يُوضَعُ لِسُلَيْمَانَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ، فَيَجْلِسُ مِمَّا يَلِيهِ مُؤْمِنُو الْإِنْسِ، ثُمَّ يَجْلِسُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَجْتَمِعُ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كَالْجَبَلِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِفِرَاشِهِ فَيُوضَعُ عَلَى أَعْلَى مَكَانٍ مِنْهَا، ثُمَّ يَدْعُو بِفَرَسٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ فيرتفع حتى يصعد عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَرْتَفِعُ بِهِ كل شرف دون السماء، وهو مطأطىء رَأْسَهُ مَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، تَعْظِيمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَشُكْرًا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِغَرِ مَا هُوَ فِيهِ فِي مُلْكِ اللَّهِ عز وجل، حَتَّى تَضَعَهُ الرِّيحُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ تَضَعَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أَيْ في الماء يستخرجون اللئالئ والجواهر وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أَيْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص: ٣٧- ٣٨]. وَقَوْلُهُ: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أَيْ يَحْرُسُهُ اللَّهُ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِسُوءٍ، بَلْ كُلٌّ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ، لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الدُّنُوِّ إِلَيْهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، بل هو يحكم فِيهِمْ إِنْ شَاءَ أَطْلَقَ وَإِنْ شَاءَ حَبَسَ مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا كَانَ أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَسَدِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ شيء كثير وأولاد وَمَنَازِلُ مَرْضِيَّةٌ، فَابْتُلِيَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَذَهَبَ عَنِ آخِرِهِ، ثُمَّ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ، يُقَالُ: بِالْجُذَامِ فِي سَائِرِ بَدَنِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ سَلِيمٌ سِوَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، يَذْكُرُ بِهِمَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى عَافَهُ الْجَلِيسُ، وَأُفْرِدَ فِي ناحية من البلد، ولم يبق أحد من الناس يَحْنُو عَلَيْهِ سِوَى زَوْجَتِهِ كَانَتْ تَقُومُ بِأَمْرِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا احْتَاجَتْ، فَصَارَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» «١».
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ» »
وَقَدْ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَايَةً فِي الصَّبْرِ. وَبِهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ: لَمَّا ابْتَلَى اللَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَهَابِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَلَمْ يبق شيء له أَحْسَنَ الذَّكَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَحْمَدُكَ رَبَّ الْأَرْبَابِ، الَّذِي أَحْسَنْتَ إِلَيَّ، أَعْطَيْتَنِي الْمَالَ وَالْوَلَدَ فَلَمْ يبق من
(٢) راجع التخريج السابق.
قَلْبِي شُعْبَةٌ إِلَّا قَدْ دَخَلَهُ ذَلِكَ، فَأَخَذْتُ ذلك كله مني، وفرغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، ولو يَعْلَمُ عَدُوِّي إِبْلِيسُ بِالَّذِي صَنَعْتُ حَسَدَنِي. قَالَ: فَلَقِيَ إِبْلِيسُ مِنْ ذَلِكَ مُنْكَرًا «١».
قَالَ: وَقَالَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ أَعْطَيْتَنِي الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَلَمْ يَقُمْ عَلَى بَابِي أَحَدٌ يَشْكُونِي لِظُلْمٍ ظَلَمْتُهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَانَ يُوطَأُ لِيَ الْفِرَاشُ فَأَتْرُكُهَا، وَأَقُولُ لِنَفْسِي يا نفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش مَا تَرَكْتُ ذَلِكَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي خَبَرِهِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالسَّنَدِ عَنْهُ، وَذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُفَسِّرِينَ، وَفِيهَا غَرَابَةٌ تَرَكْنَاهَا لِحَالِ الطُّولِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَكَثَ فِي الْبَلَاءِ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الْمُهَيِّجِ لَهُ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: ابْتُلِيَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، مُلْقًى عَلَى كُنَاسَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَخْتَلِفُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ، ففرج الله عنه وأعظم لَهُ الْأَجْرَ وَأَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: مَكَثَ فِي الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ، لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسَاقَطَ لَحْمُ أَيُّوبَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَصَبُ والعظام، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يَكُونُ فِيهِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لَمَّا طَالَ وَجَعُهُ: يَا أَيُّوبُ لَوْ دَعَوْتَ رَبَّكَ يُفَرِّجُ عَنْكَ، فَقَالَ: قَدْ عِشْتُ سَبْعِينَ سَنَةً صَحِيحًا، فهو قَلِيلٌ لِلَّهِ أَنْ أَصْبِرَ لَهُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَجَزِعَتْ مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَتْ فَكَانَتْ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ بالأجر وَتَأْتِيهِ بِمَا تُصِيبُ فَتُطْعِمُهُ، وَإِنَّ إِبْلِيسَ انْطَلَقَ إلى رجلين من أهل فِلَسْطِينَ، كَانَا صَدِيقَيْنِ لَهُ وَأَخَوَيْنِ، فَأَتَاهُمَا فَقَالَ: أخو كما أَيُّوبُ أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ كَذَا وَكَذَا، فَأْتِيَاهُ وَزُورَاهُ، وَاحْمِلَا مَعَكُمَا مِنْ خَمْرِ أَرْضِكُمَا، فَإِنَّهُ إن شرب منه برىء، فَأَتَيَاهُ فَلَمَّا نَظَرَا إِلَيْهِ بَكَيَا، فَقَالَ:
مَنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَا: نَحْنُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرَحَّبَ بِهِمَا وَقَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ لَا يَجْفُونِي عِنْدَ الْبَلَاءِ، فَقَالَا: يَا أَيُّوبُ لَعَلَّكَ كُنْتَ تُسِرُّ شَيْئًا وَتُظْهِرُ غَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ ابْتَلَاكَ اللَّهُ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلى السماء فقال: هُوَ يَعْلَمُ، مَا أَسْرَرْتُ شَيْئًا أَظْهَرْتُ غَيْرَهُ، ولكن ربي ابتلاني لينظر أصبر أَمْ أَجْزَعُ. فَقَالَا لَهُ: يَا أَيُّوبُ اشْرَبْ مِنْ خَمْرِنَا، فَإِنَّكَ إِنْ شَرِبْتَ مِنْهُ بَرَأْتَ.
قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: جَاءَكُمَا الْخَبِيثُ فَأَمَرَكُمَا بِهَذَا؟ كَلَامُكُمَا وَطَعَامُكُمَا وَشَرَابُكُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ، فَقَامَا مِنْ عِنْدِهِ، وَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ، فَخَبَزَتْ لِأَهْلِ بَيْتٍ لَهُمْ صَبِيٌّ، فَجَعَلَتْ لَهُمْ قُرْصًا، وَكَانَ ابْنُهُمْ نَائِمًا، فَكَرِهُوا أَنْ يُوقِظُوهُ فَوَهَبُوهُ لَهَا، فَأَتَتْ بِهِ إِلَى أَيُّوبَ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ:
مَا كُنْتِ تَأْتِينِي بِهَذَا، فَمَا بَالُكِ الْيَوْمَ؟ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، قَالَ: فَلَعَلَّ الصَّبِيَّ قَدِ اسْتَيْقَظَ فَطَلَبَ الْقَرْصَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَهُوَ يَبْكِي عَلَى أَهْلِهِ، فَانْطَلِقِي بِهِ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى بَلَغَتْ دَرَجَةَ الْقَوْمِ، فَنَطَحَتْهَا شَاةٌ لَهُمْ، فَقَالَتْ: تَعِسَ أَيُّوبُ الْخَطَّاءُ، فَلَمَّا صَعِدَتْ وَجَدَتِ الصَّبِيَّ قَدِ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَطْلُبُ الْقُرْصَ وَيَبْكِي عَلَى أَهْلِهِ لَا يقبل منهم شيئا غيره، فقالت: رحمه الله، يعني أيوب،
فدفعت إليه القرص وَرَجَعَتْ، ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ أَتَاهَا فِي صُورَةِ طيب، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ زَوْجَكِ قَدْ طَالَ سُقْمُهُ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبْرَأَ فَلْيَأْخُذْ ذُبَابًا فَلْيَذْبَحْهُ بِاسْمِ صَنَمِ بَنِي فَلَانٍ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَيَتُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ ذَلِكَ لِأَيُّوبَ.
فَقَالَ: قَدْ أَتَاكِ الْخَبِيثُ، لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ بَرَأْتُ أَنْ أَجْلِدَكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَخَرَجَتْ تَسْعَى عَلَيْهِ، فَحُظِرَ عَنْهَا الرِّزْقُ، فَجَعَلَتْ لَا تَأْتِي أَهْلَ بَيْتٍ فَيُرِيدُونَهَا، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَخَافَتْ عَلَى أَيُّوبَ الْجُوعَ حَلَقَتْ مِنْ شَعْرِهَا قَرْنًا فَبَاعَتْهُ مِنْ صَبِيَّةٍ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ، فَأَعْطَوْهَا طَعَامًا طيبا كثيرا، فأتت به إلى أَيُّوبَ، فَلَمَّا رَآهُ أَنْكَرَهُ وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: عَمِلْتُ لِأُنَاسٍ فَأَطْعَمُونِي، فَأَكَلَ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَتْ فَطَلَبَتْ أَنْ تَعْمَلَ فَلَمْ تَجِدْ، فَحَلَقَتْ أَيْضًا قَرْنًا فَبَاعَتْهُ من تلك الجارية، فأعطوها أيضا مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَأَتَتْ بِهِ أَيُّوبَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، فَوَضَعَتْ خِمَارَهَا، فَلَمَّا رَأَى رَأْسَهَا مَحْلُوقًا جزع جزعا شديدا، فعند ذلك دعا الله عز وجل، فقال: نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنَيُّ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ أَنَّ الشَّيْطَانَ الَّذِي عَرَّجَ فِي أَيُّوبَ كَانَ يُقَالُ لَهُ مسوط، قَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ تَقُولُ: ادْعُ اللَّهَ فَيَشْفِيَكَ، فَجَعَلَ لَا يَدْعُو حَتَّى مَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا أَصَابَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ عَظِيمٍ أَصَابَهُ، فَعِنْدَ ذلك قال: نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَوَانِ، فَجَاءَا يَوْمًا فَلَمْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ رِيحِهِ، فَقَامَا مِنْ بَعِيدٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِهَذَا، فَجَزِعَ أَيُّوبُ مِنْ قَوْلِهِمَا جَزَعًا لَمْ يَجْزَعْ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً قَطُّ شَبْعَانَ وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ، فَصَدِّقْنِي، فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ يَكُنْ لِي قَمِيصَانِ قَطُّ، وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ، فَصَدِّقْنِي، فَصُدِّقَ مِنَ السماء وهما يسمعان، ثم قال: اللهم بعزتك، ثم خر ساجدا، فقال: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي أَبَدًا حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي، فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى كُشِفَ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِ هَذَا، فَقَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وهب، أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَلَّمْ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ:
وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يعلم أني
كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ إِلَّا فِي حَقٍّ، قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ فِي حَاجَتِهِ فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يوم أبطأت عليه، فأوحى الله إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ أَنِ «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ» رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ غريب جدا.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَنَحَّى أَيُّوبُ فَجَلَسَ فِي نَاحِيَةٍ، وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَيْنَ ذهب هذا الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا لَعَلَّ الْكِلَابَ ذَهَبَتْ بِهِ أَوِ الذِّئَابَ، فَجَعَلَتْ تَكَلُّمَهُ سَاعَةً. فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ.
قَالَتْ: أَتَسْخَرُ مِنِّي يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ جَسَدِي، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ عِيَانًا وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الْمَاءِ فَإِنَّ فِيهِ شفاءك وقرب عن صحابتك قُرْبَانًا، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا هُمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا من ذهب، فجعل يأخذ منه بِيَدِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي ثَوْبِهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ؟ قَالَ:
يَا رَبِّ وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَتِكَ» أَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَقَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رُدُّوا عَلَيْهِ بِأَعْيَانِهِمْ، وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اسْمَ زَوْجَتِهِ رَحْمَةُ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَهُوَ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، وَقَدْ سَمَّاهَا ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: قال: ويقال اسمها ليا بنت مِنَشَّا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: وَيُقَالُ لَيَا بِنْتُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَوْجَةُ أَيُّوبَ كَانَتْ مَعَهُ بِأَرْضِ الْبَثْنِيَّةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ إِنْ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ أَتَيْنَاكَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْنَاهُمْ لَكَ فِي الْجَنَّةِ وَعَوَّضْنَاكَ مِثْلَهُمْ؟ قَالَ: لَا بَلِ اتْرُكْهُمْ لِي فِي الْجَنَّةِ، فَتُرِكُوا لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَعُوِّضَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ قَالَ: أُوتِيَ أَجْرَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَأُعْطِيَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ مُطَرِّفًا، فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم، وكذا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السلف، والله أعلم. قوله: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أَيْ فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِ وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أَيْ وَجَعَلْنَاهُ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً لِئَلَّا يَظُنَّ أَهْلُ الْبَلَاءِ أَنَّمَا فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْنَا، وَلِيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَقْدُورَاتِ اللَّهِ وَابْتِلَائِهِ لِعِبَادِهِ بِمَا