المختفي لأنه يستخرج أكفان الموتى وأخفيت الشيء أخفيه إخفاء إذا سترته قال الله عز وجل: «أَكادُ أُخْفِيها» وهي قراءة العامة أي أظهرها وقال أبو عبيدة: أخفيت الشيء كتمته وأظهرته ويقال دعوت الله خفية وخفية أي في خفض.
مجموعة من الاضداد في اللغة:
هذا ومن الاضداد الجلل للعظيم وللهين فمن الأول قول الشاعر:
ولئن عفوت لا عفون جللا... ولئن سطوت لأوهننّ عظمي
ومن الثاني قول امرئ القيس لما قتل أبوه:
بقتل بني أسد ربهم... ألا كل شيء سواه جلل
ومنها: غابر للذاهب والآتي، والجون للأبيض والأسود والبين للبعد والقرب، والصريم: الليل والنهار، والناصع الأبيض والأسود، والأمم للعظيم واليسير، والناهل للريان والظمآن، ووراء بمعنى قدام وخلف، وبعت الشيء إذا بعته من غيرك وبعته اشتريته، وشعبت الشيء:
أصلحته وشققته، والصارخ للمستغيث والمغيث، والهاجد للمصلي بالليل والنائم، والوهدة: الارتفاع والانحدار، والتعزير للاكرام والاهانة، والتقريظ للمدح والذم، وترب للغني والفقير، والاهماد للسرعة في السير والاقامة، وعسعس: إذا أقبل وإذا أدبر، والقرء للحيض والطهر.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
اللغة:
(أَهُشُّ) : في المصباح: هشّ الرجل هشّا من باب رد: صال بعصاه وفي التنزيل «وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي» وهش الشجرة هشا ضربها ليتساقط ورقها وهش الشيء يهش من باب تعب هشاشة لان واسترخى فهو هش وهش العود يهشّ أيضا هشوشا صار هشا سريع الكسر وهش الرجل هشاشة إذا ابتسم من بابي تعب وضرب.
(جَناحِكَ) : سيأتي تفسيرها في باب البلاغة.
الإعراب:
(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) الواو عاطفة وما اسم استفهام للتقرير مبتدأ وتلك خبره وبيمينك متعلق بمحذوف حال وهي تشبه قوله تعالى «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» والعامل في الحال المقدرة اسم الاشارة ويا موسى نداء فما اسم نكرة في موضع رفع بالابتداء والتقدير أي شيء تلك بيمينك وهي مبنية لتضمنها همزة الاستفهام وإنما جيء بها لضرب من الاختصار وذلك أنك إذا قلت ما بيدك فكأنك قلت: أعصا بيدك أم سيف أم خنجر ونحو ذلك مما يكون بيده وليس عليه إجابتك
عما بيده إذا لم تأت على المقصود فجاءوا بما وهو اسم واقع على جميع مالا يعقل مبهم فيه وضمنوه همزة الاستفهام فاقتضى الجواب من أول وهلة فكان فيه من الإيجاز ما ترى. (قالَ: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) هي مبتدأ وعصاي خبره وجملة أتوكأ عليها حالية وقيل مستأنفة وأهش بها على غنمي عطف على أتوكأ عليها وبها متعلقان بأهش وكذلك على غنمي وتعدية أهش بعلى يفيد معنى التهويل والتخويف للغنم. (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) هذا هو الجواب الرابع الذي أجاب به موسى عن سؤال واحد وسيأتي سر ذلك في باب البلاغة ولي خبر مقدم وفيها حال ومآرب جمع مأربة بتثليث الراء مبتدأ مؤخر وأخرى صفة لمآرب، وهذه المآرب الأخرى سيرد قسم كبير منها في باب البلاغة كما يرد تلخيص مفيد لكتاب العصا للجاحظ. (قالَ: أَلْقِها يا مُوسى) جملة ألقها مقول القول ويا موسى نداء. (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ألقاها فعل وفاعل ومفعول به والفاء عاطفة وإذا للمفاجأة وهل هي ظرف أم حرف؟ تقدم بحث ذلك مفصلا، وهي مبتدأ وحية خبر وجملة تسعى حال أو خبر ثان وقد تقدم ذكر المسألة الزنبورية بين سيبويه والكسائي. (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) جملة خذها مقول القول والواو حرف عطف ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والسين حرف استقبال ونعيدها فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره نحن وسيرتها منصوب بنزع الخافض أي الى سيرتها وهذا أسهل الأعاريب وقيل هي ظرف قالوا «السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت الى معنى المذهب والطريقة وقيل سير الأولين فنصبت على الظرف أي سنعيدها في طريقتها الأولى» وأجاز آخرون كأبي البقاء وبه بدأ أن تكون بدل اشتمال من ضمير المفعول لأن معنى سيرتها صفتها وطريقتها
صفحة رقم 175
وأتي الزمخشري بإعراب آخر مهد له وحسنه قال «ووجه ثالث حسن وهو أن يكون سنعيدها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أولا ونصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى» والأولى صفة لسيرتها على كل حال. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) واضمم عطف على ألقها ويدك مفعول به والفاعل مستتر تقديره أنت والى جناحك جار ومجرور متعقان باضمم وتخرج جزم لأنه جواب الطلب وبيضاء حال ومن غير سوء متعلقان ببيضاء لما فيها من معنى الفعل نحو ابيضت من غير سوء وليكون الاحتراس كاملا كما سيأتي في باب البلاغة أو متعلقان بتخرج وآية حال ثانية من فاعل تخرج أيضا وأخرى صفة لآية واختار الزمخشري وجها آخر لنصب آية وهو «بإضمار نحو خذأ ودونك وما أشبه ذلك» ولا نرى داعيا لذلك. (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) اللام للتعليل ونريك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وهو تعليل لمحذوف متعلق به أي أمرناك بما ذكرنا لنريك بها أي بيدك ومن آياتنا متعلقان بمحذوف على أنه حال من الكبرى وتكون الكبرى على هذا مفعولا ثانيا لنريك أو صفة للمفعول الثاني على الأصح والتقدير لنريك الآية الكبرى من آياتنا أي حال كونها من آياتنا وقيل غير ذلك وما ذكرناه أولى فلا داعي لذكره.
البلاغة:
قد تستوعب هذه الآية أجلادا ضخمة لما انطوت عليه من ضروب البلاغة وذلك ما نهدف اليه من كتابنا، ولكننا سنجتزئ بقدر الإمكان فنقول:
١- فن التلفيف:
في قوله تعالى «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» الى آخر ما أجاب به موسى صلوات الله عليه من الاجوبة الاربعة فن طريف لم يرد ذكره حتى الآن وهو فن التلفيف، وحدّه إخراج الكلم مخرج التعليم بحكم أو أدب لم يرد المتكلم ذكره وانما قصد ذكر حكم خاص داخل في عموم الحكم المذكور الذي صرح بتعليمه. وهذا التعريف المطول نعتقد أنه يحتاج الى بيان وهو أن يسأل السائل عن حكم هو نوع من أنواع جنس تدعو الحاجة الى بيانها كلها أو أكثرها فيعدل المسئول عن الجواب الخاص عما سئل عنه من تبيين ذلك النوع ويجيب بجواب عام يتضمن الإبانة على الحكم المسئول عنه وعن غيره بدعاء الحاجة الى بيانه فقول موسى جوابا عن سؤال الله تعالى له «هِيَ عَصايَ»
هو الجواب الحقيقي للسؤال ثم قال: «أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى» فأجاب عن سؤال مقدر كأنه توهم أن يقال له: وما تفعل بها؟ فقال معددا منافعها ولم يقع ذلك من موسى عليه السلام إلا لأمور ثلاثة:
آ- بغية الشكر لله تعالى الذي رزقه تلك العصا التي وجد فيها من المآرب ما لا يوجد في مثلها.
ب- ان المقام مقام خطاب الحبيب وهو يقتضي البسط والإسهاب.
ح- تعظيم مساءلة ربه له عن منافعها فابتدأه بالجواب عن السؤال المقدر قبل وقوعه أدبا مع ربه.
والواقع أن السؤال إذا كان واردا على شيء ظاهر فذلك السؤال إنما يتوجه الى أمر يتعلق به بحسب مقتضى الحال وإلا كان عبثا لظهوره
كما إذا سألت شخصا عن لبس ثياب السفر بقولك: ما هذا الثوب؟
فإنك لا تسأل عن نفس الثوب وما هيته بل إنما سألت عن سبب لبسه فكأنك قلت: ما سبب عزيمتك؟ فجواب اللابس حينئذ أن يقول:
أريد سفر كذا ولو أجاب بأنه كتان مثلا عدّ لاغيا فكذلك هاهنا لما كان السؤال عن أمر ظاهر فيكون متوجها الى ما يتعلق بالعصا من منافعها فكأنه قال: ما تفعل بما في يمينك با موسى؟ فلذلك قال: هي عصاي أتوكأ عليها... الآية فإن قلت: لو كان قوله تعالى: وما تلك بيمينك سؤالا عما لا يتعلق بالعصا فكان حقّ الجواب أن بقول: أريد أن أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولكان قوله: هي عصاي ضائعا غير مطابق للسؤال كما في السؤال عن نبس السفر.
قلت: هذا السؤال وإن كان عما يتعلق بالعصا لكنه تعالى لما علم أنه سيرد عليها الصورة الثعبانية عند سحر السحرة وكان ذلك مقام أن يخاف موسى بمشاهدة الصورة المنكرة التي ليس يعهدها فأراد تثبيت ماهيتها وعوارضها في نفسه لئلا يدهش عند ورودها عليه فلذلك قال: ما تلك ليجيب عن ماهيتها أيضا كما يجيب عن منافعها لزيادة التثبيت فحاصل معنى الجواب حينئذ هي عصاي أعرفها بالذات والعوارض وإن صورتها مقررة في نفسي لا تنفع إلا منافع أمثالها فإني قديما أتوكأ عليها وأهش بها على عنمي ولي فيها مآرب أخرى.
واختار «تلك» مع قرب المشار اليه إما لتحقيره بالنسبة الى جناب كبريائه أو للتعظيم لاشتمالها على الأمور العجيبة والمنافع الكثيرة.
٢- التقرير:
وفيها أيضا التقرير وهو بالاستفهام فإنه سبحانه عالم بما بيمينه وإنما أراد أن يقر موسى ويعترف بكونها عصا ويزداد علمه بما يمنحه الله
في عصاه فلا يعتريه شك إذا قلبها الله ثعبانا بل يعرف أن ذلك كائن بقدرة الله وانه هين عليه يسير.
عصا موسى وما فيها من أقوال:
هذا وقد صنف الجاحظ كتابا سماه كتاب العصا وهو جزيل الفائدة ونورد فيما يلي أضاميم منه، فقد جمع الله لموسى بن عمران في عصاه من البرهانات العظام والعلامات الجسام ما عسى أن يفي ذلك بعلامات عدة من المرسلين قال الله تبارك وتعالى فيما يذكر في عصاه:
«إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما» الى قوله «ولا يفلح الساحر حيث أتى» فلذلك قال الحسن بن هانئ- أبو نواس- في شأن خصيب وأهل مصر حين اضطربوا عليه:
منحتكم يا أهل مصر نصيحتي | ألا فخذوا من ناصح بنصيب |
ولا تثبوا وثب السفاه فتركبوا | على حد حامي الظهر غير ركوب |
فإن يك باق إفك فرعون فيكم | فإن عصا موسى بكف خصيب |
رماكم أمير المؤمنين بحية | أكول لحيات البلاد شروب |
وزعمتم أن لا حلوم لنا | إن العصا قرعت لذي الحلم |
فإن كنت أنساني حلوم مجاشع | فإن العصا كانت لذي الحلم تقرع |
قلت: هذا ما رواه الجاحظ بصدد قرع العصا، وليس هذا القول حاسما ففي أول من قرعت له العصا خلاف طويل فقيل هو عامر صفحة رقم 180
ابن الظرب كما ذكر الجاحظ وقيل هو قيس بن خالد ذو الجدين وقيل هو عمرو بن حممة الدوسي ولكن الأشهر ما رواه الجاحظ.
وذكر العصا عندهم يجري في معان كثيرة تقول العرب: «العصا من العصية، والأفعى بنت حية» تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير، ويقال: طارت عصا فلان شققا ويقال: فلان شق عصا المسلمين ولا يقال شق ثوبا ولا غير ذلك مما يقع عليه اسم الشق وقال المضرّس الأسدي:
وألقت عصاها واستقر بها النوى | كما قر عينا بالإياب المسافر |
فمن مبلغ رأس العصا أن بيننا | ضغائن لا تنسى وإن قدم الدهر |
رؤوس عصي كنّ من عود أثلة | لها قادح يفري وآخر مخرب |
أحلف بالمروة حقا والصفا | أنك خير من تفاريق العصا |
وسئل عن قوله «ولي فيها مآرب أخرى» قال: لست أحيط بجميع مآرب موسى عليه السلام ولكني سأنبئكم جملا تدخل في باب الحاجة الى العصا من ذلك: انها تحمل للحية والعقرب والذئب والفحل الهائج ولعير العانة في زمن هيج الفحول وكذلك فحول الجحور في المروج ويتوكأ عليها الكبير الدانف والسقيم المدنف والأقطع الرجل والأعرج فإنها تقوم مقام رجل أخرى، وقال أعرابي مقطوع الرجل:
الله يعلم أني من رجالهم | وإن تخدّد عن متنيّ أطماري |
وإن رزئت يدا كانت تجمّلني | وإن مشيت على زج ومسمار |
الشوط وبعدت الغاية استعانا في حضرهما وهرولتهما في أضعاف ذلك بالاعتماد على وجه الأرض وهي تعدل من ميل المفلوج وتقيم من ارتعاش المبرسم (المصاب بمرض البرسام) ويتخذها الراعي لغنمه، وكل راكب لمركبه، ويدخل عصاه في عروة المزود ويمسك بيده الطرف الآخر وربما كان أحد طرفيها بيد رجل والطرف الآخر بيد صاحبه وعليها حمل ثقيل، وتكون- إن شئت- وتدا في حائط وإن شئت ركزتها في الفضاء وجعلتها قبلة وإن شئت جعلتها مظلة وإن جعلت فيها زجا كانت عنزة وإن زدت فيها شيئا كانت عكازا، وإن زدت فيها شيئا كانت مطردا وإن زدت فيها شيئا كانت رمحا، والعصا تكون سوطا وسلاحا.
ونجتزئ بما تقدم من كتاب الجاحظ ونعود الى مآرب موسى فقد ذكر في الكشاف «وقيل في المآرب كانت ذا شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غمه».
٣- الاستعارة المكنية:
في قوله «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ» الجناح معروف وقيل لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر، وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلها والمراد الى جنبك تحت العضد دل على ذلك قوله تخرج.