
إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم دينا منكم ونحو هذا، فنزلت الآية، وقال عكرمة: المخاصمة بين الجنة والنار، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي: الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية، وذلك أنه تقدم قوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ المعنى هم مؤمنون ساجدون، ثم قال وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ثم أشار إلى هذين الصنفين بقوله هذانِ خَصْمانِ والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعداوة والجدال والحرب، وقوله تعالى: خَصْمانِ يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله اخْتَصَمُوا فإنها قراءة الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما في ربهم» وقوله فِي رَبِّهِمْ معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم، وقُطِّعَتْ معناه جعلت لهم بتقدير، كما يفصل الثوب، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي، وروي في صب الْحَمِيمُ وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب «المقامع» فتنكشف أدمغتهم فيصب الْحَمِيمُ حينئذ، وقيل بل يصب الحميم أولا فيفعل ما وصف، ثم تضرب ب «المقامع» بعد ذلك، والْحَمِيمُ الماء المغلي، ويُصْهَرُ معناه يذاب، وقيل معناه يعصر وهذه
العبارة قلقة، وقيل معناه ينضج ومنه قول الشاعر «تصهره الشمس ولا ينصهر» وإنما يشبه فيمن قال يعصر.
أنه أراد الحميم يهبط كل ما يلقى في الجوف ويكشطه ويسلته، وقد روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه يسلته ويبلغ به قدميه ويذيبه، ثم يعاد كما كان، وقرأ الجمهور «يصهر» وقرأت فرقة «يصهّر» بفتح الضاد وشد الهاء، و «المقمعة» بكسر الميم مقرعة من حديد يقمع بها المضروب، وقوله:
أَرادُوا روي فيه أن لهب النار إذا ارتفع رفعهم فيصلون إلى أبواب النار فيريدون الخروج فيضربون ب «المقامع» وتردهم الزبانية و «من» في قوله مِنْها الابتداء الغاية، وفي قوله مِنْ غَمٍّ يحتمل أن تكون لبيان الجنس ويحتمل أن تكون لابتداء غاية أيضا وهي بدل من الأولى. وقوله: وَذُوقُوا هنا محذوف تقديره ويقال لهم: ذُوقُوا والْحَرِيقِ فعيل بمعنى مفعل أي محرق، وقرأ الجمهور «هذان» بتخفيض النون، وقرأ ابن كثير وحده «هذانّ» بتشديد النون، وقرأها شبل وهي لغة لبعض العرب في المبهمات، كاللذان، وهذان وقد ذكر ذلك أبو علي.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)

هذه الآية معادلة لقوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا [الحج: ١٩] وقرأ الجمهور «يحلون» بضم الياء وشد اللام من الحلي، وقرأ ابن عباس «يحلون» بفتح الياء واللام وتخفيفها، يقال حلي الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي وقيل هي من قولهم لم يحل فلان بطائل، ومِنْ في قوله مِنْ أَساوِرَ هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض، و «الأساور» جمع سوار وإسوار بكسر الهمزة، وقيل أَساوِرَ جمع أسورة وأسورة جمع سوار، وقرأ ابن عباس من «أسورة من ذهب»، و «اللؤلؤ» الجوهر وقيل صغاره وقيل كباره والأشهر أنه اسم للجوهر، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «ولؤلؤا» بالنصب عطفا على موضع الأساور لأن التقدير يحلون أساور، وهي قراءة الحسن والجحدري وسلام ويعقوب والأعرج وأبي جعفر وعيسى بن عمر، وحمل أبو الفتح نصبه على إضمار فعل، وقرأ الباقون من السبعة و «لؤلؤ» بالخفض عطفا إما على لفظ الأساور ويكون اللؤلؤ في غير الأساور، وإما على الذهب لأن الأساور أيضا تكون «من ذهب» و «لؤلؤ» قد جمع بعضه إلى بعض، ورويت هذه القراءة عن الحسن بن أبي الحسن وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة، وثبتت في الإمام ألف بعد الواو قاله الجحدري، وقال الأصمعي: ليس فيها ألف، وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم همز الواو الثانية دون الأولى، وروى المعلى بن منصور عن أبي بكر عن عاصم ضد ذلك، قال أبو علي: همزهما وتخفيفهما وهمز إحداهما دون الأخرى جائز كله، وقرأ ابن عباس «ولئلئا» بكسر اللامين، وأخبر عنهم بلباس الحرير لأنها من أكمل حالات الآخرة، وقد روي عن النبي ﷺ «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»، وقال ابن عباس: لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلا في الأسماء فقط وأما الصفات فمتباينة، والطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ لا إله إلّا الله وما جرى معها من ذكر الله تعالى وتسبيحه وتقديسه وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب فإنها لا تسمع فيها لاغية، وصِراطِ الْحَمِيدِ هو طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه، ويحتمل أن يريد ب الْحَمِيدِ نفس الطريق فأضاف إليه على حد إضافته في قوله «دار الآخرة» [الأنعام: ٣٢، يوسف: ١٠٩، النحل: ٣٠]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ الآية، قوله وَيَصُدُّونَ تقديره وهم يصدون وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي وقالت فرقة الواو زائدة وَيَصُدُّونَ خبر إِنَّ وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله وَالْبادِ تقديره خسروا أو هلكوا، وجاء يَصُدُّونَ مستقبلا إذ هو فعل يديمونه كما جاء قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ [الرعد: ٢٨] ونحوه، وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ رسول الله ﷺ عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع إلا أن يراد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث، وقالت فرقة الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أرادوا به مكة كلها ع وهذا صحيح لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من ذلك، وقرأ جمهور الناس «سواء» بالرفع وهو على الابتداء والْعاكِفُ خبره، وقيل الخبر سَواءً وهو مقدم وهو قول أبي علي والمعنى الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا، وقرأ حفص عن عاصم «سواء» بالنصب وهي قراءة الأعمش وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفعولا ثانيا ل «جعل» ويرتفع «العاكف» به لأنه مصدر في معنى مستو أعمل عمل اسم الفاعل، والوجه الثاني أن يكون حالا من الضمير في «جعلنا» وقرأت فرقة «سواء» بالنصب «العاكف» بالخفض عطفا على الناس. والْعاكِفُ، المقيم في البلد، والْبادِ، القادم عليه من غيره، وقرأ
صفحة رقم 115
ابن كثير في الوصل والوقف «البادي» بالياء. ووقف أبو عمرو بغير ياء، ووصل بالياء، وقرأ نافع «الباد» بغير ياء في الوصل والوقف في رواية المسيبي، وأبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس، وروى ورش الوصل بالياء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء وصلا ووقفا، وهي في الإمام بغير ياء، وأجمع الناس على الاستواء في نفس الْمَسْجِدِ الْحَرامِ واختلفوا في مكة، فذهب عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد وجماعة معهم إلى أن
الأمر كذلك في دور مكة وأن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال: ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، قال ابن سابط: وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب، وقال جمهور من الأمة منهم مالك: ليست الدور كالمسجد ولأهلها الامتناع بها والاستبداد، وعلى هذا هو العمل اليوم، وهذا الاختلاف الأول متركب على الاختلاف في مكة هل هي عنوة كما روي عن مالك والأوزاعي، أو صلح كما روي عن الشافعي، فمن رآها صلحا فإن الاستواء في المنازل عنده بعيد، ومن رآها عنوة أمكنه أن يقول الاستواء فيها، قرره الأئمة الذين لم يقطعوها أحدا وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر قول النبي ﷺ «وهل ترك لنا عقيل منزلا»، يقتضي أن لا استواء وأنها متملكة ممنوعة على التأويلين في قوله عليه السلام لأنه تؤول بمعنى أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره، وتؤول بمعنى أنه باع منازل بني هاشم حين هاجروا ومن الحجة لتملك أهلها دورهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية دارا للسجن بأربعة آلاف، ويصح مع ذلك أن يكون الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار بالعنوة والصلح، وقوله تعالى: بِإِلْحادٍ قال أبو عبيدة الباء زائدة ومنه قول الشاعر:
بواد يمان ينبت الشت صدره | وأسفله بالمرخ والشبهان |
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وهذا كثير ويجوز أن يكون التقدير وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ الناس بِإِلْحادٍ و «الإلحاد» الميل، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقال ابن عباس: «الإلحاد» في هذه الآية الشرك، وقال أيضا: هو استحلال الحرام وحرمته، وقال مجاهد: هو العمل السيّء فيه، وقال عبد الله بن عمرو: قول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد، وقال حبيب بن أبي ثابت: الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم. ع. والعموم يأتي على هذا كله، وقرأت فرقة «ومن يرد» من الورود حكاه الفراء، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة، ومَنْ شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على الَّذِينَ والله المستعان.
قوله عز وجل: صفحة رقم 116