
القصة السادسة- قصة أيوب عليه السلام
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
الإعراب:
رَحْمَةً مفعول لأجله مِنْ عِنْدِنا صفة.
البلاغة:
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ألطف في السؤال، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب.
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فيهما جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَأَيُّوبَ أي واذكر أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ لما ابتلي به من المرض، وهو بدل مما قبله أَنِّي أي بأني الضُّرُّ بالضم: الضرر والشدة في النفس من مرض وهزال. وأما الضّرر بالفتح: فهو الأذى في كل شيء، فالضّر خاص بما في النفس من مرض وهزال، والضرر: شائع في كل ضرر. وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وصف ربه بغاية الرحمة، بعد ما ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، واكتفى بذلك عن عرض المطلوب، لطفا في السؤال.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أجبنا له نداءه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي أزلنا ورفعنا ضره بالشفاء من مرضه وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي وأعطيناه مثل أهله عددا، وزيادة مثل آخر، بأن ولد له ضعف ما كان عنده من زوجته وزيد في شبابها رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي رحمة على أيوب، وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر، فيثابوا كما أثيب.

المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص خمسة من الأنبياء: إبراهيم، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وما تعرضوا له من الابتلاء في سبيل الدعوة إلى الله، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاءه له بأنواع المحن في نفسه وأهله، والكل قد صبروا على المحن والبلايا، وشكروا الله على ما أنعم عليهم من رفع البلاء، والنصر على أقوامهم.
أضواء على قصة أيوب عليه السلام:
ورد اسم أيوب عليه السلام في القرآن الكريم اربع مرات في سور النساء والأنعام والأنبياء وص. وهو أيوب بن أنوص، وأمه من ولد لوط عليه السلام، وكان عليه السلام روميا من ولد يعقوب بن إسحاق عليهما السلام. كان موطنه أرض عوص من جبل سعير أو بلاد أدوم، قيل: إنه كان قبل موسى، أو قبل إبراهيم بأكثر من مائة سنة، قال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل، ولم يصح في نسبه شيء، إلا أن اسم أبيه: أموص.
آتاه الله النبوة، وبسط عليه الدنيا، وكثّر أهله وماله، فكان له سبعة بنين، وسبع بنات، وذلك تعويضا عما ابتلاه الله من محنة في نفسه إذ مرض مدة طويلة هي ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبع سنوات ونيف، على حسب الروايات، ولكنه مرض غير منفر للناس لأن الأنبياء متصفون بالسلامة عن الأمراض المنفرة طبعا. وابتلاه الله أيضا في أهله بذهاب ولده، انهدم عليهم البيت، فهلكوا. وابتلاه كذلك في ماله بذهابه وفنائه، وكان رحيما بالمساكين، ويكفل اليتامى والأرامل، ويكرم الضعيف.
وقد أكرمه الله تعالى بكفارة يمينه، كما ذكر في سورة ص، بأن يأخذ بيده ضغثا، فيضرب به زوجته، حتى لا يكون حانثا. وزوجته: هي رحمة بنت أفرايم بن يوسف، أو ماخر بنت ميشا (منسا) بن يوسف، أو ليا بنت يعقوب، على اختلاف الروايات، ذهبت لحاجة، فأبطأت، أو بلغت أيوب

عن الشيطان أن يقول كلمة محظورة فيبرأ، وأشارت عليه بذلك، فقالت له:
إلى متى هذا البلاء؟ فحلف إن برئ ليضربنها مائة ضربة، فحلل الله له يمينه وأمره بأن يأخذ ضغثا (وهو حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان) ويضربها به، وذلك رحمة به وبها، لحسن خدمتها إياه، ورضاه عنها.
وهي رخصة مقررة في عقوبات الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضا في حالات الضرورة كالمرض والحمل.
التفسير والبيان:
أيوب عليه السلام مثل أعلى ومشهور في الصبر على المحنة والبلاء، حتى صار يضرب به المثل، فيقال: كصبر أيوب، وها هي قصته:
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ.. أي واذكر أيها الرسول للعبرة والعظة والتأسي خبر أيوب الذي أصابه البلاء في ماله وولده وجسده، حين دعا ربه، وقد مسّه الضر فقال: رب إني مسني الضر والعناء، وأنت أرحم الرحماء. وصف نفسه بما يقتضي الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بمطلوبه بطريق التلطف في السؤال، وإيمانه بأن ربه عليم به. والنداء: الدعاء.
وكان مرضه طويل الأمد، إلا أنه غير منفر للناس ولا مشوه للجسد لأن الأنبياء معصومون، سالمون عن الأمراض المنفرة طبعا. وقد لازمته زوجته، وظلت تحنو عليه وتقوم بأمره.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد: «أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا، اشتد بلاؤه».
قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر، وسبعة أيام، وسبع ساعات. قال ابن العربي: وهذا ممكن، ولكنه لم يصح في مدة إقامته خبر ولا في هذه القصة.

فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي أجبنا دعاءه، ورفعنا عنه ضره، وعافيناه.
وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي وعوضناه عما فقد في الدنيا، فأعطيناه مثل أهله وزيادة مثل آخر، فقد ولد له من زوجته من الأولاد ضعف ما كان عنده.
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي أعطيناه التعويض عن المال والأهل والولد، وعافينا جسده، رحمة منا به، وتذكيرا للعابدين بالاقتداء به، والصبر كما صبر، ليثابوا كما أثيب، وحتى لا ييأس مؤمن من عفو الله ورحمته وفضله، ولا يطمع مؤمن في أنه لا يصاب بسوء أو مكروه، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان.
وقال الزمخشري: أي لرحمتنا العابدين، وأنا نذكرهم بالإحسان، لا ننساهم، أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر القرطبي سبعة عشر قولا في بيان الضر الذي مس أيوب، والحق الاقتصار على ظاهر النص القرآني، وهو أنه أصيب بضرر في نفسه وبدنه وأهله وماله، فصبر، ثم عافاه الله تعالى، وأعطاه خيرا مما فقد، وأثنى عليه بالصبر:
إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص ٣٨/ ٤٤]. والثابت المؤكد أن مرضه لم يكن منفرا. والهدف أن قصته عبرة، وتعريف أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على الإنسان أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله تعالى، وألا يضجر من شيء، وألا يتسخط ولا يتبرم، وإنما يصبر على حالتي الضراء والسراء. وقد أجمل الله تعالى هذه العبرة بقوله: رَحْمَةً