اللغَة: ﴿أَضْغَاثُ﴾ أخلاط جمع ضغث وهي الأهاويل التي يراها الإنسان من منامه ﴿قَصَمْنَا﴾ القصْم: كسر الشيء الصلب يقال: قصمتُ ظهره وانقصمت سنُّة إذا انكسرت ﴿يَرْكُضُونَ﴾ الركضُ: العدو بشدَّة والركض ضرب الدابة بالرِّجل حثاً على العدو ﴿خَامِدِينَ﴾ خمدت النار طفئت والخمود الهمود ويراد به الموت تشبيهاً بخمود النار ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ دَمَغَه: أصاب دماغه نحو كَبَده ورَأسَه أصاب كبده ورأسه ﴿يَسْتَحْسِرُونَ﴾ يعيون مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب.
التفسِير: ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ أي قرب ودنا وقت حساب الناس على أعمالهم ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾ أي وهم مستغرقون في الشهوات، غافلون عن ذلك اليوم الرهيب، لا يعملون للآخرة ولا يستعدون لها كقول القائل: الناس في غفلاتهم: ورحَى المنيَّة تطحن، وإِنما وصف
الآخرة بالاقتراب لأن كل ما هو آتٍ قريب ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ﴾ أي ما يأتيهم شيءٌ من الوحي والقرآن من عند الله متجدّد في النزول فيه عظةٌ لهم وتذكير ﴿إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ أي إلاّ استمعوا القرآن مستهزئين قال الحسن: كلما جُدّد لهم الذكرُ استمروا على الجهل ﴿لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ أي ساهيةً قلوبهم عن كلام الله، غافلة عن تدبر معناه ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ أي تناجى المشركون فيما بينهم سراً ﴿هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ أي قالوا فيما بينهم خفيةً هل محمد الذي يدّعى الرسالة إلا شخص مثلكم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ ﴿أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ أي أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر؟ قال الألوسي: أرادوا أن ما أتى به محمد عليه السلام من قبيل السحر، وذلك بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل ما جاء به من الخوارق من قبيل السحر وعنوا بالسحر القرآن ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض﴾ أي قال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِنَّ ربي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي السميع بأقوالكم، العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديدٌ لهم ووعيد ﴿بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ هذا إضرابٌ من جهته تعالى وانتقال إلى ما هو أشنع وأقبح حيث قالوا عن القرآن إنه أخلاط منامات ﴿بَلِ افتراه﴾ أي اختلقه محمد من تلقاء نفسه ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ أي بل محمد شاعر وما أتى به شعر يخيل للسامع أنه كلام رائع مجيد قال في التسهيل: حكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم فهم متحيرون لا يستقرون على شيء ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون﴾ أي فليأتنا محمدٌ بمعجزةٍ خارقة تدل على صدقه كما أُرسل موسى بالعصا وصالح بالناقة ﴿مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أي ما صدَّق قبل مشركي مكة أهل القرى الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات بل كذبوا فأهلكهم الله أفيصدّق هؤلاء بالآيات لو رأوها؟ كلا قال أبو حيان: وهذا استبعادٌ وإنكار أي هؤلاء أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات فلو أعطيناهم ما اقترحوا لكانوا أضلَّ من أولئك واستحقوا عذاب الاستئصال ولكنَّ الله تعالى حكم بإِبقائهم لعلمه أنه سيخرج منهم مؤمنون ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ أي وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رسلاً من البشر لا ملائكة فكيف ينكر هؤلاء المشركون رسالتك ويقولون: ما هذا إلا بشر مثلكم؟ ﴿فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي فاسألوا يا أهل مكة العلماء بالتوراة والإنجيل هل كان الرسل الذين جاءوهم بشراً أم ملائكة؟ إن كنتم لا تعلمون ذلك ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام﴾ أي ما جعلنا الأنبياء أجساداً لا يأكلون ولا يشربون كالملائكة بل هم كسائر البشر يأكلون ويشربون، وينامون ويموتون ﴿وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ﴾ أي ما كانوا مخلَّدين في الدنيا لا يموتون ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ﴾ أي ثم صدقنا الأنبياء ما وعدناهم به من نصرهم وإهلاك مكذبيهم وإِنجائهم مع أتباعهم المؤمنين ﴿وَأَهْلَكْنَا المسرفين﴾ أي وأهلكنا المكذبين للرسل، المجاوزين الحدَّ في الكفر والضلال، وهذا تخويفٌ لأهل مكة ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ اللام للقسم أي والله لقد
صفحة رقم 234أنزلنا إِليكم يا معشر العرب كتاباً عظيماً مجيداً لا يماثله كتاب فيه شرفُكم وعزكُم لأنه بلغتكم ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا تعقلون هذه النعمة فتؤمنون بما جاءكم به محمد عليه السلام؟ ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ أي وكثيراً أهلكنا من أهل القرى الذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله ﴿وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾ أي وخلقنا أمة أخرى بعدهم ﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ أي فلما رأوا عذابنا بحاسة البصر وتيقنوا نزوله إذا هم يهربون فارين منهزمين قال أبو حيان: لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابّهم يركضونها هاربين منهزمين ﴿لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ﴾ أي تقول لهم الملائكة استهزاءً: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور ولين العيش ﴿وَمَسَاكِنِكُمْ﴾ أي ارجعوا إلى مساكنكم الطيبة ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ أي لعلكم تُسألون عما جرى عليكم، وهذا كله من باب الاستهزاء والتوبيخ ﴿قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أي قالوا يا هلاكنا ودمارنا إنا كنا ظالمين بالإشراك وتكذيب الرسل، اعترفوا وندموا حين لا ينفعهم الندم ﴿فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ﴾ أي فما زالت تلك الكلمات التي قالوها يكررونها ويردّدنها ﴿حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ﴾ أي حتى أهلكناهم بالعذاب وتركناهم مثل الحصيد موتى كالزرع المحصود بالمناجل ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ أي لم نخلق ذلك عبثاً وباطلاً وإنما خلقناهما دلالةً على قدرتنا ووحدانيتنا ليعتبر الناس ويستدلوا بالخلق على وجود الخالق المدبّر الحكيم ﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً﴾ قال ابن عباس: هذا ردٌّ على من قال اتخذ الله ولداً والمعنى لو أردنا أن نتخذ ما يُتلهى به من زوجةٍ أو ولد ﴿لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ﴾ أي لاتخذناه من عندنا من الحور العين أو الملائكة ﴿إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ أي لو أردنا فعل ذلك لاتخذنا من لدنا ولكنه منافٍ للحكمة فلم نفعله ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ﴾ أي بل نرمي بالحق المبين على الباطل المتزعزع فيقمعه ويُبطله ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ أي هالك تالف ﴿وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ﴾ أي ولكم يا معشر الكفار العذاب والدمار من وصفكم الله تعالى بما لا يجوز من الزوجة والولد ﴿وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ أي وله جلَّ وعلا جميع المخلوقات ملكاً وخلقاً وتصرفاً فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبدٌ ومخلوق له؟ ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ﴾ أي والملائكة الذين عبدتموهم من دون الله لا يتكبرون عن عبادة مولاهم ولا يَعْيَون ولا يملُّون ﴿يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ﴾ أي هم في عبادة دائمة ينزّهون الله عما لا يليق به ويصلّون ويذكرون الله ليل نهارَ لا يضعفون ولا يسأمون ﴿أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ﴾ لما ذكر الدلائل على وحدانيته وأن من في السماوات والأرض ملكٌ له وأن الملائكة المقربين في طاعته وخدمته عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم، و ﴿أَمِ﴾ منقطع بمعنى بل والهمزة فيها استفهام معناه التعجب والإنكار والمعنى هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهةً من الأرض قادرين على إحياء الموتى؟ كلا بل اتخذوا آلهة جماداً لا تتصف بالقدرة على شيء فهي ليست بآلهة على الحقيقة لأن من صفة الإِله القدرةُ على الإِحياء والإِماتة ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ هذا برهان على وحدانيته تعالى أي لو كان في الوجود
صفحة رقم 235
آلهة غير الله لفسد نظام الكون كله لما يحدث بين الآلهة من الاختلاف والتنازع في الخلق والتدبير وقصد المغالبة، ألا ترى أنه لا يوجد ملِكان في مدينة واحدة، ولا رئيسان في دائرة واحدة؟ ﴿فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي تنزّه الله الواحد الأحد خالق العرش العظيم عما يصفه به أهل الجهل من الشريك والزوجة والولد ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ أي لا يسأل تعالى عمّا يفعل لأنه مالك كل شيء والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولأنه حكيمٍ فأفعاله كلُّها جارية على الحكمة، وهم يُسألون عن أعمالهم لأنهم عبيد ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ كرَّر هذا الإنكار اسمتعظاماً للشرك ومبالغة في التوبيخ أي هل اتخذوا آلهة من دون الله تصلح للعبادة والتعظيم؟ ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ أي قل يا محمد لأولئك المشركين ائتوني بالحجة والبرهان على ما تقولون ﴿هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي﴾ أي هذا الكتاب الذي معي والكتب التي من قبلي كالتوراة والإنجيل ليس فيها ما يقتضي الإشراك بالله، ففي أي كتابٍ نزل هذا؟ في القرآن أم في الكتب المنزّلة على سائر الأنبياء؟! فما زعمتموه من وجود الآلهة لا تقوم عليه حجة لا من جهة العقل ولا النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه عن الشركاء والأنداد ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي بل أكثر المشركين لا يعلمون التوحيد فهم معرضون عن النظر والتأمل في دلائل الإِيمان.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التنكير في غفلة للتعظيم والتفخيم ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾.
٢ - صيغة المبالغة ﴿السميع العليم﴾.
٣ - الإضراب الترقي ﴿بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ وهذا الاضطراب في وصف القرآن يدل على التردُّد والتحير في تزويرهم للحق الساطع المنيرفقولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني.
٤ - الإنكار التوبيخي ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ؟
٥ - التشبيه البليغ ﴿حَصِيداً خَامِدِينَ﴾ أي جعلناهم كالزرع المحصود وكالنار الخامدة. ٦ - الاستعارة التمثيلية ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ﴾ شُبّه الحق بشيء صَلب والباطل تشيء رخو واستعير لفظ القذف والدمغ لغلبة الحق على الباطل بطريق التمثيل فكأنه رمي بجرم صلب على رأس دماغ الباطل فشقّه وفي هذا التعبير مبالغة بديعة في إِزهاق الباطل.
٧ - طباق السلب ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
٨ -
التبكيت وإِلقام الحجر للخصم ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ها﴾.
فَائِدَة: سئل كعب عن الملائكة كيف يسبّحون الليل والنهار لا يفترون؟ أما يشغلهم شأن، أما تشغلهم حاجة؟ فقال للسائل: يا ابن أخي جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النَّفس، ألست تأكل وتشرب، وتقوم وتجلس، وتجيء وتذهب وأنت تتنفس؟ فكذلك جُعل لهم التسبيح.