آيات من القرآن الكريم

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ

تَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَسَرَهَا مَعَ أَنَّ الْفَأْسَ بَيْنَ يَدَيِ الصَّنَمِ الْكَبِيرِ. وَثَالِثُهَا: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِكُمْ حَيْثُ سَأَلْتُمْ مِنْهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَخَذَ يَسْتَهْزِئُ بِكُمْ فِي الْجَوَابِ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : نَكَسَهُ قَلَبَهُ فَجَعَلَ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمَعْنَى وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ اسْتَقَامُوا حِينَ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَتَوْا بِالْفِكْرَةِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ انْتَكَسُوا فَقُلِبُوا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، فَأَخَذُوا [فِي] الْمُجَادَلَةِ بِالْبَاطِلِ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ تَقَاصُرِ حَالِهَا عَنْ حَالِ الْحَيَوَانِ الناطق آلهة معبودة. وثانيها: قلبوا على رؤوسهم حَقِيقَةً لِفَرْطِ إِطْرَاقِهِمْ خَجَلًا وَانْكِسَارًا وَانْخِذَالًا مِمَّا بَهَتَهُمْ بِهِ إِبْرَاهِيمُ فَمَا أَحَارُوا جَوَابًا إِلَّا مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ جرير ثم نكسوا على رؤوسهم فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ حِينَ جَادَلَهُمْ. أَيْ قُلِبُوا فِي الْحُجَّةِ وَاحْتَجُّوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِمَا هُوَ الْحُجَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فَأَقَرُّوا بِهَذِهِ لِلْحَيْرَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ، قَالَ وَالْمَعْنَى نُكِسَتْ حُجَّتُهُمْ فَأُقِيمَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ مَقَامَ الْخَبَرِ عَنْ حُجَّتِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ نُكِّسُوا بِالتَّشْدِيدِ وَنُكِسُوا عَلَى لَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ نَكَّسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى رؤوسهم وَهِيَ قِرَاءَةُ رِضْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَعْبُودِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أُفٍّ صَوْتٌ إِذَا صُوِّتَ بِهِ عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ مُتَضَجِّرٌ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَضْجَرَهُ مَا رَأَى مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى عِبَادَتِهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ عُذْرِهِمْ، وَبَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ وَزُهُوقِ الْبَاطِلِ، فَتَأَفَّفَ بِهِمْ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَدْ عَرَفُوا صِحَّةَ قَوْلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَدْ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ وَإِنْ لَمْ يَعْقِلُوا. وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِقَوْلِهِ: / أَفَتَعْبُدُونَ وَلِقَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٨ الى ٧١]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا أَظْهَرَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ، وَأَنَّهُمْ: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَنِ الْقَائِلُ لِذَلِكَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ سَنْجَارِيبَ بْنِ نُمْرُوذَ بْنِ كُوشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّمَا أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلٌ مِنَ الْكُرْدِ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ وَهْبٍ عَنْ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي قَالَ حَرِّقُوهُ رَجُلٌ اسْمُهُ هِيرِينُ، فَخَسَفَ اللَّه تَعَالَى بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقِصَّةِ
فَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا اجْتَمَعَ نُمْرُوذُ وَقَوْمُهُ لِإِحْرَاقِ إِبْرَاهِيمَ حَبَسُوهُ فِي بَيْتٍ

صفحة رقم 157

وَبَنَوْا بُنْيَانًا كَالْحَظِيرَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: ٩٧] ثُمَّ جَمَعُوا لَهُ الْحَطَبَ الْكَثِيرَ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ مَرِضَتْ قَالَتْ: إِنْ عَافَانِي اللَّه لَأَجْعَلَنَّ حَطَبًا لِإِبْرَاهِيمَ، وَنَقَلُوا لَهُ الْحَطَبَ عَلَى الدَّوَابِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا اشْتَعَلَتِ النَّارُ اشْتَدَّتْ وَصَارَ الْهَوَاءُ بِحَيْثُ لَوْ مَرَّ الطَّيْرُ فِي أَقْصَى الْهَوَاءِ لَاحْتَرَقَ، ثُمَّ أَخَذُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعُوهُ عَلَى رَأْسِ الْبُنْيَانِ وَقَيَّدُوهُ، ثُمَّ اتَّخَذُوا مَنْجَنِيقًا وَوَضَعُوهُ فِيهِ مُقَيَّدًا مَغْلُولًا، فَصَاحَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ صَيْحَةً وَاحِدَةً، أَيْ رَبَّنَا لَيْسَ فِي أَرْضِكَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّهُ يُحَرَّقُ فِيكَ فَأْذَنْ لَنَا فِي نُصْرَتِهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: إِنِ اسْتَغَاثَ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ فَأَغِيثُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ غَيْرِي فَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ وَأَنَا وَلِيُّهُ، فَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ، أَتَاهُ خَازِنُ الرِّيَاحِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ طَيَّرْتُ النَّارَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا حَاجَةَ بِي إِلَيْكُمْ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الْأَرْضِ، لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، أَنْتَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» وَقِيلَ إِنَّهُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، لَكَ الْحَمْدُ/ وَلَكَ الْمُلْكُ، لَا شَرِيكَ لَكَ» ثُمَّ وَضَعُوهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ وَرَمَوْا بِهِ النَّارِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ هَلْ لَكَ حَاجَةٌ، قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا؟ قَالَ: فَاسْأَلْ رَبَّكَ، قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي.
فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ: وَلَوْ لَمْ يُتْبِعْ بَرْدًا سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا، قَالَ: وَلَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ فِي الدُّنْيَا نَارٌ إِلَّا طُفِئَتْ، ثُمَّ قَالَ السُّدِّيُّ: فَأَخَذَتِ الْمَلَائِكَةُ بِضَبْعَيْ إِبْرَاهِيمَ وَأَقْعَدُوهُ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ، وَوَرْدٌ أَحْمَرُ، وَنَرْجِسُ. وَلَمْ تُحْرِقِ النَّارُ مِنْهُ إِلَّا وِثَاقَهُ، وَقَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو أُخْبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ كَانَ فِيهَا إِمَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ خَمْسِينَ يَوْمًا، وَقَالَ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا أَطْيَبَ عَيْشًا مِنِّي إِذْ كُنْتُ فِيهَا،
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ اللَّه مَلَكَ الظِّلِّ فِي صُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَعَدَ إِلَى جَنْبِ إِبْرَاهِيمَ يُؤْنِسُهُ، وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِقَمِيصٍ مِنْ حَرِيرِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّارَ لَا تَضُرُّ أَحْبَابِي، ثُمَّ نَظَرَ نُمْرُوذُ مِنْ صَرْحٍ لَهُ وَأَشْرَفَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَرَآهُ جَالِسًا فِي رَوْضَةٍ، وَرَأَى الْمَلَكَ قَاعِدًا إِلَى جَنْبِهِ وَمَا حَوْلَهُ نَارٌ تُحْرِقُ الْحَطَبَ، فَنَادَاهُ نُمْرُوذُ: يَا إِبْرَاهِيمُ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُمْ فَاخْرُجْ، فَقَامَ يَمْشِي حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لَهُ نُمْرُوذُ: مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتُهُ مَعَكَ فِي صُورَتِكَ؟ قَالَ: ذَاكَ مَلَكُ الظِّلِّ أَرْسَلَهُ رَبِّي لِيُؤْنِسَنِي فِيهَا. فَقَالَ نُمْرُوذُ:
إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى رَبِّكَ قُرْبَانًا لِمَا رَأَيْتُ مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ فِيمَا صَنَعَ بِكَ. فَإِنِّي ذَابِحٌ لَهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يَقْبَلُ اللَّه مِنْكَ مَا دُمْتَ عَلَى دِينِكَ، فَقَالَ نُمْرُوذُ: لَا أَسْتَطِيعُ تَرْكَ مُلْكِي، وَلَكِنْ سَوْفَ أَذْبَحُهَا لَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهَا لَهُ وَكَفَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ بَنَوْا لِإِبْرَاهِيمَ بُنْيَانًا وَأَلْقَوْهُ فِيهِ، ثُمَّ أَوْقَدُوا عَلَيْهِ النَّارَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ فَتَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَإِذَا هُوَ غَيْرُ مُحْتَرِقٍ يَعْرَقُ عَرَقًا، فَقَالَ لَهُمْ هَارَانُ أَبُو لُوطٍ: إِنَّ النَّارَ لَا تُحْرِقُهُ لِأَنَّهُ سَحَرَ النَّارَ، وَلَكِنِ اجْعَلُوهُ عَلَى شَيْءٍ وَأَوْقِدُوا تَحْتَهُ فَإِنَّ الدُّخَانَ يَقْتُلُهُ، فَجَعَلُوهُ فَوْقَ بِئْرٍ وَأَوْقَدُوا تَحْتَهُ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فَوَقَعَتْ فِي لِحْيَةِ أَبِي لُوطٍ فَأَحْرَقَتْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا اخْتَارُوا الْمُعَاقَبَةَ بِالنَّارِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْعُقُوبَاتِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَنْصُرُونَ آلِهَتَكُمْ نَصْرًا شَدِيدًا، فَاخْتَارُوا أَشَدَّ الْعُقُوبَاتِ وَهِيَ الْإِحْرَاقُ.
أَمَّا قوله تعالى: قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

صفحة رقم 158

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي تفسير قوله تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا، لَا أَنَّ هُنَاكَ كَلَامًا كَقَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ يَكُونُهُ، وَقَدِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ النَّارَ جَمَادٌ فَلَا يَجُوزُ خِطَابُهُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ ذَلِكَ الْقَوْلُ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قول سدي: أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ الْأَقْرَبُ بِالظَّاهِرِ، وَقَوْلُهُ: النَّارُ جَمَادٌ فَلَا/ يَكُونُ فِي خِطَابِهَا فَائِدَةٌ، قُلْنَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ مَصْلَحَةً عَائِدَةً إِلَى الْمَلَائِكَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّارَ كَيْفَ بَرَدَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَزَالَ عَنْهَا مَا فِيهَا مِنَ الْحَرِّ وَالْإِحْرَاقِ، وَأَبْقَى مَا فِيهَا مِنَ الْإِضَاءَةِ وَالْإِشْرَاقِ واللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ فِي جِسْمِ إِبْرَاهِيمَ كَيْفِيَّةً مَانِعَةً مِنْ وُصُولِ أَذَى النَّارِ إِلَيْهِ، كَمَا يَفْعَلُ بِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ، وَكَمَا أَنَّهُ رَكَّبَ بِنْيَةَ النَّعَامَةِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهَا ابْتِلَاعُ الْحَدِيدَةِ الْمُحْمَاةِ وَبَدَنَ السَّمَنْدَلِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُ الْمُكْثُ فِي النَّارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ حَائِلًا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ أَثَرِ النَّارِ إِلَيْهِ، قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لأن ظاهر قوله:
يا نارُ كُونِي بَرْداً أَنَّ نَفْسَ النَّارِ صَارَتْ بَارِدَةً حَتَّى سَلِمَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا، لَا أَنَّ النَّارَ بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ، فَإِنْ قِيلَ: النَّارُ جِسْمٌ مَوْصُوفٌ بِالْحَرَارَةِ وَاللَّطَافَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحَرَارَةُ جزء مِنْ مُسَمَّى النَّارِ امْتَنَعَ كَوْنُ النَّارِ بَارِدَةً، فَإِذَا وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ النَّارِ الْجِسْمُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَجْزَاءِ مُسَمَّى النَّارِ وَذَلِكَ مَجَازٌ فَلِمَ كَانَ مَجَازُكُمْ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازَيْنِ الْآخَرَيْنِ؟ قُلْنَا: الْمَجَازُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَبْقَى مَعَهُ حُصُولُ الْبَرْدِ وَفِي الْمَجَازَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُمُوهُمَا لَا يَبْقَى ذَلِكَ فَكَانَ مَجَازُنَا أَوْلَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَرْدَ إِذَا أَفْرَطَ أَهْلَكَ كَالْحَرِّ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِدَالِ ثُمَّ فِي حُصُولِ الِاعْتِدَالِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقَدِّرُ اللَّه تَعَالَى بَرْدَهَا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ. وَثَانِيهَا:
أَنَّ بَعْضَ النَّارِ صَارَ بَرْدًا وَبَقِيَ بَعْضُهَا عَلَى حَرَارَتِهِ فَتَعَادَلَ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي جِسْمِهِ مَزِيدَ حَرٍّ فَسَلِمَ مِنْ ذَلِكَ الْبَرْدِ بَلْ قَدِ انْتَفَعَ بِهِ وَالْتَذَّ ثُمَّ هَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أو كل النَّارِ زَالَتْ وَصَارَتْ بَرْدًا. الْجَوَابُ: أَنَّ النَّارَ هُوَ اسْمُ الْمَاهِيَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْبَرْدُ فِي الْمَاهِيَّةِ وَيَلْزَمَ مِنْهُ عُمُومُهُ فِي كُلِّ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ، وَقِيلَ: بَلِ اخْتُصَّ بِتِلْكَ النَّارِ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِبَرْدِ تِلْكَ النَّارِ وَفِي النَّارِ مَنَافِعُ لِلْخَلْقِ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُهَا، وَالْمُرَادُ خَلَاصُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا إِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى سَائِرِ الْخَلْقِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَجُوزُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّهُ سَلَامٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْجَوَابُ الظَّاهِرُ كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ النَّارَ بَرْدًا جَعَلَهَا سَلَامًا عَلَيْهِ حَتَّى يَخْلُصَ، فَالَّذِي قَالَهُ يَبْعُدُ وَفِيهِ تَشْتِيتُ الْكَلَامِ الْمُرَتَّبِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَفَيَجُوزُ مَا
رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ وَسَلَامًا لَأَتَى الْبَرْدُ عَلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ: ذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ بَرْدَ النَّارِ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا وَإِنَّمَا حَصَلَ مِنْ جِهَةِ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْبَرْدُ يَعْظُمُ لَوْلَا قَوْلُهُ سَلَامًا.

صفحة رقم 159
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية