آيات من القرآن الكريم

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أَيْ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَاحْتِمَالِ الْأَذَى فِي نُصْرَةِ دِينِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا قَالَ مُقَاتِلٌ: الرَّحْمَةُ النُّبُوَّةُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يتناول جميع أعمال البر والخير.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
الْقِصَّةُ الثَّامِنَةُ، قِصَّةُ يُونُسَ عليه السلام
اعلم أن هنها مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَا النُّونِ هُوَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ النُّونَ هُوَ السَّمَكَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ إِذَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَقَبًا مَحْضًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا، فَحَمْلُهُ عَلَى الْمُفِيدِ أَوْلَى، خُصُوصًا إِذَا عُلِمَتِ الْفَائِدَةُ الَّتِي يَصْلُحُ لَهَا ذَلِكَ الْوَصْفُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ كَانَ قَبْلَ اشْتِغَالِهِ بِأَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّه تَعَالَى أَوْ بَعْدَهُ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَانَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمُهُ يَسْكُنُونَ فِلَسْطِينَ، فَغَزَاهُمْ مَلِكٌ وَسَبَى مِنْهُمْ تِسْعَةَ أَسْبَاطٍ وَنِصْفًا، وَبَقِيَ سِبْطَانِ وَنِصْفٌ. فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اذْهَبْ إِلَى حِزْقِيلَ الْمَلِكِ وَقُلْ لَهُ حَتَّى يُوَجِّهَ نَبِيًّا قَوِيًّا أَمِينًا فَإِنِّي أُلْقِي فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ أَنْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: فَمَنْ تَرَى وَكَانَ فِي مَمْلَكَتِهِ خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى: فَإِنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ فَدَعَا الْمَلِكُ بِيُونُسَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ يُونُسُ: هَلْ أَمَرَكَ اللَّه بِإِخْرَاجِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَهَلْ سَمَّانِي لَكَ؟
قَالَ: لَا قَالَ فههنا أَنْبِيَاءٌ غَيْرِي، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ وَلِقَوْمِهِ فَأَتَى بَحْرَ الرُّومِ فَوَجَدَ قَوْمًا هَيَّئُوا سَفِينَةً فَرَكِبَ مَعَهُمْ فَلَمَّا تَلَجَّجَتِ السَّفِينَةُ تَكَفَّأَتْ بِهِمْ وَكَادُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هَاهُنَا رَجُلٌ عَاصٍ أَوْ عَبْدٌ آبِقٌ لِأَنَّ السَّفِينَةَ لَا تَفْعَلُ هَذَا مِنْ غَيْرِ رِيحٍ إِلَّا وَفِيهَا رَجُلٌ عَاصٍ، وَمِنْ رَسْمِنَا أَنَّا إِذَا ابْتُلِينَا بِمِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ أَنْ نَقْتَرِعَ فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَيْنَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَلَأَنْ يَغْرَقَ [وَ] احِدٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَغْرَقَ السَّفِينَةُ، فَاقْتَرَعُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَنَا/ الرَّجُلُ الْعَاصِي وَالْعَبْدُ الْآبِقُ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ فَجَاءَ حُوتٌ فَابْتَلَعَهُ، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى الْحُوتِ لَا تُؤْذِ مِنْهُ شَعْرَةً. فَإِنِّي جَعَلْتُ بَطْنَكَ سِجْنًا لَهُ وَلَمْ أَجْعَلْهُ طَعَامًا لَكَ، ثُمَّ لَمَّا نَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ نَبَذَهُ بِالْعَرَاءِ كَالْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ لَيْسَ عَلَيْهِ شَعَرٌ وَلَا جِلْدٌ، فَأَنْبَتَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا حَتَّى اشْتَدَّ، فَلَمَّا يَبِسَتِ الشَّجَرَةُ حَزِنَ عَلَيْهَا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْزَنُ عَلَى شَجَرَةٍ وَلَمْ تَحْزَنْ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، حَيْثُ لَمْ تَذْهَبْ إِلَيْهِمْ وَلَمْ تَطْلُبْ رَاحَتَهُمْ. ثُمَّ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ فَتَوَجَّهُ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْوَهُمْ حَتَّى دَخَلَ أَرْضَهُمْ وَهُمْ مِنْهُ غَيْرُ بَعِيدٍ فَأَتَاهُمْ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ لِمَلِكِهِمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لِتُرْسِلَ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ مَا تَقُولُ، وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ صَادِقٌ لَفَعَلْنَا، وَلَقَدْ أَتَيْنَاكُمْ فِي دِيَارِكُمْ وَسَبَيْنَاكُمْ فَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَمَنَعَنَا اللَّه عَنْكُمْ، فَطَافَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا جَاءَكُمُ الْعَذَابُ فَأَبْلَغَهُمْ فَأَبَوْا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَلَمَّا فَقَدُوهُ نَدِمُوا عَلَى فِعْلِهِمْ فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ،

صفحة رقم 178

ثُمَّ ذَكَرُوا أَمْرَهُمْ وَأَمْرَ يُونُسَ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي دِينِهِمْ، فَقَالُوا انْظُرُوا وَاطْلُبُوهُ فِي الْمَدِينَةِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَلَيْسَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فَهُوَ كَمَا قَالَ: فَطَلَبُوهُ فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّهُ خَرَجَ الْعَشِيَّ فَلَمَّا آيَسُوا أَغْلَقُوا بَابَ مَدِينَتِهِمْ فَلَمْ يَدْخُلْهَا بَقَرُهُمْ وَلَا غَنَمُهُمْ وَعَزَلُوا الْوَالِدَةَ عَنْ وَلَدِهَا وَكَذَا الصِّبْيَانُ وَالْأُمَّهَاتُ، ثُمَّ قَامُوا يَنْتَظِرُونَ الصُّبْحَ. فَلَمَّا انْشَقَّ الصُّبْحُ رَأَوُا الْعَذَابَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَشَقُّوا جُيُوبَهُمْ وَوَضَعَتِ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَصَاحَ الصِّبْيَانُ وَثَغَتِ الْأَغْنَامُ وَالْبَقَرُ، فَرَفَعَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَبَعَثُوا إِلَى يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَآمَنُوا بِهِ، وَبَعَثُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٤٥- ١٤٧] وَفِي هَذَا الْقَوْلِ
رِوَايَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِيُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى وَأَنْذِرْهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَهُمْ، فَقَالَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلْتَمِسُ دَابَّةً فَقَالَ الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ فَغَضِبَ وَانْطَلَقَ إِلَى السَّفِينَةِ،
وَبَاقِي الْحِكَايَةِ كَمَا مَرَّتْ إِلَى أَنِ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ فَانْطَلَقَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى نِينَوَى فَأَلْقَاهُ هُنَاكَ. أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ قِصَّةَ الْحُوتِ كَانَتْ بَعْدَ دُعَائِهِ أَهْلَ نِينَوَى وَتَبْلِيغِهِ رِسَالَةَ اللَّه إِلَيْهِمْ قَالُوا إِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا وَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا كُشِفَ الْعَذَابُ عَنْهُمْ بَعْدَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ خَرَجَ مِنْهُمْ مُغَاضِبًا، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ الْخُرُوجِ والغضب أمورا. أحدها: أنه استحى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَوْمٍ قَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ مَنْ عَادَتِهِمْ قَتْلُ الْكَاذِبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ دَخَلَتْهُ الْأَنَفَةُ. وَرَابِعُهَا:
لَمَّا لَمْ يَنْزِلِ الْعَذَابُ بِأُولَئِكَ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قِصَّةَ الْحُوتِ وَذَهَابِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُغَاضِبًا بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَبَعْدَ رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الذَّنْبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ/ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا:
أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ يُونُسُ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ وَيُقَالُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَوَهْبٍ وَاخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنَّ مُغَاضَبَتَهُ للَّه تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْمُغَاضَبَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَ اللَّه تَعَالَى بَلْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ الْمَلِكِ أَوْ مَعَ الْقَوْمِ فَهُوَ أَيْضًا كَانَ مَحْظُورًا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [الْقَلَمِ: ٤٨] وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ يُونُسَ كَانَ مَحْظُورًا. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ شَاكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وَالظُّلْمُ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّمِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: ١٨]. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ الذَّنْبُ، فَلِمَ عَاقَبَهُ اللَّه بِأَنْ أَلْقَاهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
[الصَّافَّاتِ: ١٤٢] وَالْمُلِيمُ هُوَ ذُو الْمَلَامَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُذْنِبٌ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْحُوتِ مُذْنِبًا لَمْ يَجُزِ النَّهْيُ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُذْنِبًا فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: ٣٥] فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ يُونُسُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ وَكَانَ مُوسَى مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، ثُمَّ قَالَ: فِي حَقِّهِ لَوْ كَانَ ابْنُ عِمْرَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي، وَقَالَ فِي يُونُسَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَنْ غَاضَبَهُ، لَكِنَّا نَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى نَبِيِّ اللَّه أَنْ يُغَاضِبَ رَبَّهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ مَنْ يَجْهَلُ كَوْنَ اللَّه مَالِكًا

صفحة رقم 179

لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْجَاهِلُ باللَّه لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَأَمَّا مَا
رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ، وَتَنَاوُلِ النَّفْلِ فَمِمَّا يَرْتَفِعُ حَالُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَنْهُ،
لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفُوهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الْأَحْزَابِ: ٣٦] وَقَوْلُهُ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ إِلَى قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النِّسَاءِ: ٦٥] فَإِذَا كَانَ فِي الِاسْتِعْدَادِ مُخَالَفَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ هَذِهِ الْمُغَاضَبَةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِغَيْرِ اللَّه، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُغَاضِبُ مَنْ يَعْصِيهِ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ فَيَحْتَمِلُ قَوْمَهُ أَوِ الْمَلِكَ أَوْ هُمَا جَمِيعًا، وَمَعْنَى مُغَاضَبَتِهِ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ أَغْضَبَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِ لِخَوْفِهِمْ حُلُولَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ عِنْدَهَا، وَقَرَأَ أَبُو شَرَفٍ مُغْضَبًا.
أَمَّا قَوْلُهُ مُغَاضَبَةُ الْقَوْمِ أَيْضًا كَانَتْ مَحْظُورَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم: ٤٨] قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا كَانَتْ مَحْظُورَةً، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُ بِتَبْلِيغِ تِلْكَ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَبْقَى مَعَهُمْ أَبَدًا فَظَاهِرُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَعْصِيَةً، وَأَمَّا الْغَضَبُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا غَضَبًا للَّه تَعَالَى وَأَنَفَةً لِدِينِهِ وَبُغْضًا لِلْكُفْرِ وَأَهْلِهِ، بَلْ كَانَ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُصَابِرَ وَيَنْتَظِرَ الْإِذْنَ مِنَ اللَّه/ تَعَالَى فِي الْمُهَاجَرَةِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ كَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرَادَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْمَنَازِلِ وَأَعْلَاهَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ:
وَهِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَنْ نَقُولَ مَنْ ظَنَّ عَجْزَ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِذَنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٢] أَيْ يُضَيِّقُ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطَّلَاقِ: ٧] أَيْ ضُيِّقَ: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الْفَجْرِ: ١٦] أَيْ ضَيَّقَ وَمَعْنَاهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَصِيرُ الْآيَةُ حُجَّةً لَنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنَّ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ أَقَامَ وَإِنْ شَاءَ خَرَجَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ فِي اخْتِيَارِهِ، وَكَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي تَأَخُّرِ خُرُوجِهِ، وَهَذَا مِنَ اللَّه تَعَالَى بَيَانٌ لِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ لَهُ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ، لَا عَلَى تَعَمُّدِ الْمَعْصِيَةِ لَكِنْ لِظَنِّهِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي خُرُوجِهِ مُوَسَّعٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ وَيُؤَخِّرَ، وَكَانَ الصَّلَاحُ خِلَافَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ بِمَعْنَى فَكَانَتْ حَالَتُهُ مُمَثَّلَةً بِحَالَةِ مَنْ ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: أَنْ تُفَسَّرَ الْقُدْرَةُ بِالْقَضَاءِ فَالْمَعْنَى فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشِدَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ، وَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: نَقْدِرَ بِمَعْنَى نُقَدِّرُ. يُقَالُ: قَدَرَ اللَّه الشَّيْءَ قَدْرًا وَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، فَالْقَدْرُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بِضَمِّ النُّونِ وَالتَّشْدِيدِ من التقدير، وقرأ عبيد بن عمر بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْمَجْهُولِ وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: (يُقْدَرُ عَلَيْهِ) بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْمَجْهُولِ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَقَدْ ضَرَبَتْنِي أَمْوَاجُ الْقُرْآنِ الْبَارِحَةَ فَغَرِقْتُ فِيهَا فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسِي خَلَاصًا إِلَّا بِكَ فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: يَظُنُّ نَبِيُّ اللَّه أَنْ لَنْ يَقْدِرَ اللَّه عَلَيْهِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هَذَا مِنَ الْقَدْرِ لَا مِنَ الْقُدْرَةِ.
وَرَابِعُهَا: فظن أَنْ لَنْ نَقْدِرَ: أَيْ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَفْعَلَ لِأَنَّ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْفِعْلِ

صفحة رقم 180

مُنَاسِبَةً فَلَا يَبْعُدُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا مَجَازًا عَنِ الْآخَرِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ مَعْنَاهُ أَفَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَانَتْ قَبْلَ رِسَالَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ هَذَا الظَّنُّ حَاصِلًا قَبْلَ الرِّسَالَةِ، وَلَا يَبْعُدُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَنْ يَسْبِقَ ذَلِكَ إِلَى وَهْمِهِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ إِنَّهُ يَرُدُّهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَهُوَ أَنْ نَقُولَ إِنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلَا كَلَامَ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا بَعْدَهَا فَهِيَ وَاجِبَةُ التَّأْوِيلِ لِأَنَّا لَوْ أَجْرَيْنَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وَإِذَا وَجَبَ التَّأْوِيلُ فَنَقُولُ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْأَفْضَلِ فَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عُقُوبَةً إِذِ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبُوا، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْمِحْنَةُ، لَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَذْكُرُونَ فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ تُفْعَلُ/ لِأَجْلِ ذَنْبٍ أَنَّهَا عُقُوبَةٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ الْمَلَامَةَ كَانَتْ بِسَبَبِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الظُّلُمَاتِ أَيْ فِي الظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ الْمُتَكَاثِفَةِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ [الْبَقَرَةِ: ١٧] وَقَوْلِهِ: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٧] وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مِنَ الظُّلُمَاتِ فَإِنْ كَانَ النِّدَاءُ فِي اللَّيْلِ فَهُنَاكَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَالْبَحْرِ وَبَطْنِ الْحُوتِ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ أُضِيفَ إِلَيْهِ ظُلْمَةُ أَمْعَاءِ الْحُوتِ، أَوْ أَنَّ حُوتًا ابْتَلَعَ الْحُوتَ الَّذِي هُوَ فِي بَطْنِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْحُوتَ إِذَا عَظُمَ غَوْصُهُ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ كَانَ مَا فَوْقَهُ مِنَ الْبَحْرِ ظُلْمَةً فِي ظُلْمَةٍ، أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ:
إِنَّ الْحُوتَ الَّذِي ابْتَلَعَهُ غَاصَ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِخَبَرٍ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قِيلَ بِذَلِكَ لِكَيْ يَقَعَ نِدَاؤُهُ فِي الظُّلُمَاتِ فَمَا قَدَّمْنَاهُ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ فَالْمَعْنَى بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَوْ بِمَعْنَى أَيْ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ»
وَعَنِ الْحَسَنِ: مَا نَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِإِقْرَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِالظُّلْمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَكَ فَهُوَ تَنْزِيهٌ عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ وَمِنْهَا الْعَجْزُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ:
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ظَنَّ الْعَجْزَ، وَإِنَّمَا قَالَ: سُبْحانَكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ سُبْحَانَكَ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ جَوْرًا أَوْ شَهْوَةً لِلِانْتِقَامِ، أَوْ عَجْزًا عَنْ تَخْلِيصِي عَنْ هَذَا الْحَبْسِ، بَلْ فَعَلْتَهُ بِحَقِّ الْإِلَهِيَّةِ وَبِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَالْمَعْنَى ظَلَمْتُ نَفْسِي بِفِرَارِي مِنْ قَوْمِي بِغَيْرِ إِذْنِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَأَنَا الْآنَ مِنَ التَّائِبِينَ النَّادِمِينَ، فَاكْشِفْ عَنِّي الْمِحْنَةَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ بِكَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ بِضَعْفِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْقُصُورِ فِي أَدَاءِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي السُّؤَالِ عَلَى مَا قَالَ الْمُتَنَبِّي:

وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيكَ فَطَانَةٌ سُكُوتِي كَلَامٌ عِنْدَهَا وَخِطَابُ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا أَرَادَ اللَّه حَبْسَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْحَى إِلَى الْحُوتِ أَنْ خُذْهُ وَلَا تَخْدِشْ لَهُ لَحْمًا، وَلَا تَكْسِرْ لَهُ عَظْمًا» فَأَخَذَهُ وَهَوَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ، فَسَمِعَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِسًّا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟ فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ، قَالَ فَسَبَّحَ، فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا مِثْلَهُ.

صفحة رقم 181
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية