنه إذا عفا سقط الحد ولا ينفع العود إلى المطالبة وأنه لا يجوز الاعتياض عنه عندنا وبه قال مالك، وعنده يجوز وهو قول أحمد وأنه يجري فيه التداخل عندنا لا عنده وبقولنا قال مالك والثوري والشعبي والنخعي والزهري وقتادة وطاوس وحماد وأحمد في رواية حتى إذا حد إلا سوطا فقذف آخر فإنه يتم الأول ولا شيء للثاني.
وكذا إذا قذف واحدا مرات أو جماعة بكلمة مثل أنتم زناة أو بكلمات مثل أنت يا زيد زان وأنت يا عمرو زان وأنت يا بشر زان في يوم أو أيام يحد حدا واحدا إذا لم يتخلل حد بين القذفين.
ووافقنا الشافعي في الحد الواحد لقاذف جماعة بكلمة مرة واحدة، وفي الظهيرية من قذف إنسانا فحد ثم قذفه ثانيا لم يحد، والأصل فيه ما روي أن أبا بكرة لما شهد على المغيرة فحد لما سمعت كان يقول بعد ذلك في المحافل: أشهد إن المغيرة لزان فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يحده ثانيا فمنعه علي كرم الله تعالى وجهه فرجع إلى قوله وصارت المسألة إجماعا اهـ، والظاهر أن هذا فيما إذا قذفه ثانيا بالزنا الأول أو أطلق لحمل إطلاقه على الأول لأن المحدود بالقذف يكرر كلامه لإظهار صدقه فيما حد به كما فعل أبو بكرة فإنه لم يرد أن المغيرة لزان أنه زان غير الزنا الأول، أما إذا قذفه بعد الحد بزنا آخر فإنه يحد به كما في الفتح.
وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في مبسوطه الصحيح أن الغالب في هذا الحد حق العبد كما قال الشافعي لأن أكثر الأحكام تدل عليه والمعقول يشهد له وهو أن العبد ينتفع به على الخصوص، وقد نص محمد في الأصل على أن حد القذف كالقصاص حق العبد، وتفويضه إلى الإمام لأن كل أحد لا يهتدي إلى إقامته ولأنه ربما يريد المقذوف موته لحنقه فيقع متلفا، وإنما لا يورث لأنه مجرد حق ليس مالا ولا بمنزلته فهو كخيار الشرط وحق الشفعة بخلاف القصاص فإنه ينقلب إلى المال، وأيضا هو في معنى ملك العين لأن من له القصاص يملك إتلاف العين وملك الإتلاف ملك العين عند الناس فصار من عليه القصاص كالملك لمن له القصاص فيملكه الوارث في حق استيفاء القصاص، وإنما لا يصح عفوه لأنه متعنت فيه لأنه رضا بالعار والرضا بالعار عار ولا يخفى ما في ذلك من الأبحاث.
والشافعي يستدل بالآية لعدم التدخل فإن مقتضاها ترتب الحكم على الوصف المشعر بالعلية فيتكرر بتكرره ويجاب بأن الإجماع لما كان على دفع الحدود بالشبهات كان مقيدا لما اقتضته الآية من التكرر عند التكرر بالتكرر الواقع من بعد الحد الأول بل هذا ضروري لظهور أن المخاطبين بالإقامة في قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ هم الحكام ولا يتعلق بهم هذا الخطاب إلا بعد الثبوت عندهم فكان حاصل الآية إيجاب الحد إذا ثبت عندهم السبب وهو الرمي وهو أعم من كونه بوصف الكثرة أو القلة فإذا ثبت وقوعه منه كثيرا كان موجبا للجلد ثمانين ليس غير فإذا جلد ذلك وقع الامتثال، ثم هو عليه الرحمة ترك مقتضى التكرر بالتكرر فيما إذا قذف واحدا مرة ثم قذفه ثانيا بذلك الزنا فإنه لا يحد مرتين عنده أيضا، وكذا في حد الزنا والشرب فإنه إذا زنى ألف مرة أو شرب كذلك لا يحد إلا مرة، فالحق أن استدلاله بالآية لا يخلص فإنه ملجىء إلى ترك منها من آية أخرى وهي آية حد الزنا فيعود إلى أن هذا حق آدمي بخلاف الزنا فكان المبني هو إثبات أنه حق الله عز وجل أو حق العبد، والنظر الدقيق يقتضي أن الغالب فيه حق الله سبحانه وتعالى فتدبر.
ثم الظاهر أن الرمي المراد في الآية لا يتوقف على حضور المرمي وخطابه فقذف المحصن حاضرا أو غائبا له الحكم المذكور كما في التتار خانية نقلا عن المضمرات واعتمده في الدرر، ويدل على أن الغيبة كالحضور حده صلّى الله عليه وسلّم أهل الإفك مع أنه لم يشافه أحد منهم به من نزهها الله تعالى عنه، فما في حاوي الزاهدي سمع من أناس كثيرة أن
فلانا يزني بفلانة فتكلم بما سمعه منهم مع آخر في غيبة فلان لا يجب حد القذف لأنه غيبة لا رمي وقذف بالزنا لأن الرمي والقذف به إنما يكون بالخطاب كقوله: يا زاني يا زانية ضعيف لا يعول عليه.
والظاهر أيضا أنه لا فرق بين رمي الحي ورمي الميت فإذا قال: أبوك زان أو أمك زانية كان قاذفا ويحد عند تحقق الشرط لا لو قال: جدك زان فإنه لا حد عليه لما في الظهيرية من أنه لا يدري أي جد هو، وفي الفتح لأن في أجداده من هو كافر فلا يكون قاذفا ما لم يعين محصنا. ويطالب بحد القذف للميت من يقع القدح في نسبه بالقذف وهو الوالد وإن علا والولد وإن سفل، ولا يطالبان عن غائب خلافا لابن أبي ليلى لعدم اليأس عن مطالبته ولأنه يجوز أن يصدق القاذف، وولد البنت كولد الابن في هذا الفصل خلافا لما روي عن محمد، وتثبت المطالبة للمحروم عن الميراث بقتل أو رق أو كفر، نعم ليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة التي قذفها في حال موتها، وعند زفر إذا كان الولد عبدا أو كافرا لا حق له فيها مطلقا، وتثبت للأبعد مع وجود الأقرب فيطالب ولد الولد مع وجود الولد خلافا لزفر ولو عفا بعضهم كان لغيره المطالبة لأنها لدفع العار عن نفسه، والأم كالأب تطالب بحد قذف ولدها لا أم الأم وأبوها، ولا يطالب الابن أباه وجده وإن علا بقذف أمه وهو قول الشافعي وأحمد ورواية عن مالك، والمشهور عنه أن للابن أن يطالب الأب بقذف الأم فيقيم عليه الحد وهو قول أبي ثور وابن المنذر لعموم الآية أو إطلاقها ولأنه حد هو حق الله عز وجل ولا يمنع من إقامته قرابة الولاد.
وأجيب بأن عموم قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: ٢٣] مانع من إقامة الولد الحد على أبيه ولا فائدة للمطالبة سوى ذلك والمانع مقدم
وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده»
وأجمعوا على أنه لا يقتص منه بقتل ولده ولا شك أن إهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق الأولى مع أن القصاص متيقن سببه والمغلب فيه حق العبد بخلاف حد القذف فيهما، ولا حق لأخي الميت وعمه وعمته وخاله وخالته في المطالبة بحد قذفه.
وعند الشافعي ومالك عليهما الرحمة تثبت المطالبة لكل وارث وهو رواية غريبة عن محمد، وللشافعية فيمن يرثه ثلاثة أوجه، الأول جميع الورثة. والثاني غير الوارث بالزوجية. والثالث ذكور العصبات لا غير. والظاهر أن مطالبة من له المطالبة بالحد غير واجبة عليه بل في التتار خانية وحسن أن لا يرفع القاذف إلى القاضي ولا يطالب بالحد وحسن من الإمام أن يقول للمطالب أعرض عنه ودعه اهـ.
وكأنه لا فرق في هذا بين أن يعلم الطالب صدق القاذف وأن يعلم كذبه وما نقل في القنية من أن المقذوف إذا كان غير عفيف في السر له مطالبة القاذف ديانة فيه نظر لا يخفى، وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن يكون الرامي حرا وأن يكون عبدا فيجلد كل منهما إذا قذف وتحقق الشرط ثمانين جلدة، وبذلك قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي وجمهور الأئمة على أن العبد ينصف له الحد لما علمت أول السورة وإذا أريد إقامة الحد على القاذف لا يجرد من ثيابه إلا في قول مالك لأن سببه هو النسبة إلى الزنا كذبا غير مقطوع به لجواز كونه صادقا غير أنه عاجز عن البيان.
نعم ينزع عنه الفرو والثوب المحشو لأنهما يمنعان من وصول الألم إليه كذا في عامة الكتب، ومقتضاه أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع، والظاهر كما في الفتح أنه لو كان هذا الثوب فوق قميص نزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبا من ذلك ويمنع إيصال الألم وكيف لا والضرب هنا أخف من ضرب الزنا، هذا وقرأ أبو
زرعة وعبد الله بن مسلم «بأربعة» بالتنوين فشهداء بدل أو صفة، وقيل حال أو تمييز وليس بذاك، وهي قراءة فصيحة ورجحها ابن جني على قراءة الجمهور بناء على إطلاق قولهم: إنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الإتباع أجود من الإضافة.
وتعقب بأن ذاك إذا لم تجر الصفة مجرى الأسماء في مباشرتها العوامل وأما إذا جرت ذلك المجرى فحكمها حكمها في العدد وغيره غاية ما في الباب أنه يجوز فيها الإبدال بعد العدد نظرا إلى أنها غير متمحضة الاسمية وشُهَداءَ من ذلك القبيل. فأربعة شهداء. بالإضافة أفصح من «أربعة شهداء» بالتنوين والاتباع. وقال ابن عطية:
وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى، وكأنه أراد الطعن في هذه القراءة على هذا القول، وفيه أن سيبويه إنما يرى ذلك في العدد الذي بعده اسم نحو ثلاثة رجال دون الذي بعده صفة فإنه على التفصيل الذي ذكر كما قال أبو حيان.
وقوله سبحانه: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أي مدة حياتهم كما هو الظاهر عطف على فَاجْلِدُوا داخل في حكمه تتمة له كأنه قيل: فاجلدوهم وردوا شهادتهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد، ورد شهادتهم عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة معلق باستيفاء الجلد فلو شهدوا قبل الجلد أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادتهم، وقيل: ترد إذا ضربوا سوطا، وقيل: ترد إذا أقيم عليهم الأكثر، ومن الغريب ما روى ابن الهمام عن مالك أنه مع قوله: إن للابن أن يطالب بحد والده إذا قذف أمه قال: إنه إذا حد الأب سقطت عدالة الابن لمباشرته سبب عقوبة أبيه أي وكذا عدالة الأب وهذا ظاهر، وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلام مستأنف مبين لسوء حالهم في حكم الله عز وجل، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفساد أي أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز عن الحدود الكاملون فيه كأنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم لا غيرهم من الفسقة، ويعلم مما أشرنا إليه أنهم فسقة عند الشرع الحاكم بالظاهر لا أنهم كذلك في نفس الأمر وعند الله عز وجل العالم بالسرائر لاحتمال صدقهم مع عجزهم عن الإتيان بالشهداء كما لا يخفى، وصرح بهذا بعض المفسرين.
وجوز أن يكون المراد الإخبار عن فسقهم عند الله تعالى وفي علمه، ووجهه إذا كانوا كاذبين ظاهر، وأما وجهه إذا كانوا صادقين فهو أنهم هتكوا ستر المؤمنين وأوقعوا السامع في الشك من غير مصلحة دينية بذلك والعرض مما أمر الله تعالى بصونه إذا لم يتعلق بهتكه مصلحة فكانوا فسقة غير ممتثلين أمره عز وجل، ولا يخفى حسن حمل الآية على هذا المعنى وهو أوفق لما ذكره الحصكفي في شرح الملتقى نقلا عن النجم الغزي من أن الرمي بالزنا من الكبائر وإن كان الرامي صادقا ولا شهود له عليه ولو من الوالد لولده وإن لم يحد به بل يعزر ولو غير محصن وشرط الفقهاء الإحصان إنما هو لوجوب الحد لا لكونه كبيرة،
وقد روى الطبراني عن واثلة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قذف ذميا حد له يوم القيامة بسياط من نار»
وهذه مسألة مختلف فيها، ففي شرح جمع الجوامع للعلامة المحلي قال الحليمي:
قذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر لأن الإيذاء في قذفهن دونه الحرة الكبيرة المستترة، وقال ابن عبد السلام: قذف المحصن في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله تعالى والحفظة ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة أما قذف الرجل زوجته إذا أتت بولد يعلم أنه ليس منه فمباح، وكذا جرح الراوي والشاهد بالزنا إذا علم بل هو واجب انتهى، وظاهر ما نقل عن ابن عبد السلام ففي إيجاب الحد لا نفي كونه كبيرة أيضا لشيوع توجه النفي إلى القيد في مثله، وإن قلنا: إنه هنا لنفي القيد والمقيد فهو ظاهر كما قال الزركشي فيما إذا كان صادقا لا فيما إذا كان كاذبا لجرأته على الله تعالى جل شأنه فهو كبيرة وإن كان في الخلوة، ولعل ما ذكره من وجوب جرح الشاهد بالزنا
إذا علم مقيد بما إذا قدر على الإتيان بالشهود، والأولى عندي فيما إذا كان الضرر في قبول شهادته عليه يسيرا عدم الجرح بذلك وإن قدر على إثباته، وما ذكره في جرح الراوي لا يتم فيما أرى على رأي من يعتبر الجرح المجرد عن بيان السبب، ولا يبعد القول بأن الرمي منه ما هو كفر كرمي عائشة رضي الله تعالى عنها سواء كان جهرا أو سرا وسواء كان بخصوص الذي برأها الله تعالى منه أو بغيره وكذا رمي سائر أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وكذا القول في مريم عليها السلام، ومنه ما هو كبيرة دون الكفر ومثاله ظاهر، ومنه ما هو صغيرة كرمي المملوكة والصغيرة، ومنه ما هو واجب كرمي شاهد على مسلم معصوم الدم بما يكون سببا لقتله لو قبلت شهادته وعلم كونها زورا وتعين ذلك لرد شهادته وصيانة ذلك المسلم من القتل ولو كان رميه مع إقامة البينة عليه بالزنا موجبا لرجمه، ومنه ما هو سنة كرمي ترتبت عليه مصلحة دون مصلحة الرمي الواجب، وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا استثناء من الفاسقين كما صرح به أكثر الأصحاب، وقال بعضهم: المستثنى منه في الحقيقة أُولئِكَ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، ومحل المستثنى النصب لأنه عن موجب، وقوله عز وجل: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لتهويل المتوب عنه أي من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم الهائل، وقوله تعالى: وَأَصْلَحُوا على معنى وأصلحوا أعمالهم بالاستحلال ممن رموه. وهذا ظاهر إن كان قد بقي حيا فإن كان قد مات فلعل الاستغفار له يقوم مقام الاستحلال منه كما قيل في نظير المسألة. فإن كانوا قد رموا أمواتا فالظاهر أنهم يستحلون ممن خاصمهم وطلب إقامة الحد عليهم، ويحتمل أن يغني عنه الاستغفار لمن رموه. والجمع بين الاستحلال من أولئك المخاصمين والاستغفار للمرميين أولى ولم أر من تعرض لذلك.
وكون الاستثناء من الجملة الأخيرة مذهب الحنفية فعندهم لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح لكن قالوا: إن حد الكافر ثم أسلم قبلت شهادته وإن لم تكن تقبل قبل على أهل الذمة، ووجهه أن النص موجب لرد شهادته الناشئة عن أهليته الثابتة له عند القذف ولذا قيل: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً دون ولا تقبلوا شهادتهم أي ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند الرمي والشهادة التي كانت حاصلة للكافر عند الرمي هي الشهادة على أبناء جنسه فتدخل تحت الرد، وأما الشهادة التي اعتبرت بعد الإسلام فغير تلك الشهادة ولهذا قبلت على أهل الإسلام وغيرهم فلم تدخل تحت الرد، وهذا بخلاف العبد إذا حد في قذف ثم أعتق فإنه لا تقبل شهادته لأنه لم تكن له شهادة من قبل للرق فلزم كون تتميم حده بر شهادته التي تجددت له، وقد طلب الفرق بينه وبين من زنى في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام فإنه لا يحد حيث توقف حكم الموجب في العبد إلى أن أمكن ولم يتوقف في الزنا في دار الحرب إلى الإمكان بالخروج إلى دار الإسلام.
وأجيب بأن الزنا في دار الحرب لم يقع موجبا أصلا لعدم قدرة الإمام فلم يكن الإمام مخاطبا بإقامته أصلا لأن القدرة شرط التكليف فلو حد بعد خروجه من غير سبب آخر كان بلا موجب وغير الموجب لا ينقلب موجبا بنفسه خصوصا في الحد المطلوب درؤه، وأما قذف العبد فموجب حال صدوره للحد غير أنه لم يكن تمامه في الحال فتوقف تتميمه على حدوث ذلك بعد العتق كذا قيل، وقال في المبسوط في الفرق بين الكافر إذا أسلم بعد الحد والعبد إذا أعتق بعده: إن الكافر استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة له عند إقامة الحد وهذه العدالة لم تكن مجروحة بخلاف العبد فإنه بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن من قبل وقد صارت عدالته مجروحة بإقامة الحد، ثم لا فرق في العبد بين أن يكون حد ثم أعتق وبين أن يكون أعتق ثم حد حيث لم تقبل شهادته في الصورتين، وأما الكافر فإنه لو قذف محصنا ثم أسلم ثم حد لا تقبل شهادته، ومقتضى الآية عدم قبول كل شهادة للمحدود حادثة كانت أو
قديمة لما أن شَهادَةً نكرة وهي واقعة في حيز النهي فتفيد العموم كالنكرة الواقعة في حيز النفي، وهذا يعكر على ما مر من قبول شهادة الكافر المحدود إذا أسلم، وأجاب العلامة ابن الهمام بأن التكليف بما في الوسع وقد كلف الحكام برد شهادته فالامتثال إنما يتحقق برد شهادة قائمة فحيث ردت تحقق الامتثال وتم وقد حدثت أخرى فلو ردت كانت غير مقتضى إذ الموجب أخذ مقتضاه وللبحث فيه مجال، ومقتضى العموم أيضا عدم قبول شهادة المحدود في الديانات غيرها وهي رواية المنتقى، وفي رواية أخرى أنها تقبل في الديانات وكأنهم اعتبروها رواية وخبرا لا شهادة ورب شخص ترد شهادته وتقبل روايته، وأورد على العموم أنهم اكتفوا في النكاح بشهادة المحدودين.
وأجيب بأن الشهادة هناك بمعنى الحضور وإنما يكتفى به في انعقاد النكاح وقد صرحوا بأن للنكاح حكمين حكم الانعقاد وحكم الإظهار ولا يقبل في الثاني إلا شهادة من تقبل شهادته في سائر الأحكام كما في شرح الطحاوي والحاصل أن الآية تدل على وجوب رد شهادة المحدود على الحكام بمعنى أنه إذا شهد عندهم على حكم وجب عليهم رد شهادته ويندرج في ذلك شهادته في النكاح لأنه يشهد عندهم إذا وقع التجاحد فلا يعكر على العموم اعتبار حضوره مجلس النكاح في صحة انعقاده إذ ذلك أمر وراء ما نحن فيه كذا قيل فليتدبر، وذهب الشافعي إلى قبول شهادة المحدود إذا تاب، والمراد بتوبته أن يكذب نفسه في قذفه، ومبنى الخلاف على المشهور الخلاف فيما إذا جاء استثناء بعد جمل مقترنة بالواو هل ينصرف للجملة الأخيرة أو إلى الكل أو هناك تفصيل فالذي ذهب إليه أصحاب الشافعي انصرافه إلى الكل، والذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة انصرافه للجملة الأخيرة، وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة إن كان الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى ولا يضمر فيها شيء مما في الأولى فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على أربعة أقسام، الأول أن تختلف الجملتان نوعا كما لو قال: أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر، الثاني أن يتحدا نوعا ويختلفا اسما وحكما كما لو قال: أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران، الثالث أن يتحدا نوعا ويشتركا حكما لا اسما كما لو قال:
سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال، الرابع أن يتحدا نوعا ويشتركا اسما لا حكما ولا يشترك الحكمان في غرض من الأغراض كما لو قال: سلم علي بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال، وقوة اقتضاء اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في هذه الأقسام على هذا الترتيب وإن لم يكن الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى بأن كان بين الجملتين نوع تعلق فالاستثناء ينصرف إلى الكل وذلك على أربعة أقسام، الأول أن يتحد الجملتان نوعا واسما لا حكما غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال: أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال لاشتراكهما في غرض الإعظام، الثاني أن يتحد الجملتان نوعا ويختلفا حكما واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال: أكرم بني تميم واستأجرهم إلا الطوال، الثالث بعكس ما قبله كما لو قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال، الرابع أن يختلف نوع الجمل إلا أنه قد أضمر في الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدا، وجعل آية الرمي التي نحن فيها من ذلك حيث قيل: إن جملها مختلفة النوع من حيث إن قوله تعالى:
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً أمر وقوله سبحانه: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً نهي وقوله جل وعلا: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ خبر وهي داخلة أيضا تحت القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الانتقام والإهانة وداخلة أيضا تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها، وذهب الشريف المرتضى من الشيعة إلى القول بالاشتراك وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة إلى الوقف، وقال الآمدي: المختار أنه مهما ظهر كون الواو للابتداء فالاستثناء يكون مختصا بالجملة الأخيرة كما في القسم الأول من الأقسام الثمانية لعدم تعلق إحدى
الجملتين بالأخرى وهو ظاهر وحيث أمكن أن تكون الواو للعطف أو للابتداء كما في باقي الأقسام السبعة فالواجب الوقف، وذكر حجج المذاهب بما لها وعليها في الأحكام، وفي التلويح وغيره أنه لا خلاف في جواز رجوع الاستثناء إلى كل وإنما الخلاف في الأظهر وفيه نظر فإن بعض حجج القائلين برجوعه إلى الجملة الأخيرة قد استدل بما يدل على عدم جواز رجوعه للجميع، قال القلانسي: إن نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة إلا على ما ذهب إليه أكابر البصريين فلو قيل برجوعه إلى الجميع لكان ما بعد إلا منتصبا بالأفعال المقدرة في كل جملة ويلزم منه اجتماع عاملين على معمول واحد وذلك لا يجوز لأنه بتقدير مضادة أحدهما للآخر في العمل يلزم أن يكون المعمول الواحد مرفوعا منصوبا معا وهو محال ولأنه إن كان كل منهما مستقلا في العمل لزم عدم استقلاله ضرورة أنه لا معنى لكون كل مستقلا إلا أن الحكم ثبت به دون غيره وإن لم يكن كل منهما مستقلا لزم خلاف المفروض، وإن كان المستقل البعض دون البعض لزم الترجيح بلا مرجح، ووجه دلالته وإن بحث فيه على عدم جواز رجوعه للجميع ظاهر وكما اختلف الأصوليون في ذلك اختلف النحاة فيه ففي شرح اللمع أنه يختص بالأخيرة وأن تعليقه بالجميع خطأ للزوم تعدد العامل في معمول واحد إلا على القول بأن العامل إلا أو تمام الكلام.
وقال أبو حيان: لم أر من تكلم على هذه المسألة من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك عود الاستثناء إلى الجمل كلها كالشرط، واختار المهاباذي عوده إلى الجملة الأخيرة، وقال الولي بن العراقي: لم يطلق ابن مالك عوده إلى الجمل كلها بل استثنى من ذلك ما إذا اختلف العامل والمعمول كقولك: اكس الفقراء وأطعم أبناء السبيل إلا من كان مبتدعا فقال في هذه الصورة: إنه يعود إلى الأخيرة خاصة، ونقل عن أبي علي الفارسي القول برجوعه إلى الأخيرة مطلقا وهذا كقول الحنفية في المشهور، والحق أنهم إنما يقولون برجوعه إلى الأخيرة فقط إذا تجرد الكلام عن دليل رجوعه إلى الكل أما إذا وجد الدليل عمل به وذلك كما في قوله تعالى في المحاربين: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا إلى قوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فإن قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: ٣٣، ٣٤] يقتضي رجوعه إلى الكل فإنه لو عاد إلى الأخيرة أعني قوله سبحانه: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لم يبق للتقييد بذلك فائدة للعلم لأن التوبة تسقط العذاب فليس فائدة «من قبل» إلخ إلا سقوط الحد وعلى مثل ذلك ينبغي حمل قول الشافعية بأن يقال: إنهم أرادوا رجوع الاستثناء إلى الكل إذا لم يكن دليل يقتضي رجوعه إلى الأخيرة.
وذكر بعض أجلة المحققين أن الحنفية إنما قالوا برجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة هنا لأن الجملتين الأوليين وردتا جزاء لأنهما أخرجتا بلفظ الطلب مخاطبا بهما الأئمة ولا يضر اختلافهما أمرا ونهيا والجملة الأخيرة مستأنفة بصيغة الإخبار دفعا لتوهم استبعاد كون القذف سببا لوجوب العقوبة التي تندرئ بالشبهة وهي قائمة هنا لأن القذف خبر يحتمل الصدق وربما يكون حسبة، ووجه الدفع أنهم فسقوا بهتك ستر العفة بلا فائدة حيث عجزوا عن الإثبات فلذا استحقوا العقوبة وحيث كانت مستأنفة توجه الاستثناء إليها.
ونقل عن الشافعي أنه جعل وَلا تَقْبَلُوا استئنافا منقطعا عن الجملة السابقة وأبى أن يكون من تتمة الحد لأنه لا مناسبة بين الجلد وعدم قبول الشهادة وجعل الاستثناء مصروفا إليه بجعل من تاب مستثنى من ضمير لَهُمْ ويكون قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة غير منقطع عما قبله ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى منه ولا تعلق للاستثناء به، وآثر ذلك ابن الحاجب في أماليه حيث قال: إن الاستثناء لا يرجع إلى الكل أما الجلد فبالاتفاق، وأما قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فلأنه إنما جيء به لتقرير
منع الشهادة فلم يبق إلا الجملة الثانية فيرجع إليها، وتعقب بأن استئناف وَلا تَقْبَلُوا إلخ في غاية البعد، والمراد من عدم قبول الشهادة ردها ومناسبته للجلد ظاهرة لأن كلّا منهما مؤلم زاجر عن ارتكاب جريمة الرمي وكم من شخص لا يتألم بالضرب كما يتألم برد شهادته، وربما يقال: إن رد الشهادة قطع للآلة الخائنة معنى وهي اللسان فيكون كقطع اليد حقيقة في السرقة، ومن أنصف رأى مناسبته للجلد أتم من مناسبة التغريب له لأن التغريب ربما يكون سببا لزيادة الوقوع في الزنا لقلة من يراقب ويستحي منه في الغربة وقد تضطر المرأة إذا غربت إلى ما يسد رمقها فتسلم نفسها لتحصيل ذلك، وأيضا الجلد فعل يلزم على الإمام فعله والرد المراد من عدم القبول كذلك وقد خوطب بكلتا الجملتين الإنشائيتين لفظا ومعنى الأئمة وبهذا يقوى أمر المناسبة.
واعترض الزيلعي على القول بأن جملة وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تعليل لرد الشهادة فقال: لا جائز أن يكون رد شهادته لفسقه لأن الثابت بالنص في خبر الفاسق هو التوقف لقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:
٦] لا الرد وعلة الرد هنا ليست إلا أنه حد انتهى، وفيه نظر ولم يجعل الشافعي على هذا النقل الجملة المذكورة مع كونها جارية مجرى التعليل لما قبلها معطوفة عليه لما قال غير واحد من أن العطف بالواو يمنع قصد التعليل لرد الشهادة بسبب الفسق لأن العلة لا تعطف على الحكم بالواو بل إنما تذكر بالفاء، وكذا ينبغي أن لا تكون معطوفة على ما أشير إليه سابقا من أنها علة لاستحقاق العقوبة إذ ذلك غير منطوق، وانتصر للشافعي عليه الرحمة فيما ذهب إليه من قبول شهادته إذا تاب بأنه إذا جعلت الجملة تعليلا للرد يتم ذلك ولو سلم رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة من الجمل المتعاقبة بالواو وجوب زوال الحكم بزوال العلة، ولا أظنه يدفع إلا بالتزام أنها ليست للتعليل.
وقال بعضهم: لا انقطاع بين الجمل عند الشافعي ومقتضى أصله المشهور رجوع الاستثناء إلى الجميع فيلزم حينئذ سقوط الجلد بالتوبة لكنه لا يقول بذلك لأن تحقيق مذهبه أن الرجوع إلى الكل قد يعدل عنه وذلك عند قيام الدليل وظهور المانع والمانع هنا من رجوعه إلى الجملة الأولى على ما قيل الإجماع على عدم سقوط الجلد بالتوبة لما فيه من حق العبد، وأولى منه ما أومأ إليه القاضي البيضاوي من أن الاستسلام للجلد من تتمة التوبة فكيف يعود إليه، ولا يمكن أن يقال: إن عدم قبول الشهادة والتفسيق من تتمتها أيضا كما لا يخفى، وقيل يجوز أن تخرج الآية على أصله المشهور، ولا مانع من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأولى أيضا لما أن المستثنى هو الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب العفو من المقذوف وعند وقوع ذلك يسقط الجلد أيضا، وفيه أن كون طلب العفو من الإصلاح غير نافع لأن الجلد لا يسقط بطلب العفو بل العفو وهو ليس من جملة هذا الإصلاح إذ العفو فعل المقذوف وهذا الإصلاح فعل القاذف فلم يصح صرف الاستثناء إلى الكل كما هو أصله المشهور.
وقال الزمخشري: الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن يكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، والمعنى من قذف فاجمعوا لهم بين الأجزئة الثلاثة إلا الذين تابوا منهم فيعودون غير مجلودين ولا مردودي الشهادة ولا مفسقين، قال في الكشف: وهذا جار على أصل الشافعي من أن الاستثناء يرجع إلى الكل وانضم إليه هاهنا أن الجمل دخلت في حيز الشرط فصرن كالمفردات، وتعقب القول بدخول قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في حيز الجزاء بأن دليل عدم المشاركة في الشرط يقتضي عدم الدخول فإنه جملة خبرية غير مخاطب بها الأئمة لإفراد الكاف في أُولئِكَ فهو عطف على الجملة الاسمية أي الذين يرمون إلخ أو مستأنف لحكاية حال الرامين عند الشرع، وأورد عليه أن عطف الخبر على الإنشاء وعكسه لاختلاف الأغراض شائعان في الكلام وأن إفراد كاف الخطاب مع
الإشارة جائز في خطاب الجماعة كقوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ [البقرة: ٥٢] على أن التحقيق أن الَّذِينَ يَرْمُونَ منصوب بفعل محذوف أي اجلدوا الذين إلخ فهو أيضا جملة فعلية إنشائية مخاطب بها الأئمة فالمانع المذكور قائم هنا زيادة العدول عن الأقرب إلى الأبعد ولو سلم أن الَّذِينَ مبتدأ فلا بد في الإنشائية الواقعة موقع الخبر من تأويل وصرف عن الإنشائية عند الأكثر وحينئذ يصح عطف أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عليه، وقال الزمخشري: معنى أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فسقوهم والإنصاف يحكم بعدم ظهور دخول الجملة الأخيرة في حيز الجزاء وجميع ما ذكروه إنما يفيد الصحة لا الظهور.
ولعل الظاهر أنها استئناف تذييلي لبيان سوء حال الرامين في حكم الله تعالى وحينئذ عود الاستئناف إليه ظاهر، لا يقال، إن ذلك ينفي الفائدة لأنه معلوم شرعا أن التوبة تزيل الفسق من غير هذه الآية لأنا نقول: لا شبهة في أن العلم بذلك من طريق السمع وقد ذكر الدال عليه منه وكون آية أخرى تفيده لا يضر للقطع بأن طريق القرآن تكرار الدوال خصوصا إذا كان التأكيد مطلوبا، هذا وإلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من عدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب ذهب الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقد روى ذلك عن كل الجلال السيوطي في الدر المنثور وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته ذهب مالك وأحمد، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري ومحارب وشريح ومعاوية بن قرة وعكرمة وسعيد بن جبير على ما ذكره الطيبي وعد ابن جبير من القائلين كقول الشافعي يخالفه ما سمعت آنفا، وعد ابن الهمام شريحا ممن قال كقول أبي حنيفة وعن ابن عباس روايتان، وفي صحيح البخاري جلد عمر رضي الله عنه أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة ثم استتابهم، وقال من تاب قبلت شهادته، ومن تتبع تحقق أن أكثر الفقهاء قائلون كقول الشافعي عليه الرحمة ودعوى إجماع فقهاء التابعين عليه غير صحيحة كما لا يخفى والله تعالى أعلم، ووجه التعليل المستفاد من قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على القولين ظاهر لكن قيل إنه على قول أبي حنيفة أظهر وهو تعليل لما يفيده الاستثناء ولا محل من الإعراب، وجوز أبو البقاء كون الَّذِينَ مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي لهم.
واختار الجمهور الاستئناف والاستثناء وهو على ما ذهب إليه أصحابنا منقطع، وبينه أبو زيد الدبوسي في التقويم بما حاصله أن المستثنى وإن دخل في الصدر لكن لم يقصد إخراجه من حكمه على ما هو معنى الاستثناء المتصل بل قصد إثبات حكم آخر له وهو أن التائب لا يبقى فاسقا، وتعقبه العلامة الثاني بأنه إنما يتم إذا لم يكن معنى هُمُ الْفاسِقُونَ الثبات والدوام وإلا فلا تعذر للاتصال فلا وجه للانقطاع، وبينه فخر الإسلام بأن المستثنى غير داخل في صدر الكلام لأن التائب ليس بفاسق ضرورة إنه عبارة عمن قام به الفسق والتائب ليس كذلك لزوال الفسق بالتوبة، وهذا مبني على أنه يشترط في حقيقة اسم الفاعل بقاء معنى الفعل، وأما إذا لم يشترط ذلك فيتحقق التناول لكن لا يصح الإخراج لأن التائب ليس بمخرج ممن كان فاسقا في الزمان الماضي.
واعترض بأن المستثنى منه على تقدير اتصال الاستثناء ليس هو الفاسقين بل الذين حكم عليهم بذلك وهم الذين يرمون المشار إليه بقوله تعالى: وَأُولئِكَ ولا شك أن التائبين داخلون فيهم مخرجون عن حكمهم وهو الفسق كأنه قيل جميع القاذفين فاسقون إلا التائبين منهم كما يقال القوم منطلقون إلا زيدا استثناء متصلا بناء على أن زيدا داخل في القوم مخرج عن حكم الانطلاق فيصح الاستثناء المتصل سواء جعل المستثنى منه بحسب اللفظ هو القوم أو الضمير المستتر في منطلقون بناء على أنه أقرب وأن عمل الصفة في المستثنى أظهر، وليس المراد أن المستثنى منه لفظا هو لفظ القوم البتة وإذا جعل المستثنى منه ضمير منطلقون فمعنى الكلام إن زيدا داخل في الذوات المحكوم
عليهم بالإطلاق مخرج عن حكم الانطلاق كما في قولنا: انطلق القوم إلا زيدا وكذا الكلام في الآية.
وأجيب بأن الفاسقين هاهنا إما أن يكون بمعنى الفاسق على قصد الدوام والثبات أو بمعنى من صدر عنه الفسق في الزمان الماضي أو من قام به الفسق في الجملة ماضيا كان أو حالا فإن أريد الأول فالتائب ليس بفاسق ضرورة قضاء الشارع بأن التائب ليس بفاسق حقيقة، ومن شرط الاستثناء المتصل أن يكون الحكم متناولا للمستثنى على تقدير السكوت عن الاستثناء وهذا مراد فخر الإسلام بعدم تناول الفاسقين للتائبين بخلاف منطلقون فإنه يدخل فيه زيد على تقدير عدم الاستثناء وإن أريد الثاني أو الثالث فلا صحة لإخراج التائب عن الفاسقين لأنه فاسق بمعنى صدور الفسق عنه في الجملة ضرورة أنه قاذف والقذف فسق.
ولا يخفى أن منع عدم دخول التائبين في الفاسقين بالمعنى الذي ذكرنا ومنع عدم صحة إخراجهم عنهم بالمعنى الآخر غير موجه وأن الاستدلال على دخولهم بأنه قد حكم بالفسق على أُولئِكَ المشار به إلى الَّذِينَ يَرْمُونَ وهو عام ليس بصحيح للإجماع القاطع على أنه لا فسق مع التوبة، وكفى به مخصصا اهـ. وفيه أن الإجماع لا يكون مخصصا فيما نحن فيه لكونه متراخيا عن النص ضرورة أنه لا إجماع إلا بعد زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم فالحكم بالفسق على أُولئِكَ المشار به إلى الَّذِينَ يَرْمُونَ وهو عام فيتم الاستدلال.
وأجيب عن هذا بأن المراد بالتخصيص قصر العام على بعض ما يتناوله اللفظ لا التخصيص المصطلح وهو كما ترى وفي قوله: ومن شرط الاستثناء المتصل إلخ بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا، وقال العلامة: الظاهر كون الاستثناء متصلا أي أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم فإنه غير محكوم عليهم بالفسق لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وكأنه أراد أنهم غير محكوم عليهم بالفسق الدائم وهو المحكوم به عليهم في الصدر بقرينة الجملة الاسمية.
وذكر بعض الأفاضل في توجيه كونه متصلا أن دخول المستثنى في المستثنى منه إنما يكون باعتبار تناول المستثنى منه وشموله إياه لا بحسب ثبوته له في الواقع كيف ولو ثبت الحكم له صح استثناؤه فهاهنا الَّذِينَ يَرْمُونَ شامل للتائبين منهم فلا يضر في صحة الاستثناء أنهم ليسوا بفاسقين وأن التوبة تنافي ثبوت الفسق كما إذا لم يدخل زيد في الانطلاق فإنه يصح استثناؤه باعتبار دخوله في القوم مثل انطلق القوم إلا زيدا.
والحاصل أنه يكفي في الاستثناء دخول المستثنى في حكم المستثنى منه بحسب دلالة اللفظ وإن لم يدخل فيه بحسب دليل خارج كما يقال: خلق الله تعالى كل شيء إلا ذاته سبحانه وصفاته العلى، قال العلامة: ويمكن الجواب عن هذا بأنه لا فائدة للاستثناء المتصل على هذا التقدير لأن خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوم فيحمل على المنقطع المفيد لفائدة جديدة وهذا مراد فخر الإسلام بعدم دخول التائبين في صدر الكلام وبحث فيه بأن عدم التناول الشرعي مستفاد من الاستثناء المذكور في الآية والحديث أعني التائب من الذنب كمن لا ذنب له مبين له فلا وجه لمنع وجود الفائدة وبأن كون خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوما هنا غير معلوم لمكان الخلاف في اشتراط بقاء الفعل وبأن الفائدة الجديدة في المنقطع التي يعرى عنها المتصل غير ظاهرة، وقال أيضا: لا يقال لم لا يجوز أن يكون المستثنى منه هو الفاسقون ويكون الاستثناء لإخراج التائبين منهم في الحكم الذي هو الحمل على أولئك القاذفين والإثبات له فإن الاستثناء كما يجوز من المحكوم به يجوز من غيره كما يقال: كرام أهل بلدتنا أغنياؤهم إلا زيدا بمعنى أن زيدا وإن كان غنيا لكنه خارج عن الحمل على الكرام لأنا نقول: فحينئذ يلزم أن يكون التائبون من الفاسقين ولا يكونوا من القاذفين والأمر بالعكس، وقد يقال: إن الاستثناء منقطع على معنى أنهم