
وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ
[الزخرف ٤٣/ ٤٤] وقال تعالى هنا: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ...
فإن رأى العرب تمسك اليهود بفرقان موسى، فهم أجدر بالتمسك بكتابهم فرقان محمد صلّى الله عليه وسلم.
أما أوصاف المتقين فهي واحدة قديما وحديثا، ذكر تعالى منها هنا وصفين: خشية الله تعالى في السر أي وفي العلن، والخوف من يوم القيامة وأهوالها، وما يجري فيها من الحساب والسؤال قبل التوبة.
وختمت الآيات ببيان الهدف الجوهري منها: وهو التعجب من إنكار العرب للقرآن، وهو كلام الله تعالى، بدليل أنه معجز لا يقدرون على الإتيان بمثله، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
القصة الثانية- قصة إبراهيم عليه السلام
- ١- إنكار عبادة الأصنام والدعوة إلى توحيد الله تعالى
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٥٨]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)

الإعراب:
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِذْ: ظرف في موضع نصب يتعلق بآتينا وتقديره:
آتينا إبراهيم رشده في وقت قال لأبيه.
عَلى ذلِكُمْ متعلق بمحذوف مقدر، يدل عليه مِنَ الشَّاهِدِينَ ويفسره. ولا يجوز تعلقه به لأنه لا يجوز تقديم الصلة ومعمولها على الموصول.
المفردات اللغوية:
رُشْدَهُ الرشد: الاهتداء لوجوه الخير والصلاح في الدين والدنيا، قال الله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء ٤/ ٦] وقرئ أيضا رُشْدَهُ.
ومعنى إضافة الرشد لإبراهيم: أنه رشد مثله، وأنه رشد له شأن. مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون عليهما السلام. وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي علمنا منه أنه أهل لما آتيناه، أو جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الخصال. وفيه إشارة إلى أن فعله تعالى باختيار وحكمة، وأنه عالم بالجزئيات.
التَّماثِيلُ الأصنام، جمع تمثال: وهو الصنم، والتمثال: اسم للشيء المصنوع المضاهي خلق الله تعالى، كإنسان أو حيوان أو شجر، سمى الأصنام بالتماثيل تحقيرا لشأنها وتصغيرا لها، مع علم إبراهيم بتعظيمهم وإجلالهم لها. وفرق بعضهم بين الصنم والوثن بأن الصنم: المصنوع من المعدن القابل للتمدد بالنار، والوثن: المصنوع من الخشب أو غيره.
عاكِفُونَ مقيمون على عبادتها. وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فاقتدينا بهم. كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بعبادتها. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بيّن.
أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالشيء الثابت في الواقع. اللَّاعِبِينَ الهازلين. بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ربكم المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض. فَطَرَهُنَّ خلقهن

وأبدعهن على غير مثال سبق. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ الذي قلته. مِنَ الشَّاهِدِينَ به المتحققين صحته، والمبرهنين عليه، فإن الشاهد: من تحقق الشيء وحققه.
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأجتهدن في كسرها. والكيد في الأصل: الاحتيال في الإضرار، والمراد هنا: المبالغة في إلحاق الأذى بها. فَجَعَلَهُمْ بعد ذهابهم إلى مجتمعهم في يوم عيد لهم.
جُذاذاً قطعا أو فتاتا، من الجذ، أي القطع. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ للأصنام، كسر غيره، واستبقاه، وجعل الفأس على عنقه. لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أي إلى الكبير. يَرْجِعُونَ فيروا ما فعل بغيره.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية من قصص الأنبياء في هذه السورة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم، ليتأسى بهم في الصبر والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الدين الحق ومعاداة المشركين.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ.. أي والله لقد آتينا إبراهيم رشده، أي هديناه إلى ما فيه الخير والصلاح، من قبل موسى وهارون أو من قبل النبوة، ووفقناه إلى توحيد الله، ومعاداة عبادة الأصنام لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر، وما هي إلا حجر أو معدن أو خشب صنعها أبوه أمامه بالقدوم، وكنا عالمين بأنه أهل للنبوة، وجامع لمحاسن الأخلاق. والرشد: إما النبوة وإما الأهلية للخير والصلاح في الدين والدنيا.
قال القرطبي: وعلى الأول أكثر أهل التفسير.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما هذِهِ التَّماثِيلُ.. ؟ إِذْ: إما أن يتعلق بآياتنا أو برشده، أو بمحذوف، أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. أي آتيناه الرشد حين أنكر على قومه عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال:
ما هذه التماثيل أي الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها وتعظيمها؟

وفي هذا القول تنبيه إلى ضرورة التأمل في شأنها، وأنها لا تغني عنهم شيئا، لكنهم لم يفعلوا، وأصروا على تقليد الأسلاف دون برهان، فقالوا:
قالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أي لا حجة لنا سوى تقليد الآباء واتباع الأسلاف، وكفى بذلك ضعفا وسذاجة، فوبخهم إبراهيم عليه السلام على ما يفعلون:
قالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قال إبراهيم لأبيه وقومه: لا فرق بينكم وبين آبائكم، فأنتم وهم في ضلال بيّن واضح، على غير منهج الحق والطريق المستقيم. وهذا تنبيه إلى أن سوء الرأي لا يغيره تقادم الزمن، ومضي الأيام.
فتعجبوا من قوله وسألوه:
قالُوا: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أي ما هذا الكلام الصادر عنك، أتقوله لاعبا هازلا مازحا أم محقا جادّا فيه، فإنا لم نسمع به قبلك؟
فأجابهم إبراهيم بعد إنكاره عبادة الأصنام بما يبين الحق، ويرشد إلى الإله المستحق للعبادة:
قالَ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي قال إبراهيم:
إني أتكلم بالجد والحق، لا بالهزل واللعب، فإن الرب المستحق للعبادة هو مالك السموات والأرض الذي خلقها وكونها وأنشأها من العدم، على غير مثال سابق، وهو الخالق لجميع الأشياء، وهو الرب الذي لا إله غيره.
وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره، ولا رب سواه. والخلاصة: أنه أظهر لهم أنه مجدّ في إظهار الحق الذي هو التوحيد بالقول أولا وهو ما قاله، ثم بالفعل ثانيا. لذا أقسم إبراهيم الخليل قسما أسمعه بعض قومه:

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي وو الله لأجتهدن في كسر أصنامكم، وفي إلحاق الأذى بها، بعد أن تذهبوا إلى عيدكم، وكان لهم مجمع عيد يخرجون إليه كل سنة، ثم يعودون، فيسجدون للأصنام.
وقوله: بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي منطلقين ذاهبين. وسمع هذا القول رجل منهم، فحفظه، ثم أخبر عنه، وشاع ذلك في جماعة، وعليه قال تعالى:
قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء ٢١/ ٦٠].
ولم يخرج إبراهيم معهم معتذرا بأنه سقيم، وصمم على تنفيذ خطته عمليا، لعلهم يتركون عبادة الأصنام، حينما يتأملون أنها لا تستطيع دفع الأذى عن نفسها، والبرهان العملي أوقع في النفس، وأدعى إلى التأمل، وأشد صدمة للذهن.
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي فلما ذهبوا دخل على الأصنام، وأمامهم الأكل، فجعلهم قطعا فتاتا وحطاما، كسرها كلها إلا الصنم الكبير عندهم لم يكسره كما قال تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات ٣٧/ ٩٣] لعل هؤلاء الوثنيين يرجعون إلى الكبير الذي يلجأ إليه عادة، وقد علق إبراهيم الفأس على عنقه، أو في يده، فيتبين لهم أنه عاجز لا يستطيع فعل شيء، وأنهم بعبادة الأصنام مغرورون جاهلون.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- لا تأتي النبوة لأحد إلا بعد إعداد وصقل وتوافر مقومات ومؤهلات تؤهل لها، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام وفّقه الله لهدايته وللنظر والاستدلال على توحيد الله بآيات الكون من قبل النبوة على الرأي الراجح، أو من قبل

موسى وهارون كما قيل، وكان الله عالما بأنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.
٢- كان لإبراهيم موقف جريء رائع من الأصنام وعبدتها، فقال لأبيه آزر وقومه أي النمروذ ومن اتبعه: ما هذه التماثيل التي أنتم مقيمون على عبادتها؟.
فأجابوه بأنهم يعبدونها تقليدا للأسلاف، فيرد عليهم بأنهم وآباءهم في خسران مبين بعبادتها إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم.
وكأنهم لم يصدقوا قوله، فسألوه: هل جئتنا بحق فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟
فكان إبراهيم صارما مجدا في إظهار الحق الذي هو التوحيد قولا وفعلا، أما القول فقال: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهن وأبدعهن. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي إنني شاهد على أنه رب السموات والأرض، والشاهد يبين الحكم، وأنا أبين بالدليل ما أقول.
وأما الفعل: فإنه كسر الأصنام وكان عددها سبعين، فعل واثق بالله تعالى، موطّن نفسه على تحمل المكروه في سبيل رفع لواء الدين الحق، وإعلاء راية التوحيد لله. وترك كبير الأصنام وعظيم الآلهة في الخلق، فإنه لم يكسره.
قال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر، وعلّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتج به عليهم.
وهذا هو معنى قوله: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها، كما يرجع إلى العالم أو الزعيم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة، ومالك صحيحا، والفأس على عاتقك؟. وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، ويظهر لهم أنهم في عبادته على جهل عظيم.
وذكر القرطبي والرازي وجها آخر في تفسير ذلك: وهو لعلهم إلى إبراهيم