
المعنى:
يقول تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به تكذيبا له واستهزاء به لأنهم لا يؤمنون بيوم القيامة، ولا بقدرة الله على إيقاع العذاب. ونسوا ما حصل للأمم السابقة، ولم يعتبروا بما حصل.
قل لهم يا محمد: إنما أرسلنى الله إليكم نذيرا بين يدي عذاب شديد، إنما أنا نذير بيّن الإنذار قوى الحجة واضحها، وليس علىّ حسابكم وهدايتكم، بل أمركم إلى ربكم إن شاء عجل العذاب لكم، وإن شاء أخره عنكم ليوم معلوم، لا تستقدمون عنه ساعة ولا تستأخرون، وهو ربكم وإليه أمركم، وهو الفعال لما يريد، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
فالذين آمنوا بالله وكتبه ورسله إيمانا صحيحا سليما مصحوبا بالعمل الصالح لهم مغفرة من الله ورزق كريم، وثواب عظيم، وسعادة في الدنيا والآخرة مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النحل آية ٩٧].
والذين سعوا جاهدين في إبطال آياتنا، وإطفاء نور الإسلام- وما علموا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون- أولئك أصحاب الجحيم الملازمون لها، وهي نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة...
كتاب الله محكم لا ريب فيه [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٧]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧)

المعنى:
روى المفسرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى سمع المشركون (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى) فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا فقال النبي: «إن ذلك من الشيطان»، فأنزل الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الآية
. وهناك روايات تثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو المعصوم- هو الذي قرأ وعلى ذلك فيكون معنى الآية: وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى أى قرأ وتلا ألقى الشيطان في أمنيته أى قراءته وتلاوته، فينسخ الله ما يلقى الشيطان ويزيله، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم.

هذه الرواية، رواية باطلة، وإن تكن رواية بعض المفسرين وكيف تصح؟!! ولو جوزناها لارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل حكم أن يكون فيه زيادة أو نقص من قبل الشيطان على أن هذه الرواية وأمثالها تفتح باب الطعن والشك، وتكون سلاحا في يد أعداء الإسلام، وأعداء الأديان كلها، ولا ينفعنا أن ذلك بشكل واسع في الكتب السابقة. وهل تساعد اللغة تفسير (تمنى) بقرأ؟ أظن لا!! وكيف نجوز هذا والله يقول وهو أصدق القائلين:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «١» ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ «٢». وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [سورة النجم الآيات ٣- ٥] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [سورة الإسراء ٧٣ و ٧٤] وقد عرفنا تفسيرها ووقفنا على معناها.
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [سورة الجن الآيات ٢٦- ٢٨].
وقال القاضي عياض في كتاب الشفاء «لقد أجمعت الأمة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عن ربه، معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا.
واعلم- أكرمك الله يا أخى- أنهم خرجوا هذا الحديث المسمى بحديث الغرانيق على أن أصله واه، وقال علماء الحديث: إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة، وإنما أولع به وبمثله جماعة من المفسرين والمؤرخين بعضهم بحسن نية، وقال أبو بكر البراز: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسناد متصل يجوز ذكره.
وإذا سلمنا بالحديث على أنه مروى بعدة روايات وإن تكن كل واحدة ضعيفة إلا أن كثرة طرقها تجعلنا نقبله بتحفظ ونؤوله بما يتفق مع المبادئ العامة الإسلامية، بل
(٢) سورة يونس الآية ١٥.

بما يتفق مع صدر السورة، وعجزها، ووصف الأصنام بعد قوله تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [سورة النجم الآيات ١٩- ٢٣] وهذا بلا شك وصف للأصنام بأنها لا حقائق لها، وليس لكم فيها حجة، وما تتبعون في عبادتها إلا الظن الذي لا شبهة معه... وإذا سلمنا بالحديث فتأويله هكذا.
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل آياته تفصيلا في قراءته فالجائز أن الشيطان انتظر سكتة من النبي صلّى الله عليه وسلّم ودس ما اختلقه من تلك المفتريات محاكيا صوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد شاعت تلك الزيادة في وسط أهل مكة وسر بها المشركون.
وأما المسلمون فيحفظون السورة كما أنزلها الله- سبحانه-، وكما كان يتلوها النبي قبل ذلك، وكانوا متحققين من ذم النبي للأوثان، وما عرف عنه في ذلك، ومن هنا تظهر الحكمة الإلهية وهي الاختبار بأمثال هذا. فأما الكافرون الظالمون، ومن في قلوبهم مرض فسيقولون هذا من عند الله، والله قد مدح الأصنام التي كان يذمها محمد.
وأما المؤمنون فسيعلمون أن القرآن هو الحق من عند الله، وإن هذا إلقاء شيطان لا يعبأ به، والله عليم حكيم وتكون الآية سلوى للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان يحصل هذا مع الأنبياء قبله، وهو لحكمة الله يقصدها ويعلمها، وهي الابتلاء والاختبار.
ويمكن بعد هذا كله أن نفهم الآية على هذا المعنى الآتي- مع أن اللغة لا تمنع منه- يقول الله- سبحانه وتعالى-: وما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول له كتاب وشريعة، ولا نبي- ليس له شريعة ولا كتاب بل ألهم أو أوحى إليه أن يتبع شريعة غيره كأنبياء إسرائيل- وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى- من الأمنية التي تهواها النفس، وكل الأنبياء كانت تحب وتهوى أن يؤمن بهم كل الناس- ألقى الشيطان في أمنيته وفي سبيل تحقيقها من العراقيل والعقبات الشيء الكثير فكان يلقى من نفوس الناس ويزين لهم الكفر والفسوق والعصيان، ولا شك أن الناس الذين أرسل إليهم الرسول هم محل الأمنية، التي يتمناها النبي صلّى الله عليه وسلم.