
وعده. فقد كان هذا شأنه مع كفار الأمم السابقة حيث أملى لهم ثم أخذهم.
وأسلوب الآيتين قد يدل على أنهما وسابقاتهما بسبيل مشهد جدلي من المشاهد التي كانت تتكرر بين النبي صلّى الله عليه وسلّم والكفار، والتي حكت الآيات المكيّة كثيرا منها.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
. وفي هذه الآيات أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يهتف بالناس مذكرا بجوهر مهمته، فهو ليس إلّا منذرا ليبين لهم طريق الهدى وليحذرهم من الضلال والغواية. فالمهتدون المستجيبون المؤمنون الصالحون لهم من الله المغفرة والرزق الكريم. أما الذين يقفون من الدعوة إلى الله وآياته ورسالة رسوله موقف التعجيز والتعطيل والشقاق فهم أصحاب الجحيم.
والآيات متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. والهتاف الذي فيها قد تكرر كثيرا في السور المكية لتكرر وتجدد المواقف والمناسبات.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٧]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧)

(١) تمنّى: حدّث نفسه بالرغبة فيما يشتهي، أو رجا تحقيق ما يشتهي.
(٢) الأمنية: هي الرغبة في تحقيق ما يشتهيه الإنسان ويحبه.
(٣) فتنة: هنا بمعنى اختبار.
(٤) فتخبت: فتخشع وتذعن.
(٥) يوم عقيم: يوم لا يأتي مثله بعده. وهو كناية عن يوم القيامة وبسبيل وصف هوله المنقطع النظير. وقال بعض المفسرين إنه كناية عن يوم حرب طاحنة للكفار «١». وقال بعضهم إنه كناية عن يوم بدر «٢». وأكثر المفسرين مع القول الأول وهو الأكثر اتّساقا مع الآيات.
الآيات تقريرية الأسلوب، وقد وجّه الخطاب فيها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وتضمنت فيما هو المتبادر تقرير ما يلي:
١- إن الله لم يرسل من قبله رسولا أو نبيا وتمنّى أمرا إلّا وقف الشيطان في طريق تحقيق أمنيته.
٢- ولكن الله تعالى يؤيد رسوله أو نبيّه ويحكم آياته ويحبط دسائس الشيطان ووساوسه.
٣- ولا يستطيع الشيطان إغواء غير مرضى القلوب وقساتها حيث يكون إلقاؤه لهم من قبيل الابتلاء فيتلقّونه بالقبول بسبب خبث سرائرهم ومرض قلوبهم.
والظالمون أمثالهم يكونون في العادة شديدي المشاققة والعناد.
٤- أما الذين أوتوا العلم والفهم فيدركون أن ما جاء من آيات الله المحكمة
(٢) انظر تفسير الخازن والبغوي وابن كثير.

على لسان نبيه ورسوله إنّما هو الحقّ من ربّه فيؤمنون ويهتدون وتخشع قلوبهم.
٥- والله سبحانه إنما يهدي إلى صراطه المستقيم المؤمنين المستجيبين لدعوته نتيجة لما أوتوه من علم وفهم وما هم عليه من نيّة حسنة ورغبة صادقة وقلوب سليمة. أما الكافرون المشاقون فيظلون في ريبتهم وشكوكهم ومشاققتهم حتى تأتيهم ساعتهم- أي أجلهم- بغتة أو يأتيهم عذاب الله المنقطع النظير في هوله والذي لا فرصة لهم بعده في يومه الموعود.
٦- وحينئذ يكون الحكم والسلطان والقضاء لله تعالى فيقضي بين الناس قضاءه الأخير: فمن كان آمن وعمل صالحا فينزله جنات النعيم ومن كان كفر وكذّب بآيات الله فله العذاب المهين.
تعليق على الآيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى... من الآية [٥٢] إلى الآية [٥٧]
لقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة الإسراء [٧٣- ٧٥] الرواية التي يرويها المفسرون في سياق آيات الحجّ التي نحن في صددها وعلقنا عليها وانتهينا بتعليقنا إلى نفيها بما يغني عن التكرار. ولقد روى المفسرون أن ابن عباس أول كلمة تمنّى بمعنى قرأ وكلمة أمنية بمعنى قراءة استنباطا من آية سورة البقرة هذه وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨). وقالوا إن ذلك متصل برواية إلقاء الشيطان ما ألقاه حينما قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم سورة النجم على ما فصلناه في سياق تفسير آيات الإسراء المذكورة آنفا. وتبعا لنفي تلك الرواية ننفي صدور هذا التأويل عن ابن عباس أيضا ونرجح أن الذين دسّوا تلك الرواية من أعداء الإسلام الهدّامين في القرن الثاني أو الثالث قد دسّوا هذا القول ليكون مرتكزا لها. وفي تأويل الكلمتين بالقراءة تكلّف ظاهر وتأويلنا لكلمتي تمنّى وأمنية هو الأكثر وجاهة وهو متّسق مع تأويل جمهرة المفسرين.

وكل هذا يجعلنا نرجو أن يكون الشرح الذي شرحناه للآيات هو الوجه الصواب. ويجعلنا نرى أن الآيات غير منقطعة عن سابقاتها، وأنها متصلة بها اتصال تعقيب وتطمين وتسلية وتنديد وبشرى. فقد حكت الآيات السابقة مواقف الكفار وتكذيبهم وتحدّيهم ثم انتهت بتقرير مهمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهي الإنذار والتبشير.
فجاءت هذه الآيات معقبة عليها لتقرر أن كل نبي ورسول يتمنّى أن يؤمن الناس برسالته كما كان يتمنّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويشتدّ به الحزن لعدم تحقق أمنيته أو تأخّرها مما حكته آيات كثيرة، وأن الشيطان يقف في طريق هذه الأمنية بوساوسه للناس. وأن ما كان من مواقف الكفار الشقاقية والتعجيزية والجحودية من أثر ذلك. ولتنبه مع ذلك على أن الشيطان إنما يؤثر في الخبثاء المجرمين فقط وأنه ليس له سلطان على ذوي النوايا الحسنة الذين يرون نور الرسالة النبوية فيهتدون به. وهكذا تكون الآيات بسبيل تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتثبيت للمسلمين وتنديد وإنذار للمكذّبين.
وتأتي بعد هذه الآيات آيات تعد الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا بالرزق الحسن والمدخل المرضي، حيث يخطر بالبال أن تكون الآيات التي نحن في صددها قد نزلت في ظروف حركة الهجرة إلى المدينة بعد أن يئس النبي صلّى الله عليه وسلّم من قريش وناله هو والمسلمين ما نالهم منهم من أذى واضطهاد. ولقد كان يشعر- كما قلنا قبل- بحزن شديد من إخفاق جهوده العظيمة في سبيل هدايتهم مع شدّة رغبته في ذلك وتمنّيه وحرصه، فجاءت الآيات لتسلّيه وتهوّن عليه وتذكّره أن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله لتبثّ فيه الأمل والرجاء في الفئة الصالحة العاقلة من الناس الذين وهبوا العقل والعلم وحسن السريرة فآمنوا وخبتت قلوبهم. حتى لو لم يصحّ هذا الخاطر فإن الذي نرجّحه أنها نزلت في ظروف ألمّت بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من جراء موقف شديد وقفته قريش تجاهه أو تجاه أصحابه فجاءت الآيات من أجل الأهداف المذكورة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه الآيات أو بتعبير أدق الآيات [٥٢- ٥٥] منها نزلت بين مكة والمدينة. أي في طريق هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. ولم نطلع على ما يؤيد هذه الرواية. فإن صحّت فيمكن الاستئناس بها على صحة ما ذهبنا إليه، بل وقد يكون ما ذهبنا إليه مما يجعل صحة الرواية قويّة