
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٧ الى ١٨]
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
ظاهر هذه الآية الرد على من قال من الكفار أمر مريم وما ضارعه من الكفر تعالى الله عن قول المبطلين، و «اللهو» في هذه الآية المرأة وروي أنها في بعض لغات العرب تقع على الزوجة، وأَنْ في قوله إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ يحتمل أن تكون الشرطية بمعنى لو كنا أي ولسنا كذلك، وللمتكلمين هنا اعتراض وانفصال ويحتمل أن تكون نافية بمعنى ما وكل هذا قد قيل، و «الحق» عام في القرآن والرسالة والشرع وكل ما هو حق، والْباطِلِ أيضا عام كذلك ويدمغه معناه يصيب دماغه وذلك مهلك في البشر فكذلك الحق يهلك الباطل، والْوَيْلُ الخزي والهم وقيل هو اسم واد في جهنم فهو المراد في هذه الآية وهذه مخاطبة للكفار الذين وصفوا الله تعالى بما لا يجوز عليه ولا يليق به تعالى الله عن قولهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
قوله تعالى: وَلَهُ يحتمل أن يكون ابتداء كلام يحتمل أن يكون معادلا لقوله وَلَكُمُ الْوَيْلُ [الأنبياء: ١٨] كأنه تقسيم الأمر في نفسه أي للمختلقين هذه المقالة الويل ولله تعالى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واللام في لَهُ لام الملك، وقوله تعالى: مَنْ فِي السَّماواتِ يعم الملائكة والنبيين وغيرهم، ثم خصص من هذا العموم من أراد تشريفه من الملائكة بقوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لأن «عند» هنا ليست في المسافات إنما هي تشريف في المنزلة فوصفهم تعالى بأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادة الله ولا يسأمونها ولا يكلون فيها. والحسير من الإبل المعيي ومنه قول الشاعر: [الطويل].
لهن الوجى لم يكن عونا على النوى | ولا كان منها طالع وحسير |
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) صفحة رقم 77

هذه أَمِ التي هي بمنزلة ألف الاستفهام، وهي هاهنا تقرير وتوقيف، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة بل مع ألف الاستفهام، كأن في القول إضرابا عن الأول ووقفهم الله تعالى هل اتَّخَذُوا آلِهَةً يحيون ويخترعون، أي ليست آلهتكم كذلك فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة. وقرأت فرقة «ينشرون» بضم الياء بمعنى يحيون غيرهم، وقرأت فرقة «ينشرون» بمعنى يحيونهم وتدوم حياتهم يقال نشر الميت وأنشره الله تعالى، ثم بين تعالى أمر التمانع بقوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق، واقتضاب القول في هذا أن الإلهين لو فرضا فوقع بينهما الاختلاف في تحريك جرم وتسكينه فمحال أن تتم الإرادتان ومحال أن لا تتم جميعا، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزا، وهذا ليس بإله، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما ونظر آخر وذلك أن كل جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن يتعلق به قدرتان، فإذا كانت قدرة أحدهما موجدة بقي الآخر فضلا لا معنى له في ذلك الجزء، ثم يتمادى النظر هكذا جزءا جزءا ثم نزه تعالى نفسه عما وصفه أهل الجهالة والكفر، ثم وصف نفسه تعالى بأنه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهذا وصف يحتمل معنيين: إما أن يريد أنه بحق ملكه وسلطانه لا يعارض ولا يسأل عن شيء يفعله إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء، وإما أن يريد أنه محكم الأفعال واضع كل شيء موضعه فليس في أفعاله موضع سؤال ولا اعتراض، وهؤلاء من البشر يسألون لهاتين العلتين لأنهم ليسوا مالكين ولأنهم في أفعالهم خلل كثير، ثم قررهم تعالى ثانية على اتخاذ الآلهة، وفي تكرار هذا التقرير مبالغة في نكره وبيان فساده، وفي هذا التقرير زيادة على الأول وهي قوله تعالى: مِنْ دُونِهِ فكأنهم قررهم هنا على قصد الكفر بالله عز وجل، ثم دعاهم إلى الحجة والإتيان بالبرهان. وقوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يحتمل أن يريد به هذا جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها، أي ليس فيها برهان على اتخاذ آلهة من دون الله، بل فيها ضد ذلك، ويحتمل أن يريد هذا القرآن والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين، فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم وردهم على طريق النجاة، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم، ومعنى الكلام على هذا التأويل عرض القرآن في معرض البرهان أي هاتُوا بُرْهانَكُمْ فهذا برهاني أنا ظاهر في ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي وقرأت فرقة «هذا ذكر من» «وذكر من» بالإضافة فيهما، وقرأت فرقة «هذا ذكر من» بالإضافة «وذكر من قبلي» بتنوين «ذكر» الثاني وكسر الميم من قوله تعالى: مَنْ قَبْلِي وقرأ يحيى بن سعيد وابن مصرف بالتنوين في «ذكر من» في الموضعين وكسر الميم من قوله «من» في الموضعين، وضعف أبو حاتم هذه القراءة كسر الميم في الأولى ولم ير لها وجها، ثم حكم عليهم تعالى بأن أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ لإعراضهم عنه وليس المعنى فَهُمْ مُعْرِضُونَ لأنهم لا يعلمون بل المعنى فَهُمْ مُعْرِضُونَ ولذلك لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وقرأ الحسن وابن محيصن «الحق» بالرفع على معنى هذا القول هو الحق والوقف على هذه القراءة على لا يَعْلَمُونَ.
صفحة رقم 78