
قال القاضي أبو محمد: وهذا الحديث الذي فيه هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها ولم يدخله البخاري ولا مسلم ولا ذكره في علمي مصنف مشهور بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن «الشيطان ألقى» ولا يعينون هذا السبب ولا غيره، ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي ﷺ تكلم بتلك الألفاظ وأن الشيطان أوهمه ووسوس في قلبه حتى خرجت تلك الألفاظ على لسانه، ورووا أنه نزل إليه جبريل بعد ذلك فدراسه سورة النجم فلما قالها رسول الله ﷺ قال له جبريل لم آتك بهذا، فقال رسول الله ﷺ «افتريت على الله وقلت ما لم يقل لي» وجعل يتفجع ويغتم فنزلت هذه الآية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ، ع وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي ﷺ وهو المعصوم في التبليغ وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي ﷺ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ٢٠] وصوب صوته من صوت النبي ﷺ حتى التبس الأمر على المشركين وقالوا محمد قرأها ع وتَمَنَّى على هذا التأويل بمعنى تلا ولا بد، وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي ع و «الرسول» أخص من النبي وكثير من الأنبياء لم يرسلوا وكل رسول نبي، و «النسخ» في هذه الآية الإذهاب، كما تقول نسخت الشمس الظل وليس يرفع ما استقر من الحكم، ع وطرق الطبري وأشبع الإسناد في أن إلقاء الشيطان كان على لسان النبي عليه السلام واختلفت الروايات في الألفاظ ففي بعضها تلك الغرانقة، وفي بعضها تلك الغرانيق، وفي بعضها وإن شفاعتهن وفي بعضها منها الشفاعة ترتجى ع والغرانيق معناه السادة العظام الأقدار، ومنه قول الشاعر:
«أهلا بصائدة الغرانق» وقوله لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ الآية، اللام في قوله لِيَجْعَلَ متعلقة بقوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ و «الفتنة» الامتحان والاختبار، والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم، عامة الكفار، والقاسية قلوبهم خواص منهم عتاة كأبي جهل والنضر وعقبة، و «الشقاق»، البعد عن الخير، والضلال والكون في شق الصلاح، وبَعِيدٍ، معناه أنه انتهى بهم وتعمق فرجعتهم منه غير مرجوة، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هم أصحاب محمد رسول الله عليه السلام، والضمير في أَنَّهُ عائد على القرآن و «تخبت» معناه تتطامن وتخضع وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض، وقرأت فرقة «لهاد» بغير ياء بعد الدال، وقرأت فرقة: «لهادي» بياء، وقرأت فرقة «لهاد» بالتنوين وترك الإضافة وهذه الآية معادلة لقوله، قبل وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٥ الى ٦٢]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)

«المرية» الشك، والضمير في قوله مِنْهُ قالت فرقة هو عائد على القرآن، وقالت فرقة: على محمد عليه السلام، وقالت فرقة: على ما أَلْقَى الشَّيْطانُ [الحج: ٥٢]، وقال سعيد بن جبير أيضا على سجود النبي ﷺ في سورة النجم، والسَّاعَةُ، قالت فرقة: أراد يوم القيامة، «واليوم العقيم»، يوم بدر، وقالت فرقة: السَّاعَةُ، موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ونحوه، و «اليوم العقيم»، يوم القيامة، ع وهذان القولان جيدان لأنهما أحرزا التقسيم ب أَوْ ومن جعل السَّاعَةُ و «اليوم العقيم»، يوم القيامة، فقد أفسد رتبة أَوْ، وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقيما لأنه لا ليلة بعده ولا يوم، والأيام كأنها نتائج لمجيء واحد إثر واحد، فكأن آخر يوم قد عقم وهذه استعارة، وجملة هذه الآية توعد، وقوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، السابق منه أنه في يوم القيامة من حيث لا ملك فيه لأحد من ملوك الدنيا، ويجوز أن يريد به يوم بدر ونحوه من حيث ينفذ فيه قضاء الله وحده ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه، فأما من تأوله في يوم القيامة فاتسق له قوله فَالَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله مُهِينٌ، ومن تأوله في يوم بدر ونحوه جعل قوله «فالذين آمنوا»، ابتداء خبر عن حالهم المتركبة على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر. وقوله وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية ابتداء معنى آخر وذلك أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت هذه الآية مسوية بينهم في أن الله تعالى يرزق جميعهم رِزْقاً حَسَناً وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل، وقال بعض الناس: المقتول والميت في سبيل الله شهيدان، ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله، و «الرزق الحسن»، يحتمل أن يريد به رزق الشهداء عند ربهم في البرزخ ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة، وقرأت فرقة، «مدخلا»، بضم الميم من أدخل فهو محمول على الفعل المذكور، وقرأت فرقة «مدخلا» بفتح الميم من دخل فهو محمول على فعل مقدر تقديره فيدخلون مدخلا، وأسند الطبري عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفى فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل، فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه فو الذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اقرؤوا قول الله تعالى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية، إلى قوله حَلِيمٌ وقوله تعالى: ذلِكَ، إلى قوله الْكَبِيرُ المعنى الأمر ذلك، ثم أخبر تعالى عمن عاقب من المؤمنين من ظلمه من الكفرة ووعد المبغي
صفحة رقم 130