
سورة النّور
وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)(١٠٢٠) روى أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تُنْزِلُوهُنَّ الغُرَف ولا تُعَلمِّوهُنَّ الكتابة، وعلّموهنّ الغزل وسورة النّور»، يعني: النّساء.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: سُورَةٌ قرأ الجمهور بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، ومحبوب عن أبي عمرو: «سورةً» بالنصب. قال أبو عبيدة: من رفع، فعلى الابتداء. وقال الزجاج: هذا قبيح، لأنها نكرة، وأَنْزَلْناها صفة لها، وإِنما الرفع على إِضمار: هذه سُورةٌ، والنصب على وجهين: أحدهما على معنى: أنزلنا سورة والثاني على معنى: أُتلُ سُورةً.
قوله تعالى: وَفَرَضْناها قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وعكرمة والضحاك والزهري ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وابن يعمر والأعمش وابن أبي عبلة بالتخفيف. قال الزجاج: من قرأ بالتشديد فعلى وجهين: أحدهما:
على معنى التكثير، أي إِننا فرضنا فيها فروضاً. والثاني: على معنى: بيَّنَّا وفصَّلنا ما فيها من الحلال والحرام ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه: ألزمناكم العمل بما فُرض فيها. وقال غيره: مَنْ شدَّد، أراد:
فصَّلنا فرائضها، ومَنْ خفَّف، فمعناه: فرضنا ما فيها.
قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي القراءة المشهورة بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو الجوزاء، وابن

أبي عبلة، وعيسى بن عمر: «الزانيةَ» بالنصب. واختاره الخليل وسيبويه والرّفع اختيار الأكثرين. قال الزجاج: والرفع أقوى في العربية، لأن معناه: من زنى فاجلدوه، فتأويله الابتداء، ويجوز النصب على معنى: اجلدوا الزانية. فأما الجَلْد، فهو ضرب الجِلْد، يقال: جَلَدَه: إِذا ضرب جِلْده، كما يقال:
بَطَنَه: إِذا ضَرَب بَطْنه. قال المفسرون: ومعنى الآية: الزانية والزاني إِذا كانا حُرّين بالغَين بِكْرَيْن، فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.
فصل:
قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية تقتضي وجوب الجَلْدِ على البِكْر والثَّيّب «١».
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حق البِكْر زيادة على الجَلْد بتغريب عام، وفي حق الثَّيِّب زيادة على الجلد بالرجم بالحجارة.
(١٠٢١) فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «البِكْر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتغريب عامٍ، والثَّيِّب بالثَّيِّب جلد مائة ورجم بالحجارة». وممن قال بوجوب النَّفي في حق البِكْر: أبو بكر،
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٢/ ٣٧٠: الزنى حرام، وهو من الكبائر العظام وقد كان حد الزاني في صدر الإسلام الحبس للثيب، والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر. ثم نسخ بما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد ذهب بعض أصحابنا بجواز نسخ القرآن بالسنة ومن منع ذلك قال: ليس هذا نسخا، وإنما هو تفسير للقرآن وتبيين له. ويمكن أن يقال إن نسخه حصل بالقرآن، فإن الجلد في كتاب الله تعالى، والرجم كان فيه، فنسخ رسمه، وبقي حكمه. وإذا زنى الحر المحصن، أو الحرة المحصنة، جلدا ورجما حتى يموتا، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله، والرواية الأخرى، يرجمان ولا يجلدان.
وفي وجوب الرجم على الزاني المحصن، رجلا كان أو امرأة قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم فيه مخالفا إلا الخوارج، فإنهم قالوا: الجلد للبكر والثيب، ولا يجوز ترك كتاب الله تعالى الثابت بطريق القطع واليقين بخبر الآحاد.
والرد عليهم- لقد ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقوله وفعله، في أخبار تشبه التواتر وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها وعقلتها ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان، أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف وقد قرأتها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» متفق عليه.
وأما الجلد فنقول بها، إن الزاني يجب جلده، فإن كان ثيبا رجم مع الجلد والآية لم تتعرض لنفيه. في إحدى الروايتين، فعل ذلك علي رضي الله عنه، وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب وأبو ذر وفي الرواية الثانية، يرجم ولا يجلد. روي عن عمر وعثمان وابن مسعود، والنخعي، والزهري والأوزاعي ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وإذا زنى الحر البكر، جلد مائة، وغرّب عاما. ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني ويجب مع الجلد تغريبه عاما في قول جمهور العلماء. وقال مالك والأوزاعي: يغرّب الرجل دون المرأة، لأنها إن غرّبت بمحرم، أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي من لا ذنب له، وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به، ويلزم منه الزيادة على ذلك. وفوات حكمته. وفي تغريبها إغراء به، وتمكين منه. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: لا يجب التغريب وقول مالك فيما يقع لي، أصح الأقوال وأعدلها. [.....]

وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وممن بعدهم عطاء، وطاوس، وسفيان، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق، وممن قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثَّيِّب عليُّ بن أبي طالب، والحسن البصري، والحسن بن صالح، وأحمد، وإِسحاق. قال: وذهب قوم من العلماء إِلى أن المراد بالجَلْد المذكور في هذه الآية: البِكْر، فأما الثَّيِّب، فلا يجب عليه الجَلْد، وإِنما يجب الرجم، روي عن عمر، وبه قال النخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وروي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء.
قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رزين والضحاك وابن يعمر والأعمش: «يَأْخُذْكُمْ» بالياء بِهِما رَأْفَةٌ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي:
«رَأْفَةٌ» باسكان الهمزة. وقرأ أبو المتوكل ومجاهد وأبو عمران الجوني وابن كثير: بفتح الهمزة وقصرها على وزن رَعَفَة. وقرأ سعيد بن جبير والضحاك وأبو رجاء العطاردي: «رآفَةٌ» مثل سآمة وكآبة، وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: لا تأخذكم بهما رأفة، فتخفِّفوا الضرب، ولكن أوجعوهما، قاله سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة. والثاني: لا تأخذكم بهما رأفة فتعطِّلوا الحدود ولا تقيموها، قاله مجاهد والشعبي وابن زيد في آخرين.
فصل:
واختلف العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشُّرب، ويضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا، وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال مالك: الضرب في الحدود كلِّها سواءٌ غير مبرِّح.
فصل:
فأما ما يُضرَب من الأعضاء، فنقل الميموني عن أحمد في جَلْد الزاني، قال: يجرَّد، ويعطى كل عضو حقَّه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه. ونقل يعقوب بن بختان: لا يُضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا يُضرب إِلا في الظَّهر. وقال الشافعي: يُتَّقى الفرج والوجه.
قوله تعالى: فِي دِينِ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: في حُكمه، قاله ابن عباس. والثاني: في طاعة الله، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما قال الزجاج: القراءة باسكان اللام، ويجوز كسرها، والمراد بعذابهما ضربهما، وفي المراد بالطّائفة ها هنا خمسة أقوال «١» : أحدها: الرجل فما فوقه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. وقال النخعي: الواحد طائفة. والثاني: الاثنان فصاعدا، قاله
قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا، غير أنّي وإن كان الأمر على ما وصفت أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس، عدد من تقبل شهادته على الزنا لأن ذلك إذا كان كذلك، فلا خلاف بين الجميع أنه قد أدى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك وهم فيما دون ذلك مختلفون.

سعيد بن جبير، وعطاء وعن عكرمة كالقولين. قال الزجاج: والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة، لأن الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان. والثالث: ثلاثة فصاعداً، قاله الزهري.
والرابع: أربعة، قاله ابن زيد. والخامس: عشرة، قاله الحسن البصري.
قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً.
(١٠٢٢) قال عبد الله بن عمرو: كانت امرأة تسافح، وتشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية.
(١٠٢٣) وقال عكرمة: نزلت في بغايا، كُنَّ بمكة، ومنهن تسع صواحب رايات، وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية: المواخير، ولا يدخل عليهن إِلا زانٍ من أهل القِبلة، أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فنزلت هذه الآية. قال المفسرون: ومعنى الآية: الزاني من المسلمين لا يتزوج من أولئك البغايا إِلا زانية أَوْ مُشْرِكَةً لأنهن كذلك كن وَالزَّانِيَةُ منهن لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، ومذهب أصحابنا «١» أنه إِذا زنى بامرأة، لم يجز له أن يتزوّجها إلّا بعد التّوبة منهما.
مرسل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٣١ عن عكرمة بدون إسناد. وانظر ما قبله.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٩/ ٥٦١: إذا زنت المرأة، لم يحل ذلك نكاحها إلا بشرطين:
أحدهما: انقضاء عدتها ولا يحل نكاحها قبل وضع حملها. وبهذا قال مالك وأبو يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وفي الأخرى قال: يحل نكاحها ويصح. وهو مذهب الشافعي لأنه وطء لا يلحق به النسب فلم يحرّم النكاح، كما لو لم تحمل. والثاني: أن تتوب من الزنى. وبه قال قتادة، وأبو عبيد، وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يشترط ذلك. وإذا وجد الشرطان حل نكاحها للزاني وغيره في قول أكثر العلم. وروي عن ابن مسعود وعائشة والبراء: أنها لا تحل للزاني بحال، قالوا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، ويحتمل أنهم أرادوا بذلك ما كان قبل التوبة. أو قبل استبرائها فيكون كقولنا. أما تحريمها على الإطلاق فلا يصح. هذا وإن عدة الزانية كعدة المطلقة، لأنه استبراء لحرة، فأشبه عدة الموطوءة بشبهة. وحكى ابن أبي موسى، أنها تستبرأ بحيضة. وأما التوبة، فهي الاستغفار والندم والإقلاع عن الذنب، كالتوبة من سائر الذنوب.
وهو الصحيح. وروي عن ابن عمر، أنه قيل له: كيف تعرف توبتها؟ قال يريدها على ذلك، فإن طاوعته لم تتب وإن أبت فقد تابت. فصار أحمد إلى قول ابن عمر اتباعا له. والصحيح الأول، فإنه لا ينبغي لمسلم أن يدعو امرأة إلى الزنا، ويطلبه منها، ولا تحل الخلوة بأجنبية ولو كان في تعليمها القرآن. فلا يحل التعرض لمثل هذا. قال الطبري رحمه الله ٩/ ٢٦٤: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عني بالنكاح في هذا الموضع: الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات وإنه لم يعن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، ولا ينكح إلا بزانية أو مشركة. وإذا كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحل الزنا، أو بمشركة تستحله. وقوله وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يقول: وحرّم الزنا على المؤمنين بالله ورسوله، وذلك هو النكاح الذي قال جل ثناؤه الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً. ووافقه ابن كثير رحمه الله ٣/ ٣٢٩ وقال: وهذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حرمة ذلك وكذلك:
الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أي: عاص بزناه أَوْ مُشْرِكٌ لا يعتقد تحريمه.