
(قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢) إجابة حاسمة قاطعة تقطع أمله في رجوعهم، والإيمان إذا دخل القلب وأشرب حبه كان أثبت من الرواسي، وهو إيمان بحجة وبينة وبرهان (لَن نُّؤثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)، أي لن نتركه لأجلك أيها الطاغي الباغي، وهذا معنى مؤكد، لأن " لن " تفيد النفي المؤكَّد، حتى ادعى الزمخشري أنها تفيد تأبيد النفي، فلا تطمع في رجوعنا عن الحق والإيثار والتفضيل، أي لن نفضلك على البينات، أي الدلالات الواضحات التي جاءتنا، وفي هذا إشارة إلى أن ما عنده باطل وأوهام، وكيف نفضل الأوهام على الدليل والبرهان؟! وقوله تعالى: (وَالَّذِي فَطَرَنَا) عطف على (مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَات)، والذي فطرنا هو الله، يعني لن نؤثرك على الحق الواضح، ولن نؤترك على الله تعالى جل جلاله فهو القادر على كل شيء، فلن نؤثر الضعيف الظاهر على الله القادر العادل القهار، ويجوز أن يكون
صفحة رقم 4753
قوله: (وَالَّذِي فَطَرَنَا)، أي أنشأنا ولم نكن شيئا، الواو للقسم لا للعطف، والمعنى لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والله الذي أنشأنا من عدم، فمن تكون أنت أيها المخلوق الضعيف، ولو كنت فرعون الطاغي المتجبر بصلفك وعتوِّك؟! وقد رتبوا على عزمتهم النابعة من قلوب مؤمنة تفويضهم الأمور إلى ربهم والاستهانة بفرعون وبتهديده فقالوا (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ) " ما " إن كانت موصولا حرفيا يكون المعنى فاقض قضاءك، لأنه قضاء الحياة الدنيا وهي فانية، والآخرة هي الباقية، ويصح أن تكون موصولا اسميا بمعنى فاقض الذي أنت قاض، ويكون الرابط في الصلة ضمير فاقض ما أنت قاضيه.
وقالوا ما يدل على الاستهانة بحكمه القاصر (إِنما تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) هذه الحياة الدنيا ظرف، فتقدم في الكلام، والمعنى: إن قضاءك هو في هذه الحياة الدنيا، وما موصول حرفي، وإذا قضاؤك هو في هذه الحياة، فهو قضاء تنفيذه وقت قصير ومن بعده خير طويل، فإنما الحياة الدنيا متاع قليل والآخرة خير وأبقى، وإن هذا يدل على كمال الإيمان بالله، والاستهانة بفرعون وعذابه.
أول أمارات الإيمان الراسخ الإحساس بالتقصير والإذعان لله تعالى، وهذا أمر أولئك المؤمنين الذين كانوا من قبل ساحرين، قالوا مؤكدين إيمانهم ومؤنبين فرعون وشيعته: