آيات من القرآن الكريم

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ

بِالْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَكَّنَ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مِنَ الْأَرْضِ وَأَعْطَاهُمُ السَّلْطَنَةَ عَلَيْهَا فَوَجَبَ كَوْنُهُمْ آتِينَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ. وَإِذَا كَانُوا آمِرِينَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَاهِينَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى الْحَقِّ، فَمِنْ هَذَا الوجه دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِمَامَةِ الْأَرْبَعَةِ. وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْجَمْعِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ سَلْطَنَتِهِمْ وَمُلْكِهِمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ إِنَّ الْأُمُورَ تَرْجِعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى بِالْعَاقِبَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي/ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ أَبَدًا وَهُوَ أَيْضًا يُؤَكِّدُ ما قلناه.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٦]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ إلى قوله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ إِخْرَاجَ الْكُفَّارِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَذِنَ فِي مُقَاتَلَتِهِمْ وَضَمِنَ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ النُّصْرَةَ وَبَيَّنَ أَنَّ للَّه عَاقِبَةَ الْأُمُورِ، أَرْدَفَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَذِيَّتِهِ وَأَذِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّكْذِيبِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ سَائِرُ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءَهُمْ، وَذَكَرَ اللَّه سَبْعَةً مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ قَالَ: وَكُذِّبَ مُوسى وَلَمْ يَقُلْ قَوْمُ مُوسَى؟ فَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ غَيْرُ قَوْمِهِ وَهُمُ الْقِبْطُ الثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ تَكْذِيبَ كُلِّ قَوْمٍ رَسُولَهُ، وَكُذِّبَ مُوسَى أَيْضًا مَعَ وُضُوحِ آيَاتِهِ وَعِظَمِ مُعْجِزَاتِهِ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ يَعْنِي أَمْهَلْتُهُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ عِنْدِي ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِ [يٌّ]، أَيْ فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ، أَلَيْسَ كَانَ وَاقِعًا/ قَطْعًا؟ أَلَمْ أُبْدِلْهُمْ بِالنِّعْمَةِ نِقْمَةً وَبِالْكَثْرَةِ قِلَّةً وَبِالْحَيَاةِ مَوْتًا وَبِالْعِمَارَةِ خَرَابًا؟ أَلَسْتُ أَعْطَيْتُ الْأَنْبِيَاءَ جَمِيعَ مَا وَعَدْتُهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَالتَّمْكِينِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ. فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَادَتُكَ يَا مُحَمَّدُ الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُمْهِلُ لِلْمَصْلَحَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الرِّضَاءِ وَالتَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِدُونِ ذَلِكَ يَحْصُلُ التَّسْلِيَةُ لِمَنْ حَالُهُ دُونَ حَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَيْفَ بِذَلِكَ مَعَ مَنْزِلَتِهِ، لَكِنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِمْ مَا يَزِيدُهُ غَمًّا، فَأَجْرَى اللَّه عَادَتَهُ بِأَنْ يُصَبِّرَهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ وَبِأَيِّ جِنْسٍ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ هَلَكُوا.
وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ بِهِ وَبِقَوْمِهِ كُلَّ مَا فَعَلَ بِهِمْ وَبِقَوْمِهِمْ إِلَّا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ بِقَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَكَّنَهُمْ مِنْ قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ وَثَبَّتَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: السَّبَبُ فِي

صفحة رقم 231

تَأَخُّرِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مَشْرُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِنْدَ اللَّه حَدًّ [ا] مِنَ الْكُفْرِ مَنْ بَلَغَهُ عَذَّبَهُ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ لَمْ يُعَذِّبْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّه لَا يُعَذِّبُ قَوْمًا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ الشَّرْطَانِ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغُوا ذَلِكَ الْحَدَّ مِنَ الْكُفْرِ وَعَلِمَ اللَّه أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ، فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُ الْأَنْبِيَاءَ فَيَدْعُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ فَيَسْتَجِيبُ اللَّه دُعَاءَهُمْ فَيُعَذِّبُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وهو المراد من قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ [يُوسُفَ: ١١٠] أَيْ مِنْ إِجَابَةِ الْقَوْمِ، وَقَوْلِهِ لِنُوحٍ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هُودٍ:
٣٦] وَإِذَا عَذَّبَهُمُ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا [هُودٍ: ٦٦] أَيْ بِالْعَذَابِ نَجَّيْنَا هُودًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ المسألة قَدْ تَقَدَّمَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُوصَفُ مَا يُنْزِلُهُ بِالْكَفَّارِ مِنَ الْهَلَاكِ بِالْعَذَابِ الْمُعَجَّلِ بِأَنَّهُ نَكِيرٌ؟ قُلْنَا إِذَا كَانَ رَادِعًا لِغَيْرِهِ وَصَادِعًا لَهُ عَنْ مِثْلِ مَا أَوْجَبَ ذَلِكَ صَارَ نَكِيرًا.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مَنْ قَوْلِهِ: فَكَأَيِّنْ فَكَمْ عَلَى وَجْهِ التَّكْثِيرِ، وَقِيلَ أَيْضًا مَعْنَاهُ، وَرُبَّ قَرْيَةٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَوْكَدُ فِي الزَّجْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ قَوْمٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَأَنَّهُ عَجَّلَ إِهْلَاكَهُمْ أَتْبَعَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ أَمْثَالًا وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مُفَصَّلًا.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَالْمَدِينَةِ أَهْلَكْناها بِالنُّونِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ أَهْلَكْتُهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَهْلَكْناها أَيْ أَهْلَهَا وَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَهِيَ ظَالِمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِهْلَاكَ نَفْسِ الْقَرْيَةِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ إِهْلَاكِهَا إِهْلَاكُ مَنْ فِيهَا لِأَنَّ الْعَذَابَ النَّازِلَ إِذَا بَلَغَ أَنْ يُهْلِكَ الْقَرْيَةَ فَتَصِيرَ مُنْهَدِمَةً حَصَلَ بِهَلَاكِهَا هَلَاكُ مَنْ فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَقْرَبَ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَهِيَ: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ؟ فَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: كُلُّ مُرْتَفِعٍ أَظَلَّكَ مِنْ سَقْفِ بَيْتٍ أَوْ خَيْمَةٍ أَوْ ظُلَّةٍ فَهُوَ عَرْشٌ، وَالْخَاوِي السَّاقِطُ مِنْ خَوِيَ النَّجْمُ إِذَا سَقَطَ أَوِ الْخَالِي مِنْ/ خَوِيَ الْمَنْزِلُ إِذَا خَلَا مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنْ فَسَّرْنَا الْخَاوِيَ بِالسَّاقِطِ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُوفِهَا، أَيْ خَرَّتْ سُقُوفُهَا عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ تَهَدَّمَتْ حِيطَانُهَا فَسَقَطَتْ فَوْقَ السُّقُوفِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالْخَالِي كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا خَالِيَةٌ عَنِ النَّاسِ مَعَ بَقَاءِ عُرُوشِهَا وَسَلَامَتِهَا، قَالَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ هِيَ خَاوِيَةٌ وَهِيَ عَلَى عُرُوشِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ السُّقُوفَ سَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَصَارَتْ فِي قَرَارِ الْحِيطَانِ وَبَقِيَتِ الْحِيطَانُ قَائِمَةً فَهِيَ مُشْرِفَةٌ عَلَى السُّقُوفِ السَّاقِطَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا بَقِيَتْ مَحَلًّا لِلِاعْتِبَارِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَحَلُّ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ. أَعْنِي وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها الْجَوَابُ: الْأُولَى: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَالثَّانِيَةُ: لَا مَحَلَّ لَهَا لأنها مقطوعة عَلَى (أَهْلَكْنَاهَا) وَهَذَا الْفِعْلُ لَيْسَ لَهُ مَحَلٌّ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ كَانَتْ ظَالِمَةً وَهِيَ الْآنَ خَاوِيَةٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ مُعَطَّلَةٍ مِنْ أَعْطَلَهُ بِمَعْنَى مُعَطَّلَةٍ وَمَعْنَى الْمُعَطَّلَةِ أَنَّهَا عَامِرَةٌ فيها الماء

صفحة رقم 232

وَيُمْكِنُ الِاسْتِقَاءُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّهَا عُطِّلَتْ أَيْ تُرِكَتْ لَا يُسْتَقَى مِنْهَا لِهَلَاكِ أَهْلِهَا وَفِي الْمَشِيدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمُجَصَّصُ لِأَنَّ الْجِصَّ بِالْمَدِينَةِ يُسَمَّى الشِّيدَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمَرْفُوعُ الْمُطَوَّلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقَرْيَةَ مَعَ تَكَلُّفِ بِنَائِهِمْ لَهَا وَاغْتِبَاطِهِمْ بِهَا جُعِلَتْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَكَذَلِكَ الْبِئْرُ الَّتِي كَلَّفُوهَا وَصَارَتْ شِرْبَهُمْ صَارَتْ مُعَطَّلَةً بِلَا شَارِبٍ وَلَا وَارِدٍ، وَالْقَصْرُ الَّذِي أَحْكَمُوهُ بِالْجِصِّ وَطَوَّلُوهُ صَارَ ظَاهِرًا خَالِيًا بِلَا سَاكِنٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ تَعَالَى عِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ وَتَدَبَّرَ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ عَلَى بِمَعَ أَوْلَى لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَهِيَ خَاوِيَةٌ مَعَ عُرُوشِهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ أَدْخَلَ فِي الِاعْتِبَارِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
[الصَّافَّاتِ: ١٣٧] واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْبِئْرَ نَزَلَ عَلَيْهَا صَالِحٌ مَعَ أَرْبَعَةِ آلَافِ نَفَرٍ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، وَنَجَّاهُمُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْعَذَابِ وَهُمْ بِحَضْرَمَوْتَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ صَالِحًا حِينَ حَضَرَهَا مَاتَ ثَمَّ، وَثَمَّ بَلْدَةٌ عِنْدَ الْبِئْرِ اسْمُهَا حَاضُورَا بَنَاهَا قَوْمُ صَالِحٍ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهَا حَاسِرَ بْنَ جُلَاسٍ وَجَعَلُوا وَزِيرَهُ سنجاريب وَأَقَامُوا بِهَا زَمَانًا ثُمَّ كَفَرُوا وَعَبَدُوا صَنَمًا، وَأَرْسَلَ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ فَقَتَلُوهُ فِي السُّوقِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّه تَعَالَى، وَعَطَّلَ بِئْرَهُمْ وَخَرَّبَ قُصُورَهُمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ، وَهَذَا عَجِيبٌ لِأَنِّي زُرْتُ قَبْرَ صَالِحٍ بِالشَّامِ بِبَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا عَكَّةُ فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ بِحَضْرَمَوْتَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ذِكْرُ مَا يَتَكَامَلُ بِهِ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَهَا حَظٌّ عَظِيمٌ فِي الِاعْتِبَارِ وَكَذَلِكَ/ اسْتِمَاعُ الْأَخْبَارِ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَلَكِنْ لَا يَكْمُلُ هَذَانِ الْأَمْرَانِ إِلَّا بِتَدَبُّرِ الْقَلْبِ لِأَنَّ مَنْ عَايَنَ وَسَمِعَ ثُمَّ لَمْ يَتَدَبَّرْ وَلَمْ يَعْتَبِرْ لَمْ ينتفع ألبتة ولو تفكر فيها سَمِعَ لَانْتَفَعَ، فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ كَأَنَّهُ قَالَ لَا عَمًى فِي أَبْصَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ بِهَا لَكِنَّ الْعَمَى فِي قُلُوبِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا أَبْصَرُوهُ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالسَّفَرِ الْجَوَابُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ مَا سَافَرُوا فَحَثَّهُمْ عَلَى السَّفَرِ لِيَرَوْا مَصَارِعَ مَنْ أَهْلَكَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ وَيُشَاهِدُوا آثَارَهُمْ فَيَعْتَبِرُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ سَافَرُوا وَرَأَوْا ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ يَعْتَبِرُوا فَجُعِلُوا كَأَنْ لَمْ يُسَافِرُوا وَلَمْ يَرَوْا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَالْجَوَابُ: هَذَا الضَّمِيرُ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ يَجِيءُ مُؤَنَّثًا وَمُذَكَّرًا وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ الْأَبْصَارُ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ الصُّدُورِ مَعَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الصَّدْرِ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنَّ الْعَمَى مَكَانُهُ الْحَدَقَةُ، فَلَمَّا أُرِيدَ إِثْبَاتُهُ لِلْقَلْبِ عَلَى خِلَافِ الْمُتَعَارَفِ احْتِيجَ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ الْمَضَاءُ لِلسَّيْفِ وَلَكِنَّهُ لِلِسَانِكَ الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ، فَقَوْلُكَ الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ تَقْرِيرٌ لِمَا ادَّعَيْتَهُ لِلِّسَانِ وَتَثْبِيتٌ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَضَاءِ هُوَ هُوَ لَا غَيْرُ، وَكَأَنَّكَ قُلْتَ مَا نَفَيْتُ الْمَضَاءَ عَنِ السَّيْفِ وَأَثْبَتُّهُ لِلِسَانِكَ سَهْوًا، وَلَكِنِّي تَعَمَّدْتُهُ عَلَى الْيَقِينِ. وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنِ الْخَاطِرِ وَالتَّدَبُّرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: ٣٧] وَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ مَحَلَّ التَّفَكُّرِ هُوَ الدِّمَاغُ فاللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّدْرُ.

صفحة رقم 233
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية