
وأما ما زال فأصلها من زال الشيء عن الموضع، إذا فارقه وما زلت عن موضع، أي: ما فارقته. ثم جعل ذلك للخبر فلزمه الجحد، فثبت الخبر عن الاسم بنفي مفارقته، فقلت: ما زال زيد عالماً، فنيت مفارقته للعلم، ونفي ذلك إيجاب له، فصار المعنى: زيد علام، ففيه معنى تراخي الزمان، فإذا قلت ما زلت سائراً، فمعناه ما زلت أسير شيئاً بعد شيء. ونظير ما زال، ما برح وما انفك، وما فتئ. فأصل ما برح، من برحت من موضع، أي: فارقته. وأصل ما انفك من انفكاك الشيء من الشيء ومفارقته إياه. وأما ما فتئ، فلم ينفرد باسم كظلت. وأما ما دام، فما فيها غير جحد، إنما هي زمان. وأصل دام، من دمت على الشيء، مكثت فيه، وطاولته، ثم جعلت لديمومة الخبر، وجعل الاسم وخبره صلة " ما " التي هي وقت. ولو قلت دام زيد عالماً، لم يكن كلاماً حتى تأتي الموصول، وهو " ما ". ولو قيل: قد دام زيد أميراً، لجاز في القياس، لأن معناه: طالت إمارته، ولكن لم يستعمل وقوله: ﴿إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾.
أي: لطيف باستخراجه النبات من الأرض بالماء الذي ينزل من السماء. " خبير " بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره.
قوله تعالى: ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾.
أي: له ملك ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله لهو الغني عن خلقه. وهم

المحتاجون إليه.
﴿الحميد﴾ أي: المحمود عند/ عباده في أفضاله ونعمه عندهمه.
ثم قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض﴾.
أي: سخر لكم ما في الأرض من الدواب والأنعام وغير ذلك تنتفعون وتأكلون وتركبون وتلبسون منه، وسخر لكم " الفلك لتجري في البحر بأمره " أي: بقدرته وتذليله أياها لكم.
ثم قال: ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾.
أي: يمسكها بقدرته لئلا تقع على الأرض. ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. أي: لذو رأفة ورحمة بهم.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾.
أي: والذي أنعم عليكم هذه النعم المذكورة، هو الذي خلقكم أجساماً أحياء بحياة أحدثها فيكم ولم تكونوا شيئاً، ثم يميتكم فيفنيكم عند مجيء آجالكم، ثم يحييكم عند بعثكم لقيام الساعة، ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ أي: إن ابن آدم لجحود لنعم الله عليه، إذ يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المتكررة وبغيرها.
ثم قال تعالى: ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ﴾.
أي: لكل جماعة قوم لنبي خلا قبلك يا محمد، جعلنا مألوفاً يألفونه، وماكناً يعتادونه لعبادة الله تعالى، وقضاء فرائضه، وعملاً يلزمونه.

وأصل المنسك: المكان المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر، وإنما سميت المناسك مناسك الحج لتردد الناس إليها للعمل الذي فرض عليهم لعمل الحج والعمرة فألفوه.
وكسر " السين " لغة أهل الحجاز، وفتحها لغد أسد.
قال ابن عباس: جعلنا منسكاً. أي: عيداً.
وقال مجاهد: وهو أراقة الدم بمكة.
وقال قتادة: " منسكاً " ذبحاً وحجاً.
وقد رويَ أن المشركين جادلوا النبي ﷺ في إراقة الدم أيام النحر. فهذه الآية في ذلك والله أعلم. دل على هذا التأويل قوله: ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر﴾ أي: فلا يجادلنك في ذبحك ونسكك قولهم: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله وهو الميتة.
ومعنى: " فلا ينازعنك "، أي: فلا تنازعنهم لأنهم قد نازعوه في ذلك قبل نزول الآية.

ثم قال: ﴿وادع إلى رَبِّكَ﴾.
أي: ادع يا محمد منازعيك من المشركين بالله في نسكك وذبحك إلى اتباع أمر ربك بأن يأكلوا ما ذبحوه بعد اتباعك والتصديق بما جئتهم به. ﴿إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي: طريق غير زائل عن الحق والصواب.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
أي: إن جادلك هؤلاء المشركون في نسكك، ﴿فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " ﴿الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي: يقضي بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون من أمر دينكم.
فتعلمون حينئذٍ المحق من المبطل.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض﴾.
أي: يعلم ما في السماوات السبع وما في الأرضين السبع، لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو حاكم بين خلقه يوم القيامة على علم منه بجميع ما علموه في الدنيا، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. ﴿إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ﴾ أي: إن علمه بذلك في كتاب، وهو أم الكتاب الذي كتب فيه ربنا جلّ ذكره قبل أن يخلق الخلق ما هوكائن إلى يوم القيامة. ﴿إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي: سهل. يعني: حكمه بين المختلفين يوم القيامة.
وقيل: معناه: أن كتاب القلم الذي أمره الله أن يكتب ما هو كائن يسير على الله. أي: هين. فصاحب هذا القول رده على الأقرب، وهو: " أن ذلك في كتاب ". وصاحب القول الأول رده على " يحكم بينكم ".
قال ضمرة بن حبيب: إن الله جلّ ذكره كان عرشه على الماء، فخلق السماوات