
ومن أعرض عن ذكرى وسلك سبيل الغواية والشيطان، فإن له معيشة ضنكا، معيشة تعب وألم فهو دائما في تعب ونصب إن أعطى مالا هو مستقله ويطلب المزيد منه مهما كان، وإن حرم منه فهو غير راض عن ربه فهو في الحالين في عيشة تعسة وحياة منغصة.
أما يوم القيامة فسيحشره أعمى عن درجات السعادة، وأعمى عن طرق النجاة فسيتردى في جهنم وبئس القرار.
قال: ربّ لم حشرتني أعمى؟ وقد كنت بصيرا، قال: ليس العمى الذي أنت فيه الآن عمى البصر، ولم تكن في الدنيا بصير القلب بل كنت أعمى البصيرة أتتك آياتنا على لسان رسلنا فنسيتها، وأهملتها، ولم تر بقلبك فيها نورا ولا هداية، وكذلك اليوم تنسى وتهمل في عذاب النار.
ومثل ذلك نجزى من أسرف على نفسه، وانهمك في الشهوات والبعد عن آيات القرآن ولم يؤمن بها الإيمان الصحيح.
وأقسم لعذاب الآخرة وأهوالها أشد وأنكى من عذاب الدنيا، لأنه دائم لا ينقطع وهم فيها خالدون.
عبر ونصائح [سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٥]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)

المفردات:
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ هدى كاهتدى بمعنى تبين الْقُرُونِ الأمم آناءِ جمع إنى بمعنى وقت وَلا تَمُدَّنَّ المراد: لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل أَزْواجاً أصنافا زَهْرَةَ الْحَياةِ زينتها وبهجتها بَيِّنَةُ بيان ما في الكتب السابقة نَذِلَّ بعذاب الدنيا، وَنَخْزى بعذاب الآخرة مُتَرَبِّصٌ منتظر ما يؤول إليه الأمر.
المعنى:
أغفل هؤلاء المكذبون للنبي الكافرون برسالته فلم يتبين لهم خبر من أهلكناهم من الأمم السابقة؟ حالة كونهم يمشون في مساكنهم التي أصبحت خاوية على عروشها وحتى لم يبق من عاد وثمود، وأصحاب الأيكة وقوم لوط أثر ولا عين فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [سورة النمل آية ٥٢].
إن في ذلك لآيات واضحات ولكن لأولى النهى والعقل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج آية ٤٦].

ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير العذاب عنهم، وأجل مضروب ومسمى عند الله لكان إهلاكهم لأجل تكذيبهم لك لازما لهم فورا، ولهذا فاصبر على ما يقولون، وسبح بحمد ربك، وصل لربك حامدا له ومستغفرا قبل طلوع الشمس كصلاة الفجر وقبل الغروب كصلاة الظهر والعصر وبعض الليل فسبحه فيه عند صلاة المغرب والعشاء وفي قيام الليل، وعليك بالصلاة خصوصا عند أطراف النهار وعند طلوع الشمس وعند الغروب لعلك أيها المخاطب ترضى بالجزاء الوافر.
أما علاج تكذيب المكذبين، وعناد المشركين، وإيلام الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بالصبر والسلوان فهذا أمر ظاهر المعنى بين الحكمة وأما العلاج بالتسبيح والاستغفار والصلاة والتكبير فهذا دليل على تأثير الروح في النطاق الجسمى إذ الصلاة والتسبيح غذاء للروح قوى، وإذا قويت الروح كان الإحساس بالتعب الجسمى، وبالألم البدني قليلا بل يكاد ينعدم، ولقد كنا نقرأ حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول لفاطمة ابنته: وقد شكت له ما تجد من مشقة (الرحا) حين تديرها لطحن طعامها وطعام بنيها ما معناه:
إذا أويت إلى فراشك فقولي: (سبحان الله والحمد لله. والله أكبر ثلاثا وثلاثين) قالت فاطمة: فلم أجد بعد ذلك ما كنت أجد من مشقة أو أذى.
فما علاقة التعب الجسماني بالتسبيح والتحميد والتكبير؟!! ولكن ظهر أن هذا للروح والروح إذا قويت لم يشعر الجسم بالتعب، ولقد صدق الله حيث يقول:
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها الآية.
وهذا إرشاد آخر، ونصح للنبي صلّى الله عليه وسلّم ونحن أولى به باتباعه، ولا تطيلن النظر إلى ما متعنا به أصنافا من الناس، فتلك زهرة الحياة الدنيا وزينتها وبهجتها، والمعنى: لا تنظر متعجبا طالبا مثله فإنما أعطيناهم لنفتنهم فيه ونبلوهم به، ورحمة ربك في الآخرة خير من هذا كله وأبقى.
وليست الآية تأمرنا بالكسل وعدم العمل، ولكنها تنهانا فقط عن أن نتمنى مثل ما في يد الكفار والعصاة من حطام الدنيا الفاني، والواجب أننا لا نجعل الدنيا أكبر همنا، ونترك الآخرة بالمرة بل نعمل للآخرة مؤثرين رضاء الله وطاعته ولا ننسى نصيبنا

من الدنيا ولا نحزن على فواتها، ولا نفرح لمجيئها
«اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا».
وهاك نصحا آخر: وأمر أهلك من أقاربك وأصحابك وأصدقائك بالصلاة، وحببهم فيها، وعلمهم الصبر عليها، واستعينوا بها على قضاء حوائجكم، وفك أزماتكم «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر- أى: وقع في شدة- هم إلى الصلاة» حديث شريف.
كانوا يكثرون من اقتراح الآيات على النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنهم لم يقنعوا بما في يد النبي صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات. وخصوصا القرآن الكريم المعجزة الباقية.
وقالوا عنادا وكفرا: لولا يأتينا بآية من ربه كالعصا والناقة مثلا!! أعموا ولم يأتهم بيان ما في الكتب السابقة، ولقد جاءهم هذا كله في القرآن المهيمن على الكتب السابقة المصدق لها، وفيها أن الأقوام السابقة طلبوا آيات فأجيبوا بها ولم يؤمنوا لها فأهلكهم ربهم بعذاب من عنده.
وكيف يطلبون الآية بعد هذا القرآن الجامع الشامل الذي فصل كل شيء تفصيلا وما فرط في شيء أبدا، بل فيه كل الصحف السابقة وزيادة.
ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبل نزوله على يد المصطفى لقالوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونؤمن بها من قبل أن نذل في الدنيا ونعذب في الآخرة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء آية ١٦٥].
قل لهم كل منا ومنكم متربص ومنتظر ما يؤول إليه الأمر، وعند ذلك فستعلمون من أصحاب الصراط السوى والطريق المستقيم، ومن هو على الهدى ومن هو على الضلال؟!!! ولقد علموا نهاية أمرهم، وعاقبة كفرهم..