أما القول بأنه طواف الوداع (الصّدر) فهو بعيد لأن الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة، فلا مناسبة هنا لطواف الوداع.
وللحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع.
أما طواف القدوم فهو سنة عند الجمهور، واجب على الأصح عند المالكية، وعكسه طواف الوداع: مستحب عند المالكية، واجب عند الجمهور، وأما طواف الإفاضة فهو فرض وركن لا يتم الحج إلا به بالاتفاق، لقوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
تعظيم حرمات الله وشعائره
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
الإعراب:
ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر والشأن ذلك المذكور.
مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ: لتبيين الجنس لأنه أعم في النهي.
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حُنَفاءَ: حال من ضمير فَاجْتَنِبُوا وهو عامله، وكذلك غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ القراءة المشهورة جرّ الْقُلُوبِ بالإضافة، وتقرأ برفع الْقُلُوبِ بالمصدر لأن «التقوى» مصدر كالدعوى، فيرتفع به ما بعده.
البلاغة:
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تأكيد بإعادة الفصل بالفعل، ويسمى الإطناب، للعناية بشأن كل منهما على حدة.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، وكذا قوله: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ تشبيه تمثيلي. والعطف فيه إما على قوله: خَرَّ مِنَ السَّماءِ أو على «تخطفه الطير».
وَجَبَتْ جُنُوبُها جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
ذلِكَ أي الأمر هكذا، ويستعمل للفصل بين كلامين، كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص ٣٨/ ٥٥] وَمَنْ يُعَظِّمْ التعظيم: العلم بوجوب تكاليف الشرع والعمل بموجبه. حُرُماتِ اللَّهِ جمع حرمة، والحرمة: الأحكام وسائر ما لا يحل انتهاكه، عن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمشعر الحرام. وقال المتكلمون: ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي فالتعظيم خير ثوابا في الآخرة، للعلم بأنه يجب القيام بمراعاة الحرمات وحفظها.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي أحل أكلها بعد الذبح. إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا المتلو عليكم تحريمه في آية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة ٥/ ٣] وهو ما حرّم منها لعارض كالموت وغيره، فلا تحرموا منها غير ما حرّمه الله كالبحيرة والسائبة، والاستثناء منقطع، ويجوز أن يكون متصلا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ للبيان، أي الذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها، والتنفير عن عبادتها. والرجس: القذر، أي اجتنبوا عبادة الأوثان.
والأوثان جمع وثن، وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكانه لا يبرح عنه، وقد يسمى الصنم تمثالا إذا كان على صورة الحيوان التي يحيى بها.
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ أي الشرك بالله في تلبيتكم، أو شهادة الزور،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن خريم بن فاتك: «عدّت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاث مرات، وتلا هذه الآية.
والزور: الكذب والانحراف. وهو تعميم بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان والافتراء على الله بأنه حكم بذلك.
حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين لله، مسلمين، عادلين عن كل دين سوى دينه، جمع حنيف: وهو المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ تأكيد لما قبله. خَرَّ سقط.
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أي تأخذه بسرعة، والخطف: الاختلاس بسرعة. تَهْوِي تسقط.
سَحِيقٍ بعيد، أي فهو لا يرجى خلاصه، فإن الشيطان قد طرح به في الضلالة. وأو:
للتخيير، كما في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة ٢/ ١٩] أو للتنويع، فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة، ولكن على بعد.
ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك المذكور. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه، أو الهدايا لأنها من معالم الحج، والشعائر: جمع شعيرة أي علامة، ويراد بها الهدايا، وتعظيمها أن تختار من النوع الحسن السمين الغالي الثمن. وسميت شعائر لتعليمها بأنها هدي كالزينة أو الجرح البسيط.
فَإِنَّها أي فإن تعظيم البدن التي تهدى للحرم بأن تستحسن وتستسمن. مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات. وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كركوبها والحمل عليها ما لا يضرها. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت نحرها. مَحِلُّها أي مكان حل نحرها. إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي عنده، والمراد: الحرم جميعه.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أي ولكل أهل دين تقدموا مَنْسَكاً المراد هنا متعبدا أو قربانا يتقربون به إلى الله تعالى وهو الذبح تقربا إلى الله، فهو اسم مكان، والأصل في النسك والمنسك: العبادة مطلقا، وشاع استعماله في أعمال الحج. عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند ذبحها. فَلَهُ أَسْلِمُوا انقادوا. الْمُخْبِتِينَ المطيعين الخاشعين المتواضعين. وَجِلَتْ خافت.
ما أَصابَهُمْ من البلايا. وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها. يُنْفِقُونَ يتصدقون.
المناسبة:
الكلام مرتبط بما قبله بنحو واضح، فبعد أن أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالنداء للحج، أبان ثواب تعظيم أحكام الله وشرعه ومنها مناسك الحج، وإباحة ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني تحريمه، ثم أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان، والافتراء على الله، والكذب في أداء الشهادات، وهلاك من يشرك بالله، ثم أوضح كون تعظيم الشعائر من علائم التقوى ودعائمها، وأن محل نحرها هو الحرم المكي، كما أن لكل أمة أو جماعة مؤمنة ذبائح يتقربون بها إلى الله تعالى.
التفسير والبيان:
ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ... أي ذلك هو المأمور به من الطاعات في أداء المناسك وثوابها الجزيل، ومن يعظم أحكام الله بالعلم بوجوبها والعمل بموجبها، بأن يجتنب المعاصي والمحارم، ويلتزم بالأوامر، فله على ذلك ثواب جزيل، والثواب يكون على الأمرين معا: فعل الطاعات، واجتناب المحظورات أو ترك المحرّمات.
والحرمات: جمع حرمة وهي بمعنى ما حرم الله من كل منهي عنه في الحج من الجدال والجماع والفسوق والصيد، وتعظيمها يكون باجتنابها. وقيل: الحرمات:
جميع التكاليف الشرعية في الحج وغيره، وقيل: هي مناسك الحج خاصة، وقيل: إنها حرمات خمس: المسجد الحرام (الكعبة) والبيت الحرام، والمشعر الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام. وتعظيمها باجتناب المعاصي، ومنها الاعتداءات فيها.
وضمير فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ راجع إلى التعظيم المفهوم من يُعَظِّمْ أي أن تعظيم هذه الأشياء سبب للمثوبة المضمونة عند الله تعالى، وعلى هذا لا يكون خَيْرٌ أفعل تفضيل.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي وأبيح لكم أيها الناس ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني وتلي عليكم في آية المائدة وغيرها، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.. إلخ ولم يحرم عليكم ما حرمه أهل الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. فلا يراد من قوله يُتْلى ما ينزل في المستقبل، كما هو ظاهر الفعل المضارع، بل المراد: ما سبق نزوله، ويكون التعبير بالمضارع للتنبيه على أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه.
والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى: المحرم من خصوص الأنعام، وهو منقطع إن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير وغيرهما، والراجح الأول والجملة معترضة لدفع الإيهام بأن تعظيم الحرمات يقضي باجتناب الأنعام، كما قضي باجتناب الصيد في الحرم وفي أداء المناسك في الحج والعمرة.
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي تجنبوا القذر من الأصنام، وسميت رجسا تقبيحا لها وتنفيرا منها، وابتعدوا عن عبادة الأوثان، فذلك رجس، والمراد من اجتنابها: اجتناب عبادتها وتعظيمها، وتأكيدا للأمر أوقع الاجتناب على ذاتها. والجملة مرتبطة بقوله: وَمَنْ يُعَظِّمْ.. أي إذا كان تعظيم حرمات الله فيه الخير ورضا الله تعالى، وكان من تعظيمها اجتناب ما نهى الله عنه، فاجتنبوا الأوثان، ولا تعظموها، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية.
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي وابتعدوا عن الكذب والباطل وشهادة الزور، فذلك كله يدخل تحت عبارة قَوْلَ الزُّورِ والأحسن التعميم، حتى يشمل شهادة الزور،
أخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاثا، وتلا هذه الآية.
وتمسكوا بهذه الأمور حنفاء لله، أي مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل، قصدا إلى الحق، دون إشراك بالله أحدا. والحنيف: المائل عن الديانات الباطلة إلى الدين الحق.
ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى بجملة مستأنفة مقررة لوجوب اجتناب الشرك، فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ... أي ومن أشرك مع الله إلها آخر، وعبد غيره، فقد خسر خسرانا عظيما وهلك هلاكا مبينا، وهو في شركه شبيه بمن سقط من جو السماء، فتخاطفته الطيور، أي قطعته ومزقته في الهواء، وأخذ كل منها بقطعة منه، فتم هلاكه أي هو كمن عصفت به الريح، فهوت به في مكان بعيد مهلك، لا يكون له منه خلاص ولا نجاة. والغرض من هذين التشبيهين التمثيليين تقبيح حال الشرك والتنفير منه.
ثم ذكر الله تعالى سبب تعظيم الشعائر فقال:
ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي الأمر ذلك المذكور، ومن يعظم الهدايا (المواشي التي تذبح هدية للحرم) لأنها من معالم الحج، بأن يختارها جسيمة سمينة غالية الثمن، أو من يعظم أوامر الله ومناسك الحج، ومنها تعظيم الهدايا والبدن باستسمانها واستحسانها، كما قال ابن عباس، فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، كما ذكر في الكشاف. فقوله: فَإِنَّها عائد إلى حالة المعظم التي يدل عليها فعل وَمَنْ يُعَظِّمْ أو التعظيمة الواحدة. قال ابن العربي عن الشعائر: والصحيح أنها البدن.
روي أنه صلّى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، فيها جمل لأبي جهل، في أنفه برة من ذهب، أي حلقة من ذهب.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: أهدى عمر نجيبا، فأعطي بها ثلاث مائة دينار، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله، إني أهديت نجيبا، فأعطيت بها ثلاث مائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: «لا، أنحرها إياها».
وكان ابن عمر يسوق البدن مجلّلة بالقباطي- ثياب مصرية غالية الثمن- فيتصدق بلحومها وجلالها.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي لكم في البدن منافع دنيوية من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها، إلى أجل مسمى أي إلى أن تنحر، ويتصدق بلحومها، ويؤكل منها.
ويجوز ركوبها، حتى بعد أن تسمى بدنا أو هديا لما
ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال: «اركبها» قال: إنها بدنة، قال: «اركبها ويحك» في الثانية أو الثالثة.
ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي ثم مكان حل نحر الهدي، وانتهاؤه عند البيت العتيق وهو الكعبة، أي الحرم جميعه، إذ الحرم كله في حكم البيت الحرام، كما قال تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة ٥/ ٩٥] وقال: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح ٤٨/ ٢٥]. وعلى هذا يكون المعطوف بثم في الآية كلاما تاما أريد به بيان المكان الذي تذبح فيه الهدايا بعد ما بين حكم تعظيمها والانتفاع بها إلى الأجل المعين.
وسبب تسميته بالبيت العتيق هو كما
أخرج البخاري في تاريخه، والترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما سماه الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبار قط».
ثم أخبر الله تعالى عن مشروعية ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله في جميع الملل فقال:
ووَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أي جعلنا لأهل كل دين سلف ذبحا
يذبحونه تقربا إلى الله تعالى، وذلك ليس خاصا بأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وإنما هو في كل الملل. والصحيح كما قال ابن العربي أن المنسك: هو ما يرجع إلى العبادة والتقرب.
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي شرعنا لهم سنة ذبح الأنعام، لكي يذكروا اسم الله حين ذبحها، أي عند الشروع فيه، ويشكروه على نعمه التي أنعم بها عليهم.
ويؤيده ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن زيد بن أرقم قال: قلت يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال:
«سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: ما لنا منها؟ قال: «بكل شعرة حسنة» قال:
فالصوف؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة».
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَلَهُ أَسْلِمُوا، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ أي فإن معبودكم واحد، وإن تنوعت شرائع الأنبياء، ونسخ بعضها بعضا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥]. وقوله: فَإِلهُكُمْ..
بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر لأن تفرده تعالى بالألوهية يقتضي ألا يذكر على الذبائح غير اسمه. وإنما قال: إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل:
«فإلهكم واحد» لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته وفي ألوهيته.
ومتى كان الإله واحدا فله أسلموا أي فيجب تخصيصه بالعبادة، والاستسلام له والانقياد له في جميع الأحكام. وقوله فَلَهُ أَسْلِمُوا مرتب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله.
وبشر أيها النبي بالثواب الجزيل المخبتين، أي المتواضعين الخاشعين لله، من
الخبت وهو المطمئن المنخفض من الأرض. وسر تحول الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم هو إظهار عظمة الألوهية وقهرها في مقام الأمر والنهي للعباد، فلما انتهى أمر التكليف، وجه الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم لتبليغه الناس وعد الله للعاملين المخلصين.
وأوصافهم أربعة هي ما يأتي:
١- الخوف والخشوع عند ذكر الله: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي إذا ذكر الله خافت منه قلوبهم.
٢- الصبر على المصائب: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي الذين يصبرون على الآلام والمشقات في طاعة الله تعالى.
٣- إقامة الصلاة: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ أي الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشرائط، مع الخشوع لله تعالى.
٤- الإنفاق مما رزقهم الله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي وينفقون من بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق، على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى الخلق، مع محافظتهم على حدود الله تعالى.
وهذه بخلاف صفات المنافقين، فإنهم بالعكس من هذا كله.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال ٨/ ٢] وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر ٣٩/ ٢٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
أفادت الآيات الأحكام التالية:
١- إن تعظيم حرمات الله أي أفعال الحج وغيرها من امتثال الأوامر
واجتناب النواهي خير عند الله من التهاون بشيء منها، وسبب للمثوبة والتكريم عند الله تعالى، فإن للأوامر حرمة المبادرة إلى الامتثال، وللنواهي حرمة الانكفاف والانزجار.
٢- إباحة الأكل من لحوم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، إلا المذكور في القرآن من المحرّمات، وهي الميتة والموقوذة وأخواتها.
٣- يجب اجتناب عبادة الأصنام والأوثان، فإنها رجس أي شيء قذر، وهي نجسة نجاسة حكمية. والوثن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه، فهو كالتمثال أيضا.
٤- ويجب أيضا اجتناب قول الزور، والزور: الباطل والكذب، وهو يشمل خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم وقولهم فيها: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، ويشمل أيضا قولهم في البحائر والسوائب: إنها حرام، وإن تحريمها من الله، وكذلك يشمل شهادة الزور الباطلة.
ففي الآية وعيد على شهادة الزور، ولكن ليس في الآية ما يدل على تعزير شاهد الزور لأنها اقتصرت على تحريم شهادة الزور. وإنما يعزر من قبيل المصلحة والسياسة الشرعية، التي للحاكم أن يسير على نهجها لحفظ الحقوق العامة، وردع أهل الفساد. وهذا رأي المالكية وأبي يوسف ومحمد،
جاء في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور وقول الزور»
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم متكئا، فجلس، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت.
٥- يلزم الإخلاص في العبادة لله، والاستقامة على أمره، فقوله:
حُنَفاءَ لِلَّهِ معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق، تاركين الدين الباطل.
٦- المشرك هالك حتما، خاسر الآخرة، فهو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا، فهو بمنزلة من خرّ من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع شيئا عن نفسه، ونهايته الهلاك إما بأن تقطعه الطيور بمخالبها، أو تعصف به الريح، وتسقطه في مكان قفر بعيد لا نجاة له فيه.
٧- إن تعظيم شعائر الله (وهي الأنعام التي تساق هديا للكعبة، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، أو هي جميع مناسك الحج، والصحيح أنها البدن كما قال ابن العربي) من علائم التقوى ودعائمها. وتعظيمها يكون باختيارها سمينة حسنة غالية الأثمان. والتقوى: هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب النواهي. والإخلاص والتقوى والخشية غاية ما يتمنى المرء أن يدركه في هذه الدنيا، ليصل به إلى سعادة الآخرة.
وفي الآية حث على التقوى، وبعث للهمم على الاهتمام بأمرها.
٨- يجوز الانتفاع بالبدن بالركوب والحلب وأخذ الصوف وغيرها، إلى وقت الذبح، فقد فسر الشافعية الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي.
وقالوا: إنما يجوز الانتفاع للحاجة، ولو لم يكن هناك اضطرار. ولا يجوز لغير حاجة، والأولى أن يتصدق بمنافعها، ولكن لا يضمن شيئا من منافع الهدي إلا إذا أدى الركوب إلى الإنقاص البين لقيمتها، ودليلهم
حديث أنس المتقدم المتفق عليه بين أحمد والشيخين: «اركبها ولو كانت بدنة»
وحديث جابر فيما رواه أبو داود: «اركبوا الهدي المعروف حتى تجدوا ظهرا».
وفسر الحنفية الأجل المسمى في الآية بوقت تعيينها وتسميتها هديا. ولا يجوز الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار، ودليلهم
ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر أنه سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا»
فالجواز خاص بحالة الضرورة، فهو مقيد والمقيد يقضي على المطلق في حديث
أنس، فإن لم تكن ضرورة وجب ضمان ما ينتفع به لأنه ضار حقا للفقراء، فعليه أن يعوضهم مقدار قيمته.
والمشهور من مذهب المالكية أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها. وهذا قريب من مذهب الحنفية.
وذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة،
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اركبها».
وقد أخذ أحمد وإسحاق وأهل الظاهر بظاهر هذا الحديث. وهذا يغاير فعل النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه لم يركب هديه ولم يركبه غيره.
٩- إن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. وأما ذبح البدن والهدي فلا يصح إلا في الحرم لأنه تعالى جعل محلها إلى البيت العتيق، قال عطاء: ينتهي إلى مكة.
١٠- الإخبار بجعل نسك الذبح لكل الأمم فيه تحريك النفوس إلى المسارعة إلى هذا البر، والاهتمام بهذه القربة، وفيه إشعار بأن أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم، ويخلطون في التسمية على ذبائحهم، إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم، فإن شرائع الله كلها قد اتفقت على أن التقرب إنما يكون لله وحده، وباسمه وحده إذ ليس للناس إلا إله واحد.
١١- الإله الواحد هو الرازق والمشرع والمكلّف بالتكاليف الدينية، فتجب إطاعته، والانقياد لحكمه، وأن يكون الذبح له، وأن يذكر اسمه عند الذبح، وأن يخلص الذبح له لا لغيره أو مع غيره لأنه رازق ذلك. وظاهر الآية:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً وجوب ذكر اسم الله على الذبيحة، ووجوب اعتقاد أن الله واحد، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص لله في العمل.