
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَدْرَكَتِ الْقَوْمَ حَيْرَةُ سُوءٍ، فَقَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أَيْ فِي الْفِتْنَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ فِي الرَّأْيِ، وَقَوْلُ قَتَادَةَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْرَةً وَعَجْزًا، وَلِهَذَا قَالُوا لَهُ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فَكَيْفَ تَقُولُ لَنَا سَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْطِقُ، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أَيْ إِذَا كَانَتْ لَا تَنْطِقُ وَهِيَ لا تنفع ولا تضر، فَلِمَ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَيْ أَفَلَا تَتَدَبَّرُونَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ الْغَلِيظِ الَّذِي لَا يُرَوَّجُ إِلَّا عَلَى جَاهِلٍ ظَالِمٍ فَاجِرٍ. فَأَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَأَلْزَمَهُمْ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الأنعام: ٩٣] الآية.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
لَمَّا دُحِضَتْ حُجَّتُهُمْ وَبَانَ عَجْزُهُمْ وَظَهَرَ الْحَقُّ وَانْدَفَعَ الْبَاطِلُ عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِ مُلْكِهِمْ، فَقَالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، فَجَمَعُوا حَطَبًا كَثِيرًا جِدًّا، قَالَ السُّدِّيُّ: حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْرَضُ فَتَنْذُرُ إِنْ عُوفِيَتْ أَنْ تَحْمِلَ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ جَعَلُوهُ فِي جَوْبَةٍ «١» مِنَ الْأَرْضِ وَأَضْرَمُوهَا نَارًا، فَكَانَ لَهَا شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مِثْلُهَا، وَجَعَلُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ بِإِشَارَةِ رَجُلٍ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ مِنَ الْأَكْرَادِ. قَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ، اسْمُهُ هِيزُنُ: فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا أَلْقَوْهُ قَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:
حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا محمد عليهما السلام حِينَ قَالُوا إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل.
وروى الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو هِشَامٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النَّارِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدُكَ» وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا جَعَلُوا يُوثِقُونَهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ لَكَ الْحَمْدُ، وَلَكَ الْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَقَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ: كان عمره إذ ذاك سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ: أَلِكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، وَأَمَّا مِنَ اللَّهِ فَبَلَى.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ- وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا- قال: لما ألقي إبراهيم، جعل خازن

الْمَطَرِ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ بِالْمَطَرِ فَأَرْسِلُهُ؟ قَالَ: فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ الله يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قَالَ: لَمْ يَبْقَ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طُفِئَتْ «١». وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَمْ يَنْتَفِعْ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ بِنَارٍ، وَلَمْ تُحْرِقِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ سِوَى وِثَاقِهِ «٢».
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَيْخٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قَالَ: لَا تَضُرِّيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ:
وَسَلَامًا لَآذَى إِبْرَاهِيمَ بَرْدُهَا، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضحاك: كوني بردا وسلاما على إبراهيم، قالوا: صَنَعُوا لَهُ حَظِيرَةً مِنْ حَطَبٍ جَزْلٍ، وَأَشْعَلُوا فِيهِ النَّارَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَصْبَحَ وَلَمْ يُصِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى أَخْمَدَهَا اللَّهُ، قَالَ: وَيَذْكُرُونَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ مَعَهُ يَمْسَحُ وَجْهَهُ مِنَ الْعَرَقِ، فَلَمْ يُصِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَعَهُ فِيهَا مَلَكُ الظِّلِّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَخُبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَقَالَ: كَانَ فِيهَا إِمَّا خَمْسِينَ وَإِمَّا أَرْبَعِينَ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَيْامًا وَلَيَالِيَ قَطُّ أَطْيَبَ عَيْشًا إِذْ كُنْتُ فِيهَا وَدِدْتُ أَنَّ عَيْشِي وَحَيَاتِي كُلَّهَا مِثْلُ عَيْشِي إِذْ كُنْتُ فِيهَا «٣».
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ الطَّبَقُ وَهُوَ فِي النَّارِ: وَجَدَهُ يَرْشَحُ جَبِينُهُ، قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَأْتِ يَوْمَئِذٍ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ، إِلَّا الْوَزَغَ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ، وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا. وَقَالَ ابْنُ أبي حاتم: حدثنا عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَمِّي، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَوْلَاةُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ قَالَتْ:
دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَرَأَيْتُ فِي بَيْتِهَا رُمْحًا، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا الرُّمْحِ؟
فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ هَذِهِ الْأَوْزَاغَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ النَّارَ غَيْرَ الْوَزَغِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أَيِ الْمَغْلُوبِينَ الْأَسْفَلِينَ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ كَيْدًا، فَكَادَهُمُ اللَّهُ وَنَجَّاهُ مِنَ النَّارِ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ، جَاءَ مَلِكُهُمْ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فَوَقَعَتْ عَلَى إِبْهَامِهِ، فَأَحْرَقَتْهُ مثل الصوفة.
(٢) انظر تفسير الطبري ٩/ ٤٤.
(٣) انظر الدر المنثور ٤/ ٥٧٩.