مِنْ بَأْسِكُمْ»
من أن ينالكم سلاح عدوكم في الحرب «فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» ٨٠ يا آل داود، وهذا استفهام بمعنى الأمر، أي أديموا الشكر لله على ذلك. واللبوس لغة كل ما يلبس، قال ابن السكّيت:
البس لكل حالة لبوسها | اما نعيمها واما بوسها |
راجع كيفية جلب عرش بلقيس في الآية ٣٨ من سورة النمل في ج ١، فالريح بالنسبة لسيدنا سليمان كالفرس إن شاء أطلقها فغارت وإن شاء أمسكها فسارت، فإذا أراد أن تشتد اشتدت وإذا أراد أن تلين لانت، يدل عليه قوله تعالى «تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» بالأشجار والأنهار والثمار واعتدال الهواء فضلا عن أنها مهبط الأنبياء ومثواهم «وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ» ٨١ لأن هذه الأشياء وغيرها تجري بمقتضى حكمتنا وتدبيرنا «وَمِنَ الشَّياطِينِ» سخرنا له «مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ» في البحار لاستخراج الدراري «وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ» الغوص، من البناء الرفيع، والتصوير الجميل، وعمل القدور والجفان العظيمة، والقوارير والصابون وغيرها مما عرف ذلك الزمن وما لم يعرف، «وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» ٨٢ فلا يزيغون عن أمره ولا يفسدون في الأرض ولا يبدلون ما أمروا به فلا يخالفونه بشيء ما. قالوا نسجت الشياطين لسليمان بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع له منبر من ذهب وسطه فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، يقعد عليها الأنبياء والعلماء وحولهم الوجهاء والأمراء، وحولهم عامة الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظلّهم الطير بأجنحتها، وترفع الصبا البساط مسيرة شهر صباحا ومثلها مساء، وذلك بمدة ساعة أو ساعة ونصف على الاختلاف في تقدير الفرسخ، لأن الغدو من صفحة رقم 320
مطلع الفجر إلى طلوع الشمس، والرواح مثله من اصفرار الشمس إلى غروبها راجع الآية ١٢ من سورة سبأ المارة. قالوا وكان يسير في الريح الليّنة إلى العراق فيقيل ببلخ وتخلّل بلاد الترك وجاوزها إلى الصين، ثم إلى قرب مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى إلى السند وجاورها الى مكران وكرمان في أرض فارس، وغدا منها فقال في بكسكى، ثم راح الى الشام، وكان مستقره تدمر، وفي ذلك قال النّابغة:
ألا سليمان إذ قال المليك له | قم في البرية فاصددها عن النفد |
وجيّش الجن إني قد أذنت لهم | يبنون تدمر بالصفاح والعمد |
الرجلين على الانفراد فاختلف شهادتهما قدرا عنها الحد، ومن ذلك اليوم استحب استشهاد الشهود مفردين وهو الصواب. ومن هنا يعلم أن تمكين الكلاب من النساء قديم، لم تبتدعه بعض عواهر زماننا، وأن آية التبرّج الآتية من سورة الأحزاب ٣٢ في ج ٣ تشير الى أن كل ما أحدثه أهل هذا القرن من الخلاعة قديم أيضا، وهذا من معجزات (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ١٨ من سورة الأنعام المارة، وليعلم أن أحكام داود عليه السلام في هذه القصص الأربع على فرض صحة الثلاث، لأن الأولى ذكرها الله تعالى فلا قول فيها وكلها موافقة لظاهر الشرع وأحكام سليمان كذلك، وإنما جوزها بحكمه، لأن قضية الحرث صارت كالصلح بينهما لرضائهما بحكمه فيها، وقضية الزنى قبيل ظهور كذب الشهادة إذ يقتضي الحكم بمثلها، أما قضية الولد فإنما قضى بها داود للكبيرة لعدم وجود بينة لدى الصغيرة، وكان الولد بيد الكبيرة فحكم باعتبارها ذات اليد والصغيرة خارجة والحكم الشرعي أن البينة على الخارج والقول لذي اليد كما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وكان عمل سليمان من قبيل الاختبار، لأنه لما رأى الكبيرة وافقت على قسمه شقين عرف أن لا شفقة لها عليه، فلو كان ابنها لما رضيت بموته، ولو أن الصغيرة وافقت على قسمه لما حكم لها به ولأبقاه لدى الكبيرة باعتبار يدها عليه، ولهذا حكم به للصغيرة حكم موافق للواقع مصدره الحذق والفطنة والاجتهاد، تأمل. قال تعالى «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا رب «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ٨٣ والضر كلمة جامعة لأنواع الشر أنظر رعاك الله ما أبدع هذا الدعاء إذ ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغايتها، ولم يصرح بمطلوبه عليه السلام أدبا مع ربه وحياء منه وإيذانا بأن ربه عالم بمراده من دعائه، ولا شك أن الأنبياء موفقون، قال تعالى «فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ» الذين فقدهم «وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» ٨٤ ليتأسوا به ويعبروا مثله فيثابوا كثوابه ويعتبروا بطلبه ويتفكروا بعطاء الله له زيادة عما خطر بباله.
صفحة رقم 322
مطلب قصة أيوب عليه السلام ومن تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام:
ونظير هذه الآية الآية ٤٢ من سورة ص في ج ١ وخلاصة هذه القصة قالوا إن أيوب ابن اموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم وامه من ولد لوط بن هاران الأصغر أخي ابراهيم عليه السلام. وكان تنبأ وبسطت له الدنيا في أرض البلقاء، من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها، وكان عنده من أصناف النعم والعبيد ما لم يكن لأحد في عصره، وأعطاه الله مع هذا أهلا وأولادا ذكورا ونساء، وكان برا تقيا لربه رحيما بالمساكين والأيتام والأرامل، مكرما للضيفان مبلغا أبناء السبيل بلادهم وهذا مما يوافق شريعتنا راجع الآية ٦٠ من سورة التوبة في ج ٣ ومن هنا وجب على الأغنياء إعطاء أبناء السبيل من الزكاة ما يوصلهم إلى بلادهم ولو كانوا أغنياء فيها وعلى الحكومة أيضا أن تعطيهم من بيت المال ما يؤمن وصولهم، وكان شاكرا لأنعم الله مؤديا حقوقه وقد آمن به ثلاثة فقط وكان لهم مال أيضا فحده إبليس على ذلك وصار يخاطب ربه فيقول يا رب لو ابتليت أيوب بنزع ما أعطيته لخرج عن طاعتك، فقال إني قد سلطتك على ماله قالوا وكان إبليس لا يحجب عليه شيء في السموات، ولكنه بعد رفع عيسى عليه السلام حجب من أربع منها وفي مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم حجب عن الكل إلا في استراق السمع، وكان يسمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، ولذلك حسده فجمع خيله ورجله ونفخوا على الإبل فأحرقوها ورعاتها، فذهب وقال يا أيوب أتت نار فأحرقت إبلك ورعاتها، فقال إنها مال الله أعارنيها ثم نزعها مني وله الحمد، عريانا خرجت من بطن أمي وأحشر إلى الله كذلك، ثم أكثر عليه من الكلام حتى قال له يقول الناس لو كان إلهك يقدر لمنع ذلك، فلم يرد عليه، فرجع خاسئا ثم فعل بالغنم ورعاتها كذلك، وجاء إليه فقال ما قال أولا ورد عليه كما رد عليه أيضا فرجع خائبا ثم فعل بالزرع والأشجار كذلك، وأخبره فكان ما كان أولا وهكذا حتى لم يبق عنده شيء من المال ولم يره تأثر من شيء أصلا، فقال إبليس يا رب ان أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطني على ولده؟ فقال قد سلطتك، فانقض عدو الله حتى أتى ولده جميعا وهم في قصرهم فزلزله فيهم، فتلفوا عن آخرهم، ثم ذهب إلى أيوب
عليه السلام بصورة معلمهم، لأنه كان عليه اللعنة كلما فعل شيئا يذهب الى أيوب بصفة الرجل الذي يناسب ذلك الفعل، ففي تلف الإبل والغنم ذهب بصورة راعيها، وفي تلف الأشجار والزروع والثمار بصورة ساقيها، وهكذا، فقال يا أيوب وهو يبكي ليحرك حزنه لو رأيت كيف نكسوا على رءوسهم وسالت دماؤهم وتقطعت أمعاؤهم لتقطع قلبك ألما عليهم، فقال من هم؟ قال كل أولادك وأخبره خبرهم، وقال قد شقت بطونهم وكسرت رءوسهم وتناثرت أدمغتهم، وكذا وكذا، ولم يزل يصفهم ويقول له بتحرق وتأسف إلى أن رأى التأثر بدا بوجهه عليه السلام طفق يصف له مزاياهم ويعظم فظاعة ما حل بهم حتى رق قلبه عليه السلام، فاغتنم إبليس لعنه الله هذه الفرصة وذهب يعرض لربه جزعه، فتنبه أيوب واستغفر ربه حالا وصعدت توبته قبل أن يبثّ إبليس ما عنده، فخسىء إبليس وذل، ولما رأى ذلك قال يا رب إنما هان عليه المال والولد ما متعته بنفسه فإنك تعبد له ما فقده من مال وولد ونشب فهل أنت مسلطني على جسده، فسلطه الله على جسده عدا لسانه وقلبه وعقله، فانقض زاعما أنه فاز ببغيته، فأتى إليه مسرعا ونفخ في منخريه فاعتراه مرض في جميع جسده ما بين العظم والجلد استدام معه سبع سنين وبضعة أشهر وهو صابر لا يشكو، وتفرقت عنه الناس، وجاء أصحابه المؤمنون وأشاروا عليه بأن يدعو ربه بكشف ضره فأعرض عنهم وأنبهم على ما رأى من ضجرهم، وقال إن الله تعالى عافانا سنين كثيرة ومتعنا بكل نعمه الحاضرة، أفلا نصبر على بلائه بمقدار معافاته على الأقل وأطال عليهم الكلام بخطبة بليغة مؤثرة حتى انفضوا عنه، ولم يبق ممن يراجعه إلا زوجته رحمة بنت افرائيم بن يوسف عليه السلام، وصارت تأتيه بطعامه وشرابه، فلما رأى اللعين خيبة سعيه
ومداومة أيوب على ذكر الله تعالى وحمده وشكره صرخ صرخة فاجتمعت إليه الشياطين من كل جانب وقالوا له ما دهاك قال أعياني هذا الرجل، وحكى لهم قصته معه، فقالوا له هل أتيته من المكان الذي جئت به آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال أصبتم، فذهب إلى زوجته وقال لها أين بعلك ذلك الذي كنت ترين، أين أولادك الذين كنت تباهين، أين مالك الذي كنت تفاخرين؟ قد ذهب عنك كل ذلك وتباعدت عنكم أصدقاؤكم
وأنفسكم الناس، فانظري لحالك أين جمالك، أين زخارفك، أين قصورك أين أين؟
فلم يزل يعدد لها ويذكرها عزها الذي كانت فيه حتى صاحت صيحة أظهرت فيها جزعها وضجرها، وقالت له ما العمل؟ قال خذي هذه السخلة وقولي لزوجك يذبحها لي وهو يبرأ مما فيه وتخلصين من هذا الحال ويعود إليك جمالك وعزك وما ذهب منك، فاستمالها الملعون بذلك وأذعنت لقوله ظانة أنه ناصح لها وأنه يرجع لها ما ذكر، فأخذت السخلة منه وذكرت لأيوب ما وقع لها وكلفته أن يذبحها لإبليس لأنه هو الذي نفخ فيك فأصابك ما أصابك، قال لها ويلك أغراك عدو الله أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والجمال والعز والصحة، أليست هي من الله؟ قالت نعم، قال كم متعنا به، قالت ثمانون سنة، فقال لها كم لك في البلاء، قالت سبع سنين وأشهر، قال لها ويلك ما أنصفت ربك، ألا صبرت على البلاء ثمانين كما كنت في الرخاء والنعم، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مئة جلدة، تأمريني أذبح لعدو الله اذهبي، طعامك وشرابك عليّ حرام، فذهبت تبكي، وبقي أيوب صابرا ما شاء الله أن يصبر بلا زاد ولا ماء ولا صديق ولا أحد، فخرّ ساجدا لله تعالى، وقال (ربّ إني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وبين عليه السلام في دعائه هذا افتقاره إلى ربه فقط إذ لم يقل ارحمني، وإن أكثر أسئلة الأنبياء ربهم على سبيل التعريض لا على طريق الطلب، لأن حياءهم منه يحول دون طلبهم، قال المتنبي في هذا المعنى:
وفي النفس حاجات وفيك فطالة | سكوتي بيان عندها وخطاب |
بكفره، إذ أنه من توابع استعداده في ثبوته غير المجهول، ويشير إلى هذا قوله تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ) الآية ١٠٢ من سورة هود المارة، وقوله صلّى الله عليه وسلم: من وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وقد أشار الشافعي رحمة الله إلى بعض هذا في قوله:
خلقت العباد على ما علمت | ففي العلم يجري الفتى والمسن |
أيضا إن زوجته باعت شعرها وحلف عليها ذلك اليمين هو محض كذب وافتراء وإنما حلف عليها للسبب المار ذكره وهو تكليفه ذبح السخلة لإبليس، وما نقلناه في هذه القصة هو أصح ما ورد فيها ولو لم نعتمد على صحتها، إذ لا اعتماد إلا على ما يأتي في كتاب الله وسنة رسوله. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما أيوب يغتسل عريانا خرّ عليه جواد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال بلى يا رب ولكن لا غنى عن بركتك. هذا واختلف في معنى (وآتيناه أهله) إلخ، فقيل إن الله تعالى أحيى له أهله وأولاده بأعيانهم وزاده مثلهم، وقيل إنه آتاه أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة، وقيل إن الله آتاه مثل أهله وماله وولده وأنعامه وبيوته ومثلها ثانيا والله أعلم. والآية تحتمل المعنيين والله قادر على كل شيء. قال تعالى «وَإِسْماعِيلَ» بن إبراهيم الذي استسلم لربه وانقاد لأمر أبيه ليذبحه تنفيذا لإرادة الله، راجع قصته في الآية ١١٧ من الصافات المارة. أما قصة وضعه في مكة وأمه فستأتي في الآية ١٢٣ من سورة البقرة في ج ٣، إن شاء الله «وَإِدْرِيسَ» ابن أخوخ، وقد مرت قصته في الآية ٥٧ من سورة مريم في ج، وفيها كيفية رفعه إلى السماء «وَذَا الْكِفْلِ» الحظ والنصيب واسمه الياس وهو أحد الأنبياء الخمس الذين تسموا باسمين بالقرآن العظيم، هذا وإسرائيل ويعقوب، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد، عليهم الصلاة والسلام، وهو ابن ياسين بن فنحاص ابن العيران بن هرون أخي موسى بن عمران عليهم الصلاة والسلام، راجع الآية ١٤٣ من سورة البقرة ج ٣ بشأن ذى الكفل والآيات من ١٢٤ إلى ١٣٢ من سورة الصافات المارة. قالوا إنه لما كبر اليسع قال إني استخلف رجلا على الناس ليعمل عليهم في حياتي على أن يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي ولا يغضب، فقال إلياس أنا فرده أولا، ثم قال مثلها في اليوم الثاني فلم يتعهد بهذه الشروط غيره، فاستخلفه ووفى بعهده ولقبه بذي الكفل لأنه وفى ما تكفل به. وما قيل ليس بنبي ينفيه قوله تعالى «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» ٨٥ على ما ابتليناهم به راجع قصته مفصلة في الآيات المذكورة أعلاه من سورة الصافات المارة «وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا
إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ»
٨٦ أي إسماعيل وإدريس وذا الكفل. وقد ذكر الله تعالى هؤلاء الأنبياء الممتحنين بأنواع البلاء بسياق قصة أيوب عليهم الصلاة والسلام لأنهم صبروا على ما امتحنوا به كما ذكر في قصصهم. قال تعالى «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» من قومه لأجل ربه واسمه يونس واسم الحوت الذي ابتلعه نون فسمي ذا النون وصاحب الحوت «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» بفتح أول نقدر وتخفيفه وقرىء بضم أوله وتشديده من التقدير وعلى الأول من القدر وهو التضييق وهي القراءة المشهورة أي ظن أنا لا نضيق عليه بلزوم الإقامة مع قومه، ولذلك تركهم وذهب، راجع قصته في الآية ١٢٣ من الصافات المارة أيضا، «فَنادى فِي الظُّلُماتِ» ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت «أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» ٨٧ بمفارقتي قومي دون أمرك، فلا تؤاخذني يا رب على ما وقع مني، ولم يقل نجني أو خلّصني أو غير ذلك لما مر آنفا من أن الأنبياء يفوضون أمرهم لربهم «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» لأن قوله هذا تعريض لدعائنا وتنويه بالالتجاء إلينا «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ» الذي لحقه في بطن الحوت «وَكَذلِكَ» مثل هذه الإجابة «نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» ٨٨ بنا مما يهمهم، ولا يوجد في هذه الآية بما يتمسك به من قال بوقوع الذنب من الأنبياء بعد رسالتهم، لأنه عليه السلام لم يذهب مغاضبا من ربه كما قاله بعضهم، حاشاه، وإنما ذهب مغاضبا من قومه لأجل ربه، وإن ظنّه بعدم التضييق عليه لوثوقه بربه، ولأنه لم يظن أنه أذنب معه بترك قومه، بل كان يظن أنه مخير بين الإقامة معهم والخروج من بينهم عند عدم قبولهم دعوته، لذلك فإن فعله هذا لا يستوجب الذنب لو كان من سائر البشر، أو أن ظنه أن الله لم يقدر عليه شيئا، وهذا على القراءة بالتشديد أي لن نقدر عليه عقوبته، لتركه قومه، والمعنيان متقاربان، إلا أن القراءة بالتخفيف وتفسيرها على ما ذكرنا تبعا لغيرنا أولى وأنسب بالمقام، لأن نقدر بمعنى نضيق شائع، ومثله في القرآن كثير، قال تعالى (اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) الآية ٤٣ من سورة الروم الآتية، وجاء في الآية ٧ من سورة الطارق في ج ٣ (ومن قدر عليه رزقه) وفي الآية ١١
من سورة الفجر في ج
(فقدر عليه رزقه) وغيرها كثير وكلها بمعنى التضييق، وعليه فلم يبق حجة لمن يقول إن نقدر لا تأتي إلا بمعنى القدرة، لأنا إذا جرينا على هذا المعنى فلا يجوز نسبته إلى آحاد الناس، فكيف إلى نبي الله؟ وقد تردد في هذه معاوية بن أبي سفيان فسأل عنها ابن عباس رضي الله عنهما فقال له إنها من القدر لا من القدرة. وفيها قراءات أخرى ومعان بنسبتها ضربنا عنها صفحا لأنا ذكرنا أصح ما فيها، والله أعلم. أما ما حكى عنه بقوله (إني كنت من الظالمين) يريد نفسه لعدم انتظاره أمر ربه قومه وفي أمر بقائه أو خروجه عنهم لا لشيء آخر، على أن ابن عباس قال إن هذه الحادثة كانت قبل النبوة والرسالة مستدلا بقوله تعالى بعد ذكر خروجه من بطن الحوت (وأرسلنا إلى مائة ألف أو يزيدون) الآية ١٤٥ من الصافات المارة، مما يدل على أنه قبل النبوة والرسالة وصححه الخازن. ومن قال إنه بعد النبوة وهو ما ذهبت إليه في تفسيري هذا استدل بقوله تعالى (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)
الآيتين ١٣٩/ ١٤٠ من الصافات أيضا، فالجواب عنه ما تقدم، إذ تفيد هذه الآية صراحة أنه مرسل إليهم قبل هروبه بالفلك، والاستدلال بها أقوى من الاستدلال بتلك، لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، تأمل. قوله تعالى «وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا في ندائه «رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً» بلا ولد يرثني «وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» ٨٩ لي إن لم ترزقني وارثا، وإن رزقني فأنت خير الوارثين له، لأنك ترت الأرض ومن عليها والسماء وما فيها، وأنت الذي لا وارث في الحقيقة غيرك لمن تحت الأرض وما عليها، ومن في السماء وما فوقها «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» بأن جعلناها صالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عجوزا عقيما، فولدته كأنها حدثة «إِنَّهُمْ كانُوا» أولئك الأنبياء «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» إلى مخلوقاتنا طلبا لخيرنا «وَيَدْعُونَنا رَغَباً» بنا ورهبا «وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» ٩٠ مخبتين لعظمتنا، خاضعين لهيبتا، فعلى العاقل أن يستديم الخوف حالة الصحة، والرجاء حالة المرض، إذ يقول صلّى الله عليه وسلم لرجل دخل عليه وهو في حالة النزع: كيف تجدك؟ قال أخاف