
والخبائث: أفعالهم المنكَرة، فمنها إِتيان الذكور، وقطع السبيل، إِلى غير ذلك مما قد ذكره الله عزّ وجلّ عنهم في مواضع «١». قوله تعالى: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي: بانجائه من بينهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
قوله تعالى: وَنُوحاً المعنى: واذكر نوحاً، وكذلك ما يأتيك من ذِكْر الأنبياء إِذْ نادى أي:
دعا على قومه مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قبل إِبراهيمَ ولوطٍ. فأما الكرب العظيم! فقال ابن عباس: هو الغرق وتكذيب قومه. قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ أي: منعناه منهم أن يصلوا إِليه بسوءٍ، وقيل:
«من» بمعنى «على».
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٨٢]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
قوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ وفيه قولان: أحدهما: أنه كان عنباً، قاله ابن مسعود، ومسروق، وشريح. والثاني: كان زرعاً، قاله قتادة. إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ قال ابن قتيبة:
أي: رَعَتْ ليلاً، يقال: نَفَشَت الغنمُ بالليل، وهي إِبل نَفَشٌ ونُفَّاشٌ ونِفَاشٌ، والواحد: نَافِشٌ، وَسَرَحَتْ وسَرَبَتْ بالنهار. قال قتادة: النَّفَش بالليل، والهَمَل بالنهار. وقال ابن السكِّيت: النَّفَش: أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راعٍ.
الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فتفلَّتت الغنم فوقعت في الحرث فلم تُبق منه شيئاً، فاختصما إِلى داود، فقال لصاحب الحرث: لك رقاب الغنم، فقال سليمان: أوَ غير ذلك؟ قال: ما هو؟ قال: ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها، ويُقبل أصحاب الغَنَم على الكَرْم، حتى إِذا كان كليلة نفشت فيه الغَنَم، دفع هؤلاء إِلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إِلى هؤلاء كَرْمهم، فقال داود: قد أصبتَ القضاءَ، ثم حكم بذلك، فذلك قوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: داود وسليمان، فذكرهما بلفظ الجمع، لأن الاثنين جمع، هذا قول الفراء. والثاني: أنهم داود وسليمان والخصوم، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: «وكنا لحكمهما» على التثنية.
ومعنى «شاهدِين» : أنه لم يَغِب عنّا من أمرهم شيء. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ يعني: القضيّة والحكومة.

وإِنما كنى عنها، لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذِكْر الحُكم، وَكُلًّا منهما آتَيْنا حُكْماً وقد سبق بيانه. قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه، وعَذَر داود باجتهاده.
فصل:
قال أبو سليمان الدمشقي: كان قضاء داود وسليمان جميعاً من طريق الاجتهاد، ولم يكن نصّاً، إِذ لو كان نصاً ما اختلفا. قال القاضي أبو يعلى: وقد اختلف الناس في الغنم إِذا نفشت ليلاً في زرع رجل فأفسدتْه، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان «١»، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان عليه ليلاً ونهاراً، إِلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا، لأن داود حكم بالضمان، وشرع مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا ما لم يَثْبُت نَسْخُه. فإن قيل: فقد ثبت نسخ هذا الحكم، لأن داود حكم بدفع الغَنَم إِلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشتْ غنمه في حرث رجل شيءٌ من ذلك قيل: الآية تضمنت أحكاماً، منها وجوب الضمان وكيفيته، فالنسخ حصل على كيفيَّته، ولم يحصل على أصله، فوجب التعلُّق به.
(٩٩٢) وقد روى حرام بن محيِّصة عن أبيه: أن ناقةً للبراء دخلت حائط رجل فأفسدتْ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
الخلاصة: ورد موصولا ومرسلا، ومرسل ابن المسيب وحده يحتج به الأئمة الأربعة. كيف وقد توبع، تابعه حرام بن محيصة، وورد أيضا موصولا، فهو صحيح إن شاء الله تعالى، وقد صححه ابن العربي.
- وانظر ما ذكره الشيخ شعيب في «الإحسان» ١٣/ ٣٥٤- ٣٥٧. وانظر «أحكام القرآن» ١٤٩٧ بتخريجنا.
__________
(١) جاء في «المغني» مسألة: «وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها، وما أفسدت من ذلك نهارا، لم يضمنوه». قال العلامة الموفق في شرحه: يعني إذا لم تكن يد أحد عليها، فإن كان صاحبها معها أو غيره فعليه ضمان ما أتلفته من نفس أو مال، وإن لم تكن يد أحد عليها، فعلى مالكها ضمان ما أفسدته من الزرع ليلا دون النهار. وهذا قول مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز، وقال الليث يضمن مالكها ما أفسدته ليلا أو نهارا بأقل الأمرين من قيمتها أو قدر ما أتلفته. وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه بحال اه ملخصا.