آيات من القرآن الكريم

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ

حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كونوا قردة خاسئين) قال: صاغرين.
١١٤٦ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله.
١١٤٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١١٤٨ - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (خاسئين)، قال: صاغرين.
١١٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (كونوا قردة خاسئين)، أي أذلة صاغرين.
١١٥٠ - وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: خاسئا، يعني ذليلا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل"الهاء والألف" في قوله: (فجعلناها)، وعلام هي عائدة؟ فروي عن ابن عباس فيها قولان: أحدهما ما:-
١١٥١ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (فجعلناها) فجعلنا تلك العقوبة -وهي المسخة-"نكالا".
فالهاء والألف من قوله: (فجعلناها) -على قول ابن عباس هذا- كناية

صفحة رقم 175

عن"المسخة"، وهي"فعلة" مسخهم الله مسخة. (١)
فمعنى الكلام على هذا التأويل: فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين، فصاروا قردة ممسوخين، (فجعلناها)، فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم، (نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين).
* * *
والقول الآخر من قولي ابن عباس، ما:-
١١٥١ - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فجعلناها)، يعني الحيتان.
و"الهاء والألف" -على هذا القول- من ذكر الحيتان، ولم يجر لها ذكر. ولكن لما كان في الخبر دلالة، كني عن ذكرها. والدلالة على ذلك قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت).
* * *
وقال آخرون: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت. فـ "الهاء" و "الألف" -في قول هؤلاء- كناية عن قرية القوم الذين مسخوا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك فجعلنا القردة الذين مسخوا"نكالا لما بين يديها وما خلفها"، فجعلوا"الهاء والألف" كناية عن القردة.
* * *
وقال آخرون: (فجعلناها)، يعني به: فجعلنا الأمة التي اعتدت في السبت"نكالا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿نَكَالا﴾
و"النكال" مصدر من قول القائل: "نكَّل فلان بفلان تنكيلا ونكالا". وأصل "النكال"، العقوبة، كما قال عدي بن زيد العباد:
لا

(١) كأنه يريد أنه مصدر: كقولهم: رحمه الله رحمة، ولم يرد المرة، وسيدل على ذلك ما يقوله بعد سطرين.

صفحة رقم 176

يسخط الضليل ما يسع العبـ د ولا في نكاله تنكير (١)
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس:
١١٥٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (نكالا) يقول: عقوبة.
١١٥٣ - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فجعلناها نكالا)، أي عقوبة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:-
١١٥٤ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (لما بين يديها) يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي. (وما خلفها)، يقول: الذين كانوا بقوا معهم.
١١٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لما بين يدلها وما خلفها)، لما خلا لهم من الذنوب، (٢) (وما خلفها)، أي عبرة لمن بقي من الناس.
* * *
(١) لم أجد البيت في جميع المراجع التي ذكرت قصيدة عدي بن زيد التي كتبها إلى النعمان من محبسه. وقد أثبت البيت كما هو في النسخ السقيمة التي بقيت من تفسير الطبري، وظني أن يكون البيت:
لا يكُظ المليك ما يسع العبـ ـد ولا في نكاله تنكير
فلم يحسن الناسخ قراءة"يكظ" كتبها "يسخط"، ووضع مكان"المليك""الضليل" وكظه الأمر: بهظه وشق عليه. يقول للنعمان: أنت مليك قادر، فلا يبهظك ما يسع عبيدك من العفو عمن أساء واجترم، فإن عاقبت، فما في عقابك ما يستنكر، فأنت السيد المطاع النافذ أمرك في رعيتك صغيرهم وكبيرهم.
(٢) خلا: مضى وذهب وانقضى.

صفحة رقم 177

وقال آخرون بما:
١١٥٦ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)، أي من القرى.
* * *
وقال آخرون بما:-
١١٥٧ - حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال الله (فجعلناها نكالا لما بين يديها) -من ذنوب القوم- (وما خلفها)، أي للحيتان التي أصابوا.
١١٥٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لما بين يديها)، من ذنوبها، (وما خلفها)، من الحيتان.
١١٥٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (لما بين يديها)، ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به.
١١٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (نكالا لما بين يديها وما خلفها)، يقول:"بين يديها"، ما مضى من خطاياهم، (وما خلفها) خطاياهم التي هلكوا بها.
١١٦١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله - إلا أنه قال: (وما خلفها)، خطيئتهم التي هلكوا بها.
* * *
وقال آخرون بما:-
١١٦٢ - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) قال: أما"ما بين يديها" فما سلف من عملهم، (وما خلفها)، فمن كان بعدهم من الأمم، أن يعصوا فيصنع الله بهم مثل ذلك.
* * *

صفحة رقم 178

وقال آخرون بما:-
١١٦٣ - حدثني به ابن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله، (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)، يعني الحيتان، جعلها نكالا"لما بين يديها وما خلفها"، من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان، وما عملوا بعد الحيتان. فذلك قوله: (ما بين يديها وما خلفها).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، ما رواه الضحاك عن ابن عباس. وذلك لما وصفنا من أن"الهاء والألف" - في قوله: (فجعلناها نكالا) - بأن تكون من ذكر العقوبة والمسخة التي مسخها القوم، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها. من أجل أن الله جل ثناؤه إنما يحذر خلقه بأسه وسطوته، بذلك يخوفهم (١). وفي إبانته عز ذكره - بقوله: (نكالا) : أنه عنى به العقوبة التي أحلها بالقوم - ما يعلم أنه عنى بقوله: (فعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)، فجعلنا عقوبتنا التي أحللناها بهم عقوبة لما بين يديها وما خلفها - دون غيره من المعاني. وإذْ كانت "الهاء والألف" - بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها؛ فكذلك العائد في قوله: (لما بين يديها وما خلفها) من"الهاء والألف": أن يكون من ذكر"الهاء والألف" اللتين في قوله: (فجعلناها)، أولى من أن يكون من [ذكر] غيره. (٢)
فتأويل الكلام - إذْ كان الأمر على ما وصفنا -: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة منهم، بمسخنا إياهم وعقوبتنا لهم - (٣) ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم: أن يعمل بها عامل،

(١) في المطبوعة: "وبذلك يخوفهم"، ولعل الأجود ما أثبت.
(٢) ما بين القوسين زيادة لا بد منها في سياق الجملة.
(٣) في المطبوعة"مسخنا إياهم" بحذف حرف الجر، وهو غير مستقيم، وقوله: "ولما خلف عقوبتنا لهم" على قوله: "لما بين يديها... ".

صفحة رقم 179

فيمسخوا مثل ما مسخوا، وأن يحل بهم مثل الذي حل بهم، تحذيرا من الله تعالى ذكره عباده: أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتى الممسوخون، فيعاقبوا عقوبتهم.
وأما الذي قال في تأويل ذلك: (فجعلناها)، يعني الحيتان، عقوبة لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم - فإنه أبعد في الانتزاع. وذلك أن الحيتان لم يجر لها ذكر فيقال: (فجعلناها). فإن ظن ظان أن ذلك جائز - وإن لم يكن جرى للحيتان ذكر - لأن العرب قد تكني عن الاسم ولم يجر له ذكر، فإن ذلك وإن كان كذلك، فغير جائز أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب - والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنزيل - إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا خبر عن الرسول ﷺ منقول، (١) ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض.
وأما تأويل من تأول ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها، فينظر إلى تأويل من تأول ذلك: بما بين يدي الحيتان وما خلفها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَوْعِظَةً﴾
و"الموعظة"، مصدر من قول القائل:"وعظت الرجل أعظه وعظا وموعظة"، إذا ذكرته.
* * *
فتأويل الآية: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وتذكرة للمتقين، ليتعظوا بها، ويعتبروا، ويتذكروا بها، كما:-
١١٦٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا

(١) انظر تفسير"ظاهر" و"باطن" فيما سلف من هذا الجزء ٢: ١٥ والمراجع.

صفحة رقم 180

بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وموعظة) يقول: وتذكرة وعبرة للمتقين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) ﴾
وأما"المتقون"، فهم الذين اتقوا، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، كما:-
١١٦٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وموعظة للمتقين)، يقول: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي.
* * *
فجعل تعالى ذكره ما أحل بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته، موعظة للمتقين خاصة، وعبرة للمؤمنين، دون الكافرين به - إلى يوم القيامة -، كالذي:-
١١٦٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس في قوله: (وموعظة للمتقين)، إلى يوم القيامة.
١١٦٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وموعظة للمتقين)، أي: بعدهم.
١١٦٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
١١٦٩ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"موعظة للمتقين"، فهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
١١٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وموعظة للمتقين)، قال: فكانت موعظة للمتقين خاصة.

صفحة رقم 181
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية