آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ
ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ

قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ الآية. أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات، دالاّت على نبوّتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فأطلع الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد ﷺ، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه، ولم يدعها إلى هلاكها الحسدُ والبغيُ. عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا القطويني لرسول الله ﷺ : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله في ذلك :﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون ﴾. وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله ﷺ وذكَّرهم ما أُخذ عليهم من الميثاق، وما عُهد إليهم في محمد ﷺ : والله ما عهد إلينا في محمد، وما أُخذ علينا ميثاقٌ، فأنزل الله تعالى :﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾، وقال الحسن البصري في قوله :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ قال : نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غداً، وقال السدي : لا يؤمنون بما جاء به محمد ﷺ، وقال قتادة :﴿ نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾ أي نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير : أصل النبذ الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذاً، ومنه سمي النبيذ - وهو التمر والزبيب - إذا طرحا في الماء، قال أبو الأسود الدؤلي :

نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه كنبذك نعلاً أخلقتْ من نعالكا
قلت : فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته كما قال تعالى :﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] وقال هاهنا :﴿ وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ الآية، أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد ﷺ وراء ظهورهم، أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها وأقبلوا على تعلم السحر واتّباعه، ولهذا أرادوا كيداً برسول الله ﷺ وسحروه في مُشْط ومُشَاقه وجُفّ طلعة ذَكَرٍ تحت راعوفة ببئر أروان، وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له ( لبيد بن الأعصم ) لعنه الله وقبحه، فأطلع الله على ذلك رسوله ﷺ وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطاً في الصحيحين كما سيأتي بيانه.

صفحة رقم 105

قال السدي :﴿ وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ قال : لما جاءهم محمد ﷺ عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن، فذلك قوله :﴿ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ وقال قتادة في قوله :﴿ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ قال : إن القوم كانوا يعلمون ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به. عن ابن عباس قال : كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال : فأكفره جهال الناس وسبُّوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبُّونه حتى أنزل الله على محمد ﷺ :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ ﴾. وقال السدي في قوله تعالى :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ أي على عهد سليمان، قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنوا من الكرسي إلا احترق، وقال : لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً، قالوا : نعم، قال : فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم ذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنوا إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد ﷺ خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى :﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ ﴾. وقال سعيد بن جبير : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم : أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخّر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا : نعم، قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه، فاستخرجوه وعملوا به، فأنزل الله تعالى على نبيه محمد ﷺ براءة سليمان عليه السلام، فقال تعالى :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ ﴾.

صفحة رقم 106

لما ذكر رسول الله ﷺ فيما نزل عليه من الله ( سليمان بن داود ) وعدَّه فيمن عد من المرسلين، قال مَن كان بالمدينة من اليهود : ألا تعجبون من محمد؟ يزعم أن ابن داود كان نبياً والله ما كان إلا ساحراً وأنزل الله :﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ ﴾ الآية.
وروي أنه لما مات سليمان عليه السلام قام إبليس - لعنه الله - خطيباً فقال : يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبياً إنما كان ساحراً فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحراً، هذا سحرهُ بهذا تعبَّدنا وبهذا قهرنا، فقال المؤمنون : بل كان نبياً مؤمناً. فلما بعث الله النبي محمداً ﷺ وذكر داود وسليمان، فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحراً يركب الريح، فأنزل الله تعالى :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾ الآية. فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام.
وقوله تعالى :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله ﷺ ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان، وعدّاه بعلى لأنه تضمن ﴿ تَتْلُواْ ﴾ تكذب، وقال ابن جرير :﴿ على ﴾ هاهنا بمعنى في، أي تتلو في ملك سليمان، ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق ( قلت ) : والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم. وقول الحسن البصري رحمه الله :- وكان السحر قبل زمن سليمان - صحيحٌ لا شك فيه، لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى ﴾ [ البقرة : ٢٤٦ ] الآية ثم ذكر القصة بعدها، وفيها :﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ]. وقال قوم صالح - وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام - لنبيهم صالح إنما ﴿ أَنتَ مِنَ المسحرين ﴾ [ الشعراء : ١٥٣ ] أي المسحورين على المشهور، وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ ﴾ اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن « ما » نافية أعني التي في قوله :﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين ﴾.

صفحة رقم 107

قال القرطبي :« ما » نافية ومعطوف على قوله ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾، ثم قال :﴿ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين ﴾، وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله وجعل قوله :﴿ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ بدلاً من الشياطين، قال : وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى :﴿ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ﴾ [ النساء : ١١ ] أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما. تقدير الكلام عنده : يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ثم قال : وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه، وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ ﴾ الآية. يقول : لم ينزل الله السحر، وبإسناده عن الربيع بن أنَس في قوله :﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين ﴾ قال : ما أنزل الله عليهما السحر. قال ابن جرير. فتأويل الآية على هذا « واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان » من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. فيكون قوله :﴿ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ من المؤخر الذي معناه المقدم. قال : فإن قال لنا قائل : كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال :« واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل. هاروت وماروت » فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام، لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيّه محمداً ﷺ أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما ( هاروت ) واسم الآخر ( ماروت ) فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم. ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول وإن ( ما ) بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بيَّن لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً، وأغرب منه قوله من زعم أن ﴿ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم.
وقد روي في قصة ( هاروت ) و ( ماروت ) عن جماعة من التابعين كمجاهد، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم وقصَّها خلق من المفسِّرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.

صفحة رقم 108

وقوله تعالى :﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾، عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي اراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهم الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وقال قتادة : كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة : أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال ابن جريج في هذه الآية : لا يجترىء على السحر إلا كافر. وأما الفتنة فيه المحنة والاختبار ومنه قول الشاعر :

وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شراً طويلاً
وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ] أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الصحيح :« من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ »، وقوله تعالى :﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ ﴾ أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر، ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف، وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ قال :« إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئاً! ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرّقت بينه وبين أهله، قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول : نعم أنت » وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ قال سفيان الثوري : إلا بقضاء الله، وقال الحسن البصري : من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله.

صفحة رقم 109

وقوله تعالى :﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ ﴾ أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول ﷺ لمن فعل فعلهم ذلك، أنه ما له في الآخرة من خلاق، قال ابن عباس من نصيب، ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ يقول تعالى ﴿ وَلَبِئْسَ ﴾ البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول، لو كان لهم علم بما وعظوا به ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ ﴾ أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم، لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى :﴿ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون ﴾ [ القصص : ٨٠ ].
وقد استدل بقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا ﴾ من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل وطائفة من السلف، وقيل : بل لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول؛ كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال : فقتلنا ثلاث سواحر. وصح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت، قال الإمام أحمد ابن حنبل : صح عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ في قتل الساحر، وروى الترمذي عن جندب الأزدي أنه قال : قال رسول الله ﷺ :« حد الساحر ضربه بالسيف » وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عُقْبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس : سبحان الله يحيي الموتى!! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه، وذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال : إنْ كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى :﴿ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣ ] فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم. وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً، والله أعلم.

فصل


حكى الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال : وربما كفَّروا من اعتقد وجوده، وأما أهل السنّة فقد جوّزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، إلا أنهم قالوا : إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا، خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة، ثم استُدل على وقوع السحر، وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى :﴿ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾.

صفحة رقم 110

ومن الأخبار بأن رسول الله ﷺ سُحِرَ وأن السحر عمل فيه، وبقصة المرأة مع عائشة رضي الله عنها، وما ذكرت من إتيانها بابل وتعلمها السحر.
ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية ( الأول ) : سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة وهي السيارة وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل ﷺ مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذهبهم.
( والنوع الثاني ) : سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام، وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق لما ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال :« العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ». ( والنوع الثالث ) من السحر : الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافاً للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين : مؤمنون، وكفار وهم الشياطين، قال : واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الإتصال بهذه الأرواح الأرضيه يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.
( النوع الرابع ) من السحر : التخيلات والأخذ بالعيون، والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه، عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة، وحينئذٍ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه، فيتعجبون منه جداً، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله.
( قلت ) وقد قال بعض المفسِّرين : إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب بالشعبذة ولهذا قال تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [ الأعراف : ١١٦ ]، وقال تعالى :﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى ﴾ [ طه : ٦٦ ] قالوا : ولم تكن تسعى في نفس الأمر، والله أعلم.
( النوع الخامس ) من السحر : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية إلى أن قال : فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل، قال : وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل، ( قلت ) يعني ما قاله بعض المفسرين : إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها، ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطعام منهم، وأما الخواص فهم معترفون بذلك ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغاً لهم.

صفحة رقم 111

( النوع السادس ) من السحر : الاستعانة بخواص الأدوية في الأطعمة والدهانات، قال : واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن تأثير المغناطيس مشاهد. ( قلت ) يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص، مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات.
( النوع السابع ) من السحر : التعليق للقلب، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك، وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخالفة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة، فحينئذٍ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. ( قلت ) : هذا النمط يقال له التَنْبلة وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم، وفي عِلْم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان النبيل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.
( النوع الثامن ) من السحر : السعي بالنميمة من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس ( قلت ) : النميمة على قسمين : تارةً تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين، أو على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة؛ فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث :« الحرب خدعة »، وإنما يحذوا على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة والله المستعان.
ثم قال الرازي فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه، ( قلت ) : وإنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث :« إن من البيان لسحراً »، وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل، والسَّحْرُ : الرئة، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : انتفخ سَحْره، أي انتفخت رئته من الخوف، وقالت عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله ﷺ بين سَحْري ونحري.

صفحة رقم 112

وقال القرطبي : وعندنا أن السحر حق، وله حقيقة، يخلق الله عنده ما يشاء، خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الاسفرايني من الشافعية حيث قالوا : إنه تمويه وتخيل، قال : ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك، قال : وقوله عليه السلام :« إن من البيان لسحراً » يحتمل أن يكون مدحاً كما تقوله طائفة، ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة، قال : وهذا أصح، قال : لأنها تصوّب الباطل حتى توهم السامع أنه حق، كما قال ﷺ :« فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له » الحديث.

فصل


واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يكفر بذلك ومن أصحاب أبي حنيفة من قال إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي رحمه الله : إذا تعلم السحر قلنا له : صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر. فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند ( مالك والشافعي وأحمد ) وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإنه قال : يقتل والحالة هذه قصاصاً، قال : وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم : لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأُخرى تقبل، وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي : لا يقتل لقصة ( لبيد بن الأعصم )، واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس، وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل والله أعلم.
مسألة
وهل يسأل الساحر حلاً لسحره؟ فأجازه سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري، وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله هلا تنشرت، فقال :« أمَّا الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شراً ». وحكى القرطبي عن وهب : أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر، فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء، ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته. ( قلت ) : أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان، وفي الحديث :« لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما » وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان.

صفحة رقم 113
تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد نسيب بن عبد الرزاق بن محيي الدين الرفاعي الحلبي
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية