آيات من القرآن الكريم

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﰿ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ

المشاهدين «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وهل ذلك إلا الكشف التام عن الذات الأقدس.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم وأضاعوها ووضعوها في غير موضعها اللائق بها قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ابتغاء للحظوظ الفانية والشهوات الدنية. فَأَنْزَلْنا على الظالمين خاصة، عذابا وظلمة وضيقا في سجن الطبيعة واسرا في وثاق التمني وقيد الهوى وحرمانا، وذلا بمحبة الماديات السفلية، والاعراض عن هاتيك التجليات العلية، وذلك من جهة قهر سماء الروح، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة القلب الذي لا يأمر إلا بالهدى كما ورد في الأثر استفت قلبك وإن أفتاك المفتون إلى طاعة النفس الأمارة بالسوء. وهذا هو البلاء العظيم، والخطب الجسيم.

صفحة رقم 270

وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها- وكان ذلك في التيه لما عطشوا- ففي بعض الآثار أنهم قالوا فيه: من لنا بحر الشمس- فظلل عليهم الغمام- وقالوا: من لنا بالطعام- فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى- وقالوا: من لنا بالماء- فأمر موسى بضرب الحجر- وتغيير الترتيب لقصد إبراز كل من الأمور المعدود في معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر، ولو روعي الترتيب الوقوعي لفهم أن الكل أمر واحد- أمر بذكره- والاستسقاء- طلب- السقيا- عند عدم الماء أو قلته. قيل: ومفعول- استسقى- محذوف أي- ربه- أو- ماء- وقد تعدى هذا الفعل في الفصيح إلى- المستسقى منه تارة- وإلى- المستسقي أخرى- كما في قوله تعالى: إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ [الأعراف: ١٦٠] وقوله:

من كان يرغب في السلامة فليكن أبدا من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنك بالفتور فإنه نظر يضر بقلبك استلذاذه
إياك من طمع المنى فعزيزه كذليله، وغنيه وشحاذه
وأبيض- يستسقى- الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وتعديته إليهما مثل أن تقول:- استسقى زيد ربه الماء- لم نجدها في شيء من كلام العرب- واللام- متعلقة بالفعل، وهي سببية أي لأجل قومه فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ أي فأجبناه فَقُلْنَا إلخ- والعصا- مؤنث- والألف منقلبة عن- واو- بدليل عصوان وعصوته- أي ضربته بالعصا- ويجمع على أفعل شذوذا وعلى فعول قياسا، فيقال: أعص وعصي، وتتبع حركة- العين- حركة- الصاد- والْحَجَرَ هو هذا الجسم المعروف، وجمعه أحجار وحجار، وقالوا: حجارة، واشتقوا منه فقالوا: استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جدا. والمراد بهذه- العصا- المسئول عنها في قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧] والمشهور أنها من آس الجنة- طولها عشرة أذرع طول موسى عليه السلام- لها شعبتان تتقدان في الظلمة، توارثها صاغر عن كابر حتى وصلت إلى شعيب ومنه إلى موسى عليهما السلام، وقيل: رفعها له ملك في طريق مدين، وفي المراد من الْحَجَرَ خلاف، فقال الحسن:
لم يكن حجرا معينا، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أبلغ في الإعجاز وأبين في القدرة، وقال وهب: كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر، وعلى هذا- اللام- فيه للجنس، وقيل: للعهد، وهو حجر معين حمله معه من الطور مكعب له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم، وكانوا ستمائة ألف ما عدا دوابهم، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا، وقيل: حجر كان عند آدم وصل مع العصا إلى شعيب فدفع إلى موسى، وقيل: هو الحجر الذي فر بثوبه، والقصة معروفة. وقيل: حجر أخذ من قعر البحر خفيف يشبه رأس الآدمي كان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج للماء ضربه. والروايات في ذلك كثيرة، وظاهر أكثرها التعارض، ولا ينبني على تعيين هذا الحجر أمر ديني، والأسلم تفويض علمه إلى الله تعالى.
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً عطف على مقدر، أي فضرب فانفلق، ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار، ولو كان ينفجر دون ضرب لما كان للأمر فائدة، وبعضهم يسمي هذه- الفاء- الفصيحة ويقدر شرطا أي فإن ضربت فقد «انفجرت» وفي المغني أن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب، إلا أن يقال: المراد فقد حكمنا

صفحة رقم 271

بترتب الانفجار على ضربك، وقال بعض المتأخرين (١) : لا حذف، بل- الفاء- للعطف وإن مقدرة بعد- الفاء- كما هو القياس، بعد الأمر عند قصد السببية، والتركيب من قبيل- زرني فأكرمك- أي اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فإن انفجرت فليكن منك الضرب فالانفجار- ولا يخفى ما في كل حتى قال مولانا مفتي الديار الرومية في الأول إنه غير لائق بجلالة شأن النظم الكريم- والثاني أدهى وأمرّ- والانفجار انصداع شيء من شيء، ومنه الفجر والفجور، وجاء هنا «انفجرت» وفي الأعراف [١٦٠] «انبجست» فقيل: هما سواء وقيل: بينهما فرق وهو أن الانبجاس أول خروج الماء، والانفجار اتساعه وكثرته، أو الانبجاس خروجه من الصلب، والآخر خروجه من اللين، والظاهر استعمالهما بمعنى واحد- وعلى فرض المغايرة- لا تعارض لاختلاف الأحوال، و (من) لابتداء الغاية، والضمير عائد على- الحجر المضروب- وعوده إلى الضرب، و (من) سببية مما لا ينبغي الإقدام عليه، والتاء في- اثنتا- للتأنيث، ويقال: ثنتا إلا أن التاء فيها على ما في البحر للإلحاق، وهذا نظير أنبت، ونبت ولامها محذوفة، وهي ياء لأنها من ثنيت، وقرأ مجاهد وجماعة- ورواه السعدي عن أبي عمرو- عشرة بكسر الشين وهي لغة بني تميم، وقرأ الفضل الأنصاري بفتحها قال ابن عطية:
وهي لغة ضعيفة، ونص بعض النحاة على الشذوذ، ويفهم من بعض المتأخرين أن هذه اللغات في المركب لا في عشرة وحدها، وعبارات القوم لا تساعده، والعين- منبع الماء وجمع على أعين شذوذا وعيون قياسا، وقالوا في أشراف الناس: أعيان، وجاء ذلك في الباصرة قليلا كما في قوله أعيانا لها ومآقيا وهو منصوب على التمييز، وإفراده في مثل هذا الموضع لازم، وأجاز الفراء أن يكون جمعا، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطا وكان بينهم تضاغن وتنافس فأجرى الله تعالى لكل سبط عينا يردها لا يشركه فيها أحد من السبط الآخر دفعا لإثارة الشحناء، ويشير إلى حكمة الانقسام، قوله تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وهي جملة مستأنفة مفهمة على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدى لمشرب غيره، وأُناسٍ جمع لا واحد له من لفظه، وما ذكر من شذوذ إثبات همزته إنما هو مع الألف واللام، وأما بدونها فشائع صحيح، وعَلِمَ هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف- ووجد ذلك بكثرة- والمشرب- إما اسم مكان أي محل الشرب، أو مصدر ميمي بمعنى الشرب، وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء، وحمله على المكان أولى عند أبي حيان، وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كُلُّ ولا يجوز أن يعود على لفظها لأن- كلّا- متى أضيف إلى نكرة وجب مراعاة المعنى كما في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: ٧١] وقوله:

وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفرّ منها الأنامل
ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة وإن كان سرد الكلام يقتضي- قد علم كل أناس عينهم- وفي الكلام حذف أي منها لأن قَدْ عَلِمَ صفة- لاثنتا عشرة عينا- فلا بد من رابط، وإنما وصفها به لأنه معجزة أخرى حيث يحدث مع حدوث الماء جداول يتميز بها مشرب كل من مشرب آخر، ويحتمل أن تكون الجملة حالية لا صفة لقوله تعالى: اثْنَتا عَشْرَةَ لئلا يحتاج إلى تقدير العائد وليفيد مقارنة العلم بالمشارب للانفجار، والمشرب حينئذ العين كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ على إرادة القول، وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به، والاحتياج إلى الشرب حاصل عنه، ومِنْ لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتبعيض، وفي ذكر الرزق مضافا تعظيم
(١) هو عصام الدين اهـ منه

صفحة رقم 272

للمنة، وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف، وفي هذا التفات إذ تقدم فَقُلْنَا اضْرِبْ ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا، ولو جعل الإضمار قبل كُلُوا مسندا إلى موسى- أي وقال موسى كلوا واشربوا- لا يكون فيه ذلك، والرزق- هنا بمعنى المرزوق وهو الطعام المتقدم من المنّ والسلوى، وبالمشروب من ماء العيون، وقيل: المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى: يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ
ولَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ويلزم عليه أيضا الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤول إلى- كلوا واشربوا- من الماء، ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته، والأكل بإرادة ما هو سبب عنه، أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق الله واشربوا من رزق الله، وقول بعض المتأخرين إن رزق الله- عبارة عن الماء، وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يروي العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب- بعيد غاية البعد، وأقرب منه أن لا يكون كُلُوا وَاشْرَبُوا بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمرا مرتبا على ذكرهم ما وقع وقت الاستسقاء على وجه الشكر والتذكير بقدرة الله تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم الله تعالى، وعدم الإفساد بإضلال الخلق، وجمع عرض الدنيا ويكون فضله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور «واحتجت المعتزلة» بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فاقتضى أن يكون الرزق مباحا فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما، وأنه غير جائز، والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المنّ والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم التبعيض وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران، والعثى- عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقا فسادا كان أو لا فهو كالاعتداء، ثم غلب في الفساد ومفسدين على هذا حال غير مؤكدة هو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها وذكر أبو البقاء أن العثي الفساد والحال مؤكدة، وفيه أن مجيء الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم، والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: ١٣٠] وإلا فالفساد أيضا منكر منهي عنه، وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا، والمراد من الْأَرْضِ عند الجمهور أرض التيه. ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم، وجوز أن يريد الأرضين كلها، و (أل) لاستغراق الجنس، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرضين، هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الاستسقاء ولا الضرب ولا الانفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكررا، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة. والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له، وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة. وقال كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه، وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض، ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه السلام على ما ورد أنه كان بعد
ذلك يأمره، فينفجر ولا ينافيه انفصاله عن الأرض كما وهم، ويحتمل أيضا أن يقلب الله تعالى- بواسطة قوة أودعها في الحجر- الهواء ماء

صفحة رقم 273

بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها. والله تعالى على كل شيء قدير، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا- لا إله إلا الله- ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً من مياه الحكمة لأن كلمة- لا إله إلا الله- اثنا عشرة حرفا فانفجر من كل حرف عين قد علم كل سبط من أسباط صفات الإنسان وهي اثنا عشر سبطا من الحواس (١) الظاهرة والباطنة، واثنان من القلب والنفس، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة، وقَدْ عَلِمَ مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات، ومشرب ملح أجاج، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات. والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الإنسان: ٢١] للاضمحلال في حقيقة الذات كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ بأمره ورضاه وَلا تَعْثَوْا في هذا القالب مُفْسِدِينَ بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى:
اهْبِطُوا إلخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كدّ وتعب حيث سألوا ب لَنْ نَصْبِرَ فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ إلخ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة، قال مولانا الساليكوتي- ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي- لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم، لأن الإجابة إلى المعصية معصية- وهي غير جائزة على الأنبياء- وإن قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا أمر إباحة لا إيجاب، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين الْمَنَّ وَالسَّلْوى اللذين رزقوهما في التيه، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال: طعام مائدة الأمير واحد- ولو كان ألوانا شتى- بمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات، أو باعتبار كونه ضربا واحدا لأن الْمَنَّ وَالسَّلْوى من طعام أهل التلذذ والسرف، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه، وقيل: إنهم كانوا يطبخونهما معا فيصير طعاما واحدا، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول السَّلْوى نازل من القول، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد السَّلْوى لأن الْمَنَّ كان شرابا، أو شيئا يتحلون به، فلم يعدوه طعاما آخر، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ
[الرحمن: ٢٢] وإنما يخرج من أحدهما- وهو الملح دون العذب- فَادْعُ لَنا رَبَّكَ أي سله لأجلنا- بدعائك إياه- بأن يخرج لنا كذا وكذا- والفاء- لسببية عدم الصبر للدعاء، ولغة بني عامر «فادع» - بكسر العين- جعلوا- دعا من ذوات الياء- كرمى، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم، على أن دعاء الغير للغير مطلقا أقرب إليها- فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم؟ - ولهذا
قال صلّى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: «أشركنا في دعائك» وفي الأثر «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها»
وحملت على ألسنة الغير، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادئ الإجابة، وقالوا: رَبَّكَ ولم يقولوا: ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم

(١) قوله: من الحواس إلخ كذا بخط اهـ مصححه.

صفحة رقم 274

من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة، فكأنهم قالوا: ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك.
يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها المراد- بالإخراج- المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي، وهو الإظهار بطريق الإيجاد- لا بطريق إزالة الخفاء- والحمل على المعنى الحقيقي يقتضي مخرجا عنه، وما يصلح له هاهنا هو الْأَرْضُ وبتقديره يصير الكلام سخيفا، ويُخْرِجْ مجزوم لأنه جواب الأمر، وجزمه- بلام الطلب- محذوفة لا يجوز عند البصريين، ومِنْ الأولى تبعيضية أي مأكولا بعض ما تُنْبِتُ وادعى الأخفش زيادتها- وليس بشيء- وما موصولة والعائد محذوف، أي تنبته، وجعلها مصدرية لم يجوزه أبو البقاء- لأن المقدر جوهر- ونسبة- الإنبات- إلى الْأَرْضُ مجاز من باب النسبة إلى القابل. وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض- أو فيها- قوة قابلة لذلك، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع، ومِنْ الثانية بيانية، فالظرف مستقر واقع موقع الحال، أي كائنا من بَقْلِها. وقال أبو حيان: تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ما فالظرف لغو متعلق يُخْرِجْ وعلى التقديرين- كما قال الساليكوتي- يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء، ولو جعل بيانا لما أفاده مِنْ التبعيضية- كما قاله المولى عصام الدين- لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة، وأوهم أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد- والبقل- جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والإنعام، والمراد به هنا أطايب البقول التي يأكلها الناس- والقثاء- هو هذا المعروف، وقال الخليل: هو الخيار، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره- بضم القاف- وهو لغة- والفوم- الحنطة- وعليه أكثر الناس- حتى قال الزجاج: لا خلاف عند أهل اللغة أن- الفوم- الحنطة، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم- الفوم- وقال الكسائي وجماعة: هو الثوم، وقد أبدلت- ثاؤه فاء- كما في- جدث وجدف- وهو بالبصل والعدس أوفق- وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- ونفس شيخنا- عليه الرحمة- إليه تميل، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من الْأَرْضُ وذكره مع البقل وغيره وما في المعالم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن- الفوم- الخبز يمكن توجيهه بأن معناه أنه يقال عليه، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولا ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة- وهو البقل- إذ منه ما هو بارد رطب- كالهندبا- ومنه ما هو حار يابس- كالكرفس والسذاب- ومنه ما هو حار وفيه رطوبة، كالنعناع «وثانيا» ما هو بارد رطب- وهو القثاء- «وثالثا» ما هو حار يابس- وهو الثوم- «ورابعا» ما هو بارد يابس- وهو العدس- «وخامسا» ما هو حار رطب- وهو البصل- وإذا طبخ صار باردا رطبا عند بعضهم، أو يقال: إنه ذكر أولا ما يؤكل من غير علاج نار، وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله.
قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل قال: أَتَسْتَبْدِلُونَ إلخ، والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليه السلام، ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم، أو موسى نفسه- وهو الأنسب بسياق النظم- والاستفهام للإنكار، والاستبدال الاعتياض.
«فإن قلت» كونهم لا يصبرون عَلى طَعامٍ واحِدٍ افهم طلب ضم ذلك إليه- لا استبداله به- أجيب بأن قولهم: لَنْ نَصْبِرَ يدل على كراهتهم ذلك الطعام، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها، وقيل: إنهم طلبوا ذلك، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم (المن والسلوى) فلا يجتمعان، وقيل: الاستبدال في المعدة- وهو كما ترى- وقرأ أبيّ- أتبدلون- وهو مجاز، لأن التبديل ليس لهم- إنما ذلك إلى الله تعالى- لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى أتسألون

صفحة رقم 275

تبديل الذي إلخ، والَّذِي مفعول تَسْتَبْدِلُونَ وهو الحاصل، والَّذِي دخلت عليه الباء هو الزائل، وهو أَدْنى صلة الَّذِي وهو هنا واجب الإثبات- عند البصريين- إذ لا طول، وأَدْنى إما من الدنو أو مقلوب من الدون، وهو على الثاني ظاهر، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف، فقيل: بعيد المحل بعيد الهمة، ويحتمل أن يكون مهموزا من الدناءة، وأبدلت فيه- الهمزة ألفا- ويؤيده قراءة زهير والكسائي «أدنأ» بالهمزة، وأريد بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته، والنفع الجليل في تناوله، وعدم الكلفة في تحصيله، وخلوه عن الشبهة في حله اهْبِطُوا مِصْراً جملة محكية بالقول كالأولى، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى، وهذه ليست كذلك، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى، فوجه الفصل ظاهر، والوقف على خير كاف «على الأول» وتام «على الثاني» والهبوط يجوز أن يكون مكانيا بأن يكون التيه أرفع من المصر، وأن يكون رتبيا، وهو الأنسب بالمقام، وقرىء اهْبِطُوا بضم الهمزة والباء- والمصر- البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين، قال:

وجاعل الشمس (مصرا) لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها- إذا حلبت كل شيء في ضرعها- بعيد، وحكي عن أشهب أنه قال: قال لي مالك: هي مصر قرتيك مسكن فرعون- فهو إذا علم- وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذكر، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث، فهو- إن جعل علما- فإما باعتبار كونه بلدة، فالصرف مع العلمية، والتأنيث لسكون الوسط، وإما باعتبار كونه- بلدا- فالصرف على بابه، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه في مصحف ابن مسعود «مصر» بلا- ألف بعد الراء- ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير، وأن قوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة: ٢١] يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب- كما يدل عليه عطف النهي- وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورا على بلاد التيه- وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين- ومن الناس من جعل مصر معرب- مصرائيم- كاسرائيل اسم لأحد أولاد نوح عليه السلام- وهو أول من اختطها- فسميت باسمه، وإنما جاز الصرف حينئذ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ تعليل للأمر بالهبوط، وفي البحر أنها جواب للأمر- وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة- وفي ذلك محذوفان ما يربط الجملة بما قبلها، والضمير العائد على ما والتقدير، فإن لكم فيها ما سألتموه، والتعبير عن الأشياء المسئولة ب ما للاستهجان بذكرها، وقرأ النخعي ويحيى سَأَلْتُمْ بكسر السين.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي جعل ذلك محيطا بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين، وضُرِبَتْ استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون، وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم، وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم، وهذا الضرب مجازاة لهم

صفحة رقم 276

على كفران تلك النعمة، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود، وشامل للمخاطبين، بقوله تعالى: فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما- أو رجعوا بغضب- أي صار عليهم، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه، أو صاروا أحقاء به، أو استحقوا العذاب بسببه- وهو بعيد- وأصل- البواء- بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال: هو بواء فلان أي كفؤه، ومنه بؤ- لشسع نعل كليب-
وحديث «فليتبوأ مقعده من النار»
وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم، وإنما بعّده لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب. أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤول ولم يعبر به، وعبر بما عبر تنبيها على تجدد الكفر والقتل منهم حينا بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى، أو لاستحضار قبيح صنعهم و «الآيات» إما المعجزات مطلقا أو التسع التي أتى بها موسى عليه السلام أو ما جاء به من التسع وغيرها، أو آيات الكتب المتلوة مطلقا، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. أو التي فيها الرجم أو القرآن، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما (أل) فيتساويان- كما في البحر- فلا يرد أنهم قتلوا ثلاثمائة نبي في أول النهار، وأقاموا سوقهم في آخره، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقدا حقية قتل أحد منهم عليهم السلام، وإنما حملهم عليه حب الدنيا، واتباع الهوى، والغلو في العصيان، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد، وقيل: الأظهر أنها للجنس، والمراد بغير حق أصلا إذ لام الجنس المبهم كالنكرة، ويؤيده ما في آل عمران [٢١] (بغير حق) فيفيد أنه لم يكن حقا باعتقادهم أيضا ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر سواء كان حقا عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل، والقول: بأنه يمكن أن يقال- لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحدا بغير حق لا يقتص، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيدا لما هو الحكم الشرعي- بعيد كما لا يخفى، قال بعض المتأخرين: هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي- أي بلا حق، أما إذا كان بمعناه- أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل- فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته، وقريب من هذا ما قاله القفال: من أنهم كانوا يقولون: إنهم كاذبون وإن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء، ويحيى، وزكريا عليهم السلام لم يقتلوا لذلك، وإنما قتل شعياء لأن ملكا من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، وقتل بعضهم بعضا فنهاهم عليه السلام فبغوا عليه وقتلوه، ويحيى عليه السلام إنما قتل لقصة تلك الامرأة لعنها الله تعالى، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هاربا فأرسل الملك في طلبه غضبا لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولا بمنشار، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما

صفحة رقم 277

تنازع فيه الكفر، والقتل، وفي البحر أنه متعلق بما عنده، وزعم بعض الملحدين- أن بين هذه الآية- وما أشبهها، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: ٥١] تناقضا- وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ [البقرة: ٨٧] إلى قوله سبحانه: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة: ٨٧] يدل على أن المقتول رسل أيضا، وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبة الحجة أو الأخذ بالثأر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفا، وبكل خليفة خمسا وثلاثين ألفا ولا يخفى ما فيه، فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال- كما أجاب به المحققين- لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم،
وقرأ علي رضي الله تعالى عنه: يقتلون
بالتشديد، والحسن في رواية عنه وتقتلون بالتاء فيكون ذلك من الالتفات، وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي، والنبوة، واستشكل بما
روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم «يا نبيء الله بالهمز فقال لست بنبيء الله
- يعني مهموزا-
ولكن نبي الله»

بغير همزة فأنكر عليه ذلك. ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة والسلام على أنه استشكل أيضا جمع النبي على نبيين وهو فعيل بمعنى مفعول، وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم. وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها فمنع لوهم أن معناه يا طريد الله تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه، ولا يلزم من صحة استعمال الله تعالى له في حق نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم- الذي برأه من كل نقص- جوازه من البشر، وقيل إن النهي كان خاصا في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول راعِنا إلى قول انْظُرْنا [البقرة: ١٠٤] وعن الثاني بأنه ليس بمتفق عليه إذ قيل: إنه بمعنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصلي، ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك، فصح جمعه باعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر.
ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سببا لما تقدم، وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور، ونحوه مما هو مفرد لفظا متعدد معنى، وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملا عليه، والباء للسببية، وما بعدها سبب للسبب، والمعنى أن الذي حملهم على الكفر بآيات الله تعالى، وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم الحدود، والذنب يجر الذنب، وأكد الأول لأنه مظنة الاستبعاد بخلاف مطلق العصيان، وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول، وترك العاطف للدلالة على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذ- لإيراد كلمة ذلك- فائدة إذ الظاهر بِما عَصَوْا إلخ ويفوت أيضا ما يفوت، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا.
«ومن باب الإشارة» الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب وقطع وريدها بقطع واردها، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب، والاعتياض بالاغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لما انجر الكلام إلى ذكر وعيد أهل الكتاب قرن به

صفحة رقم 278

ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب والترهيب وبهذا يتضح وجه توسيط هذه الآية وما قبلها بين تعداد النعم، وفي المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا هنا أقوال، والمروي عن سفيان الثوري أنهم المؤمنون بألسنتهم، وهم المنافقون بدليل انتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا، وعن السدي أنهم الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم- كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل- ومن لحقه- كأبي ذر وبحيرى- ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون البعثة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وروى السدي عن أشياخه أنهم المؤمنون بموسى إلى أن جاء عيسى عليهما السلام فآمنوا به، وقيل: إنهم أصحاب سلمان الذين قصّ حديثهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
فقال له: «هم في النار»
فأظلمت الأرض عليه كما روى مجاهد عنه فنزلت عند ذلك الآية إلى يَحْزَنُونَ قال سلمان: فكأنما كشف عني جبل، وقيل: إنهم المتدينون بدين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مخلصين أو منافقين- واختاره القاضي- وكأن سبب الاختلاف قوله تعالى فيما بعد: مَنْ آمَنَ إلخ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر وأقل الأقوال مؤنة أولها وَالَّذِينَ هادُوا أي تهودوا يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، ويهود- إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، ووجه التخصيص كون توبتهم أشق الأعمال كما مر، وإما معرب يهوذا بذال معجمة وألف مقصورة كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وقرىء هادُوا بفتح الدال أي مال بعضهم إلى بعض وَالنَّصارى جمع نصران بمعنى نصراني، وورد ذلك في كلام العرب وإن أنكره البعض كقوله:

تراه إذا دار العشيّ محنفا ويضحى لديه وهو (نصران) شامس
ويقال في المؤنث نصران كندمان وندمانة قاله سيبويه- وأنشد. كما سجدت نصرانة لم تحنف. والياء في نصراني عنده للمبالغة كما يقال للأحمر أحمري إشارة إلى أنه عريق في وصفه، وقيل: إنها للفرق بين الواحد والجمع كزنج وزنجي، وروم ورومي، وقيل: النصارى جمع نصري كمهري ومهارى حذفت إحدى ياءيه وقلبت الكسرة فتحة للتخفيف فقلبت الياء ألفا. وإلى ذلك ذهب الخليل، وهو اسم لاصحاب عيسى عليه السلام، وسموا بذلك لأنهم نصروه، أو لنصر بعضهم لبعض، وقيل: إن عيسى عليه السلام ولد في بيت لحم بالقدس ثم سارت به أمه إلى مصر ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام وأقامت بقرية ناصرة، وقيل: نصرايا، وقيل: نصري، وقيل: نصرانة، وقيل:
نصران- وعليه الجوهري- فسمي من معه باسمها، أو أخذ لهم اسم منها وَالصَّابِئِينَ هم قوم مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين واتخاذهم وسائط ولما لم يتيسر لهم التقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فرعت جماعة منهم إلى هياكلها، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وجماعة نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن أحد شيئا. فالفرقة الأولى هم عبدة الكواكب، والثانية هم عبدة الأصنام وكل من هاتين الفرقتين أصناف شتى مختلفون في الاعتقادات والتعبدات، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: إنهم ليسوا بعبدة أوثان وإنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة، وقيل: هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء كيحيى عليه السلام، وقيل: إنهم يقرون بالله تعالى ويقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة، وقيل: إلى مهب الجنوب، وقد أخذوا من كل دين شيئا، وفي جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم كلام للفقهاء يطلب في محله، واختلف في اللفظ فقيل غير عربي، وقيل عربي من صبأ- بالهمز- إذا خرج أو من صبا

صفحة رقم 279

معتلا بمعنى مال لخروجهم عن الدين الحق وميلهم إلى الباطل، وقرأ نافع وحده بالياء وذلك إما على الأصل أو الإبدال للتخفيف.
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً أي أحدث من هذه الطوائف إيمانا بالله تعالى وصفاته وأفعاله والنبوات، وبالنشأة الثانية على الوجه اللائق، وأتى- بعمل صالح- حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر، وهذا مبني على أول الأقوال، والقائلون بآخرها منهم من فسر الآية بمن اتصف من أولئك بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات، والدوام عليه كإيمان المخلصين، أو بطريق إحداثه، وإنشائه كإيمان من عداهم من المنافقين، وسائر الطوائف، وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين، ومنهم من فسرها بمن كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه، فيعم الحكم المخلصين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والمنافقين الذين تابوا، واليهود والنصارى الذين ماتوا قبل التحريف والنسخ وَالصَّابِئِينَ الذين ماتوا زمن استقامة أمرهم إن قيل: إن لهم دينا، وكذا يعم اليهود والصائبين الذين آمنوا بعيسى عليه السلام وماتوا في زمنه، وكذا من آمن من هؤلاء الفرق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وفائدة ذكر الَّذِينَ آمَنُوا على هذا مع أن الوعيد السابق كان في اليهود لتسكين حمية اليهود بتسوية المؤمنين بهم في أن كون كل في دينه «قبل النسخ» يوجب الأجر «وبعده» يوجب الحرمان، كما أن ذكر الصَّابِئِينَ للتنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا يتاب عليهم إذا صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فغيرهم بالطريق الأولى وانفهام قبل النسخ من وَعَمِلَ صالِحاً إذ لا صلاح في العمل بعده، وهذا هو الموافق لسبب النزول لا سيما
على رواية أن سلمان رضي الله تعالى عنه ذكر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حسن حال الرهبان الذين صحبهم، فقال: «ماتوا وهم في النار» فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام: «من مات على دين عيسى عليه السلام قبل أن يسمع بي فهو على خير، ومن سمع ولم يؤمن بي فقد هلك».
والمناسب لعموم اللفظ وعدم صرفه إلى تخصيص الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى بالكفرة منهم وتخصيص مَنْ آمَنَ إلخ بالدخول في ملة الإسلام، إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصابئين دين، وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات «ففي الملل والنحل» أن الصورة في مقابلة الحنيفية، ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم: الصابئة، ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه، فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصَّابِئِينَ فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين اسم إِنَّ وخبرها إليهم- على القول المشهور- وارتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصدا إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من الصَّابِئِينَ مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه؟! على أن فيه بعد ما لا يخفى فتدبر. ومَنْ مبتدأ، وجوزوا فيها أن تكون موصولة والخبر جملة قوله تعالى:
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ودخلت- الفاء- لتضمن المبتدأ معنى الشرط كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: ١٠] الآية، وأن تكون شرطية- وفي خبرها خلاف- هل الشرط، أو الجزاء، أو هما؟ وجملة مَنْ آمَنَ إلخ خبر إِنَّ فإن كانت مَنْ موصولة- وهو الشائع هنا- احتيج إلى تقدير- منهم- عائدا، وإن كانت شرطية لم يحتج إلى تقديره- إذ العموم يغني عنه- كأنه قيل: هؤلاء وغيرهم إذا آمنوا فَلَهُمْ إلخ على ما قالوا في قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: ٣٠] وجوز بعضهم أن تكون مَنْ

صفحة رقم 280

بدلا من اسم إِنَّ وخبرها فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ واختار أبو حيان أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إِنَّ فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا من غير الأصناف الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة فَلَهُمْ إلخ. وقد حملت الضمائر الثلاثة باعتبار معنى الموصول، كما أن إفراد ما في الصلة باعتبار لفظه، وفي البحر إن هذين الحملين لا يتمان إلا بإعراب مَنْ مبتدأ، وأما على إعرابها بدلا فليس فيها إلا حمل على اللفظ فقط فافهم. ثم المراد من- الأجر- الثواب الذي وعدوه على الإيمان والعمل الصالح، فإضافته إليهم واختصاصه بهم بمجرد الوعد لا بالاستيجاب- كما زعمه الزمخشري رعاية للاعتزال- لكن تسميته- أجرا- لعدم التخلف، ويؤيد ذلك قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ المشير إلى أنه لا يضيع لأنه عند لطيف حفيظ، وهو متعلق بما تعلق به فَلَهُمْ، ويحتمل أن يكون حالا من أَجْرُهُمْ.
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عطف على جملة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ وقد تقدم الكلام على مثلها في آخر قصة آدم عليه السلام فأغنى عن الإعادة هنا وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ تذكير بنعمة أخرى، لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم، والظاهر من الميثاق هنا العهد، ولم يقل: مواثيقكم، لأن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره- فكان ميثاقا واحدا- ولعله كان بالانقياد لموسى عليه السلام، واختلف في أنه متى كان؟ فقيل: قبل رفع الطور، ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ [النساء: ١٥٤] إلخ، وقيل: كان معه وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ- الواو- للعطف، وقيل: للحال، والطُّورَ قيل: جبل من الجبال، وهو سرياني معرب، وقيل:
الجبل المعين. وعن أبي حاتم عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا، وكان على قدر عسكرهم- فرسخا في فرسخ- ورفع فوقهم قدر قامة الرجل، واستشكل بأن هذا يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان فينافي التكليف، وأجاب الإمام بأنه لا إلجاء لأن الأكثر فيه خوف السقوط عليهم، فإذا استمر في مكانه مدة- وقد شاهدوا السماوات مرفوعة بلا عماد- جاز أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف، وقال العلامة: كأنه حصل لهم بعد هذا الإلجاء قبول اختياري، أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان- وفيه كما قال الساليكوتي- إن الكلام في أنه كيف يصح التكليف ب خُذُوا إلخ مع القسر، وقد تقرر أن مبناه على الاختيار- فالحق أنه إكراه- لأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختاره- لو خلي ونفسه- فيكون معدما للرضا لا للاختيار إذ الفعل يصدر باختياره كما فصل في الأصول، وهذا كالمحاربة مع الكفار، وأما قوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: ٢٥٦] وقوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: ٩٩] فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ هو على إضمار القول أي قلنا أو قائلين خُذُوا وقال بعض الكوفيين. لا يحتاج إلى إضماره لأن أخذ الميثاق قول، والمعنى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ بأن تأخذوا ما آتيناكم.- وليس بشيء- والمراد هنا- بالقوة- الجد والاجتهاد- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويؤول إلى عدم التكاسل والتغافل، فحينئذ لا تصلح الآية دليلا لمن ادعى أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لا يقال: خذ هذا بقوة، إلا والقوة حاصلة فيه لأن القوة بهذا المعنى لا تنكر صحة تقدمها على الفعل وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي ادرسوه واحفظوه ولا تنسوه، أو تدبروا معناه، أو اعملوا بما فيه من الأحكام، فالذكر يحتمل أن يراد به الذكر اللساني والقلبي والأعم منهما وما يكون كاللازم لهما، والمقصود منهما أعني العمل لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قد تقدم الكلام على الترجي في كلامه تعالى، وقد ذكر هاهنا أن كلمة- لعل- متعلقة- بخذوا، واذكروا- إما مجاز يؤول معناه بعد الاستعارة إلى تعليل ذي الغاية بغايته أو حقيقة لرجاء المخاطب، والمعنى خُذُوا واذكروا راجين أن

صفحة رقم 281

تكونوا متقين ويرجح المعنى المجازي أنه لا معنى لرجائهم فيما يشق عليهم أعني التقوى، اللهم إلا باعتبار تكلف أنهم سمعوا مناقب المتقين ودرجاتهم فلذا كانوا راجين للانخراط في سلكهم، وجوز المعتزلة كونها متعلقة- بقلنا- المقدر وأولوا الترجي بالإرادة أي (قلنا) واذكروا- إرادة أن تتقوا، وهو مبني على أصلهم الفاسد من أن إرادة الله تعالى لأفعال العباد غير موجبة للصدور لكونها عبارة عن العلم بالمصلحة، وجوز العلامة تعلقها إذا أول الترجي بالإرادة- بخذوا- أيضا على أن يكون قيدا للطلب لا للمطلوب، وجوز الشهاب أن يتعلق بالقول على تأويله بالطلب والتخلف فيه جائز، وفيه أن القول المذكور وهو خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بعينه طلب التقوى فلا يصح أن يقال- خذوا ما آتيناكم- طالبا منكم التقوى إلا بنوع تكلف فافهم ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه وخالفتم، وأصل التولي الإعراض المحسوس ثم استعمل في الإعراض المعنوي كعدم القبول، ويفهم من الآية أنهم امتثلوا الأمر ثم تركوه.
فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها، أو الفضل والرحمة بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإدراكهم لمدته، فالخطاب على الأول جار على سنن الخطابات السابقة مجازا باعتبار الإسلاف وعلى الثاني جار على الحقيقة، والخسران ذهاب رأس المال أو نقصه، والمراد لكنتم مغبونين هالكين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط في مهاوي الضلال عند الفترة، وكلمة- لولا- إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وتقدم الكلام عليها، وحرف النفي- والاسم الواقع بعدها عند سيبويه- مبتدأ خبره محذوف وجوبا لدلالة الحال عليه وسد الجواب مسده، والتقدير- ولولا فضل الله ورحمته- حاصلان، ولا يجوز أن يكون الجواب خبرا لكونه في الأغلب خاليا عن العائد إلى المبتدأ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أي لولا ثبت فضل الله تعالى إلخ، ولَكُنْتُمْ جواب- لولا- ويكثر دخول اللام على الجواب إذا كان موجبا، وقيل: إنه لازم إلا في الضرورة كقوله:

لولا الحياء ولولا الدين (عبتكما) ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وجاء في كلامهم بعد اللام قد، كقوله:
لولا الأمير ولولا خوف طاعته (لقد) شربت وما أحلى من العسل
وقد جاء أيضا حذف اللام وإبقاء قد نحو- لولا زيد قد أكرمتك- ولم يجىء في القرآن مثبتا إلا باللام إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: وَهَمَّ بِها [يوسف: ٢٤] جواب لولا قدم عليها هذا (من باب الإشارة والتأويل في الآية) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال- والصفات ورفعنا فوقكم طور- الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها، أو أشار سبحانه- بالطور- إلى موسى القلب، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد وقلنا خُذُوا أي اقبلوا ما آتَيْناكُمْ من كتاب العقل الفرقاني بجد، وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله تعالى بإمهاله وحكمه بإفضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة
إلى الله يدعى بالبراهين من أبى فإن لم يجب بادته بيض الصوارم
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللام واقعة في جواب قسم مقدر، وعلم- هنا كعرف فلذلك تعدت إلى واحد، وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين، وقدر بعضهم مضافا أي اعتداء الذين، وقيل:
أحكامهم، ومِنْكُمْ في موضع الحال، والسَّبْتِ اسم لليوم المعروف وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع لأنه سبت فيه خلق كل شيء وعمله، وقيل: من السبوت وهو الراحة والدعة. والمراد به هنا اليوم، والكلام على حذف

صفحة رقم 282

مضاف أي في حكم السبت لأن الاعتداء والتجاوز لم يقع في اليوم بل وقع في حكمه بناء على ما
حكي أن موسى عليه السلام أراد أن يجعل يوما خالصا للطاعة وهو يوم الجمعة فخالفوه وقالوا: نجعله يوم السبت لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا فأوحى الله تعالى إليه أن دعهم وما اختاروا ثم امتحنهم فيه فأمرهم بترك العمل وحرم عليهم فيه صيد الحيتان فلما كان زمن داود عليه السلام- اعتدوا- وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها أيلة. وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حظر هناك وأخرج خرطومه وإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء فيصطادونها يوم الأحد، وروي أنهم فعلوا ذلك زمانا فلم ينزل عليهم عقوبة فاستبشروا وقالوا: قد أحل لنا العمل في السبت فاصطادوا فيه علانية وباعوا في الأسواق،
وعلى هذا يصح جعل اليوم ظرفا للاعتداء، ولا يحتاج إلى تقدير مضاف، وقيل: المراد بالسبت هنا مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وليس بمعنى اليوم فحينئذ لا حاجة إلى تقدير مضاف إذ يؤول المعنى إلى أنهم اعتدوا في التعظيم وهتكوا الحرمة الواجبة عليهم. وقد ذكر بعضهم أن تسمية العرب للأيام بهذه الأسماء المشهورة حدثت بعد عيسى عليه السلام وأن أسماءها قبل غير ذلك وهي التي في قوله:

أؤمل أن أعيش وأن يومي بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته فمونس أو عروبة أو شبار
واستدل بهذه الآية على تحريم الحيل في الأمور التي لم تشرع كالربا- وإلى ذلك ذهب الإمام مالك- فلا تجوز عنده بحال قال الكواشي: وجوزها أكثرهم ما لم يكن فيها إبطال حق أو إحقاق باطل، وأجابوا عن التمسك بالآية فإنها ليست حيلة وإنما هي عين المنهي عنه لأنهم إنما نهوا عن أخذها ولا يخفى ما في هذا الجواب، وتحقيقه في كتب الفقه فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ القردة جمع قرد وهو معروف ويجمع فعل الاسم قياسا على فعول، وقليلا على فعلة، والخسو- الصغار والذلة ويكون متعديا ولازما. ومنه قولهم للكلب: اخسأ وقيل: الخسوء والخساء مصدر خسأ الكلب بعد، وبعضهم ذكر الطرد عند تفسير الخسوء كالإبعاد، فقيل: هو لاستيفاء معناه لا لبيان المراد، وإلا لكان الخاسئ بمعنى الطارد، والتحقيق أنه معتبر في المفهوم إلا أنه بالمعنى المبني للمفعول، وكذلك الإبعاد فالخاسئ الصاغر المبعد المطرود، وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة، وعلى ذلك جمهور المفسرين- وهو الصحيح- وذكر غير واحد منهم أنهم بعد أن مسخوا لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ولم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام وماتوا في اليوم الثامن، واختار أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا- وأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم- ويرده ما
رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ؟ «إن الله تعالى لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك»
وروى ابن جرير عن مجاهد «أنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظا ولا تعي زجرا» فيكون المقصود من الآية تشبيههم بالقردة كقوله:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن (حجرا) من يابس الصخر جلمدا
وكُونُوا «على الأول» ليس بأمر حقيقة، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم، بل المراد منه سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراد من غير امتناع ولا لبث.
«وعلى الثاني» يكون الأمر مجازا عن التخلية والترك والخذلان- كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اصنع ما شئت»
وقد قرره العلامة في تفسير قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا [العنكبوت: ٦٦]

صفحة رقم 283

والمنصوبان خبران للفعل الناقص، ويجوز أن يكون خاسِئِينَ حالا من الاسم، ويجوز أن يكون صفة ل قِرَدَةً والمراد وصفهم بالصغار عند الله تعالى دفعا لتوهم أن يجعل مسخهم وتعجيل عذابهم في الدنيا لدفع ذنوبهم ورفع درجاتهم.
واعترض أنه لو كان صفة لها لوجب أن يقول: خاسئة لامتناع الجمع- بالواو- والنون في غير ذوي العلم، وأجيب بأن ذلك على تشبيههم بالعقلاء كما في السَّاجِدِينَ أو باعتبار أنهم كانوا عقلاء، أو بأن المسخ إنما كان بتبدل الصورة فقط، وحقيقتهم سالمة على ما روي أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم، فيقول له: ألم أنهك؟ فيقول: بلى ثم تسيل دموعه على خده- ولم يتعرض في الآية بمسخ شيء منهم خنازير- وروي عن قتادة أن الشباب صاروا قِرَدَةً والشيوخ صاروا- خنازير- وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم، وقرىء قِرَدَةً بفتح القاف وكسر الراء وخاسِئِينَ بغير همز فَجَعَلْناها نَكالًا أي كينونتهم وصيرورتهم قِرَدَةً أو المسخة، أو العقوبة، أو الآية المدلول عليها بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ وقيل: الضمير للقرية، وقيل: للحيتان- والنكال- واحد- الأنكال- وهي القيود- ونكل به- فعل به ما يعتبر به غيره، فيمتنع عن مثله لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أي لمعاصريهم ومن خلفهم- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره- وروي عنه أيضا لِما بحضرتها من القرى- أي أهلها وما تباعد عنها- أو للآتين والماضين- وهو المختار عند جماعة- فكل من ظرفي المكان مستعار للزمان، و (ما) أقيمت مقام- من- إما تحقيرا لهم في مقام العظمة والكبرياء- أو لاعتبار الوصف- فإن ما يعبر بها عن العقلاء تعظيما- إذا أريد الوصف- كقوله: «سبحان ما سخر كن» وصحح كونها نَكالًا للماضين أنها ذكرت في زبر الأولين- فاعتبروا بها- وصحت- الفاء- لأن جعل ذلك نَكالًا للفريقين إنما يتحقق بعد القول والمسخ، أو لأن- الفاء- إنما تدل على ترتب جعل العقوبة نَكالًا على القول وتسببه عنه- سواء كان على نفسه أو على الإخبار به- فلا ينافي حصول الاعتبار قبل وقوع هذه الواقعة بسبب سماع هذه القصة، وقيل:- اللام- لام الأجل و (ما) على حقيقتها- والنكال- بمعنى العقوبة لا- العبرة- والمراد بما بَيْنَ يَدَيْها ما تقدم من سائر الذنوب قبل أخذ السمك، وب ما خَلْفَها ما بعدها، والقول بأن المراد جعلنا المسخ عقوبة لأجل ذنوبهم المتقدمة على المسخة والمتأخرة عنها يستدعي بقاءهم مكلفين بعد المسخ ولا يظهر ذلك إلا على قول مجاهد، وحمل الذنوب التي بعد المسخة- على السيئات الباقية آثارها- ليس بشيء كما لا يخفى، وقول أبي العالية- إن المراد ب لِما بَيْنَ يَدَيْها ما مضى من الذنوب، وب ما خَلْفَها من يأتي بعد، والمعنى فجعلناها عقوبة لما مضى من ذنوبهم، وعبرة لمن بعدهم- منحط من القول جدا لمزيد ما فيه من تفكيك النظم والتكلف وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الموعظة ما يذكر مما يلين القلب- ثوابا كان أو عقابا- والمراد بالمتقين ما يعم كل متق من كل أمة- وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقيل: من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: منهم، ويحتمل أنهم اتعظوا بذلك وخافوا عن ارتكاب خلاف ما أمروا به، ويحتمل أنهم وعظ بعضهم بعضا بهذه الواقعة، وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وجعلهم بحيث لو أهملوا وتركوا وخلوا بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية والغواشي الظلمانية لضروراتهم لها واعتيادهم من الطفولية عليها

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فوضع الله تعالى العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة ليزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة ارتكاب الشهوات، وجعل يوما من أيام الأسبوع مخصوصا للاجتماع

صفحة رقم 284

على العبادة وإزالة وحشة التفرقة ودفع ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية، فوضع السَّبْتِ لليهود لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم والسَّبْتِ آخر الأسبوع، والأحد للنصارى لأن عالم العقل الذي إليه دعوتهم أول العوالم، ويوم الأحد أول الأسبوع، والجمعة للمسلمين لأنه يوم الجمع،- والختم- فهو أوفق بهم وأليق بحالهم- فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلا- زال نور استعداده، وطفىء مصباح فؤاده، ومسخ كما مسخ أصحاب السبت، ومن غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده، وتمكن في طباعه، وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا أطلق عليه اسم ذلك الحيوان حتى
كأن صار طباعه طباعه، ونفسه نفسه، فليجهد المرء على حفظ إنسانيته، وتدبير صحته بشراب الأدوية الشرعية والمعاجين الحكمية، وليحث نفسه بالمواعظ الوعدية والوعيدية

هي النفس إن تهمل تلازم خساسة وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً بيان نوع من مساوئهم من غير تعديد النعم وصح العطف لأن ذكر النعم سابقا كان مشتملا على ذكر المساويء أيضا من المخالفة للأنبياء والتكذيب لهم وغير ذلك، وقد يقال: هو على نمط ما تقدم، لأن الذبح نعمة دنيوية لرفعة التشاجر بين الفريقين، وأخروية لكونه معجزة لموسى عليه السلام. وكأن مولانا الإمام الرازي خفي عليه ذلك فقال: إنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات، وجعل النوع الثاني ما أشارت إليه هذه الآية- وليس بالبعيد.
«وأول القصة» قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [البقرة: ٧٢] إلخ، وكان الظاهر أن يقال- قال موسى إذ قتل قتيل تنوزع في قاتله- إن الله يأمر بذبح بقرة هي كذا وكذا، وأن يضرب ببعضها ذلك القتيل ويخبر بقاتله فيكون كيت وكيت إلا أنه فك بعضها وقدم لاستقلاله بنوع من مساوئهم التي قصد نعيها عليهم، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال، وترك المصارعة إلى الامتثال، ولو أجرى على النظم لكانت قصة واحدة، ولذهبت تثنية التقريع، وقد وقع في النظم من فك التركيب والترتيب ما يضاهيه في بعض القصص، وهو من المقلوب المقبول لتضمنه نكتا وفوائد، وقيل: إنه يجوز أن يكون ترتيب نزولها على موسى عليه السلام على حسب تلاوتها بأن يأمرهم الله تعالى- بذبح البقرة- ثم يقع القتل فيؤمروا بضرب بعضها- لكن المشهور خلافه- والقصة أنه عمد اخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما- أخي أبيهما- فقتلاه ليرثا ماله وطرحاه على باب محلهم ثم جاءا يطلبان بدمه فأمر الله تعالى بذبح بقرة وضربه ببعضها ليحيا، ويخبر بقاتله، وقيل: كان القاتل أخا القتيل، وقيل: ابن أخيه ولا وارث له غيره فلما طال عليه عمره قتله ليرثه، وقيل: إنه كان- تحت رجل يقال له عاميل- بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال فقتله ذو قرابة له لينكحها فكان ما كان، وقرأ الجمهور- يأمركم- بضم الراء، وعن أبي عمرو، السكون، والاختلاس- وإبدال الهمزة ألفا، و (أن) تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط حرف الجر- أي بأن تذبحوا قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل: فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أم لا؟ فأجيب بذلك، والاتخاذ كالتصيير، والجعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وهُزُواً مفعوله الثاني ولكونه مصدرا لا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا لأنه خبر المبتدأ في الحقيقة وهو اسم ذات هنا فيقدر مضاف- كمكان، أو أهل- أو يجعل بمعنى المهزوء به كقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة: ٩٦] أي مصيده أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة كرجل عدل، وقد قالوا ذلك إما بعد أن أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة دون ذكر الاحياء بضربها، وإما

صفحة رقم 285

بعد أن أمرهم وذكر لهم استبعادا لما قاله واستخفافا به كما يدل عليه الاستفهام إذ المعنى أتسخر بنا فإن جوابك لا يطابق سؤالنا ولا يليق، وأين ما نحن فيه مما أنت آمر به، ولا يأبى ذلك انقيادهم له لأنه بعد العلم بأنه جد وعزيمة، ومن هنا قال بعضهم: إن إجابتهم نبيهم- حين أخبرهم عن أمر الله تعالى بأن يذبحوا بقرة بذلك دليل على سوء اعتقادهم بنبيهم وتكذيبهم له إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى لما استفهموا هذا الاستفهام، ولا كانوا أجابوا هذا الجواب، فهم قد كفروا بموسى عليه السلام. ومن الناس من قال: كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية، والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليه السلام داعبهم، أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء، فأجابوا بما أجابوا، وقيل: استفهموا على سبيل الاسترشاد- لا على وجه الإنكار والعناد- وقرأ عاصم وابن محيصن «يتخذنا» - بالياء- على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع «هزأ» بالإسكان، وحفص عن عاصم- بالضم وقلب الهمزة واوا، والباقون- بالضم والهمزة- والكل لغات فيه.
قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من أن أعد في عدادهم، والجهل- كما قال الراغب- له معان، عدم العلم، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل- سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا- وهذا الأخير هو المراد هنا، وقد نفاه عليه السلام عن نفسه قصدا إلى نفي ملزومه الذي رمى به- وهو الاستهزاء على طريق الكناية- وأخرج ذلك في صورة الاستعارة استفظاعا له، إذ- الهزء- في مقام الإرشاد كاد يكون كفرا وما يجري مجراه، ووقوعه في مقام الاحتقار والتهكم مثل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١- التوبة: ٣٤- الانشقاق: ٢٤] سائغ شائع- وفرق بين المقامين- وذكر بعضهم أن الاستعاذة بالله تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [المؤمنون: ٩٧] لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك، والأول أولى- وهو المعروف من إيراد الاستعاذة في أثناء الكلام- والفرق بين- الهزء والمزح- ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانا كما لا يخفى.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي سل لأجلنا رَبُّكَ الذي عوّدك ما عوّدك- يظهر لَنا ما حالها وصفتها، فالسؤال في الحقيقة عن الصفة، لأن الماهية ومسمى الاسم معلومان- ولا ثالث لهما- لتستعمل ما فيه، أما إذا أريد بقرة معينة فظاهر لأنه استفسار لبيان المجمل- وإلا فلمكان التعجب- وتوهم أن مثل هذه البقرة لا تكون إلا معينة، والجواب «على الأول» بيان «وعلى الثاني» نسخ وتشديد، وهكذا الحال فيما سيأتي من السؤال والجواب.
وكان مقتضى الظاهر «على الأول» أي لأنها للسؤال عن المميز وصفا كان أو ذاتيا. «وعلى الثاني» كيف؟ لأنها موضوعة للسؤال عن الحال، وما وإن سئل بها عن الوصف لكنه على سبيل الندور، وهو إما مجاز أو اشتراك- كما صرح به في المفتاح- والغالب السؤال بها عن الجنس، فإن أجريت هنا على الاستعمال الغالب نزل مجهول الصفة لكونه على صفة لم يوجد عليها جنسه- وهو إحياء الميت بضرب بعضه- منزلة مجهول الحقيقة فيكون سؤالا عن الجنس تنزيلا، وعن الصفة حقيقة. وإن أجريت على النادر لم يحتج إلى التنزيل المذكور، والقول إنه يمكن أن يجعل ما هِيَ على حذف مضاف- أي ما حالها؟ - فيكون سؤالا عن نوع حال تفرع عليه هذه الخاصية- على بعده- خال عن اللطافة اللائقة بشأن الكتاب العزيز. وما استفهامية خبر مقدم ل هِيَ والجملة في موضع نصب ب يُبَيِّنْ لأنه معلق عنها، وجاز فيه ذلك لشبهه بأفعال القلوب، والمعنى يُبَيِّنْ لَنا جواب هذا السؤال قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ الفارض اسم للمسنة التي انقطعت ولادتها من الكبر، والفعل- فرضت- بفتح الراء

صفحة رقم 286

وضمها- ويقال لكل ما قدم وطال أمره فارِضٌ ومنه قوله:

يا رب ذي ضغن على (فارض) له قروء كقروء الحائض
وكأن المسنة سميت- فارضا- لأنها- فرضت- سنها أي قطعتها وبلغت آخرها، والبكر- اسم للصغيرة، وزاد بعضهم- التي لم تلد من الصغر- وقال ابن قتيبة: هي التي ولدت ولدا واحدا، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجال، وقيل: (١) هي التي لم تحمل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى- والبكر- بفتح الباء- الفتي من الإبل، والأنثى- بكرة- وأصله من التقدم في الزمان، ومنه- البكرة والباكورة- والاسمان صفة (بقرة) ولم يؤت- بالتاء- لأنهما اسمان لما ذكر، واعترضت لا بين الصفة والموصوف وكررت لوجوب تكريرها مع الخبر والنعت والحال إلا في الضرورة خلافا للمبرد وابن كيسان كقوله:
قهرت العدا (لا مستعينا) بعصبة ولكن بأنواع الخدائع والمكر
ومن جعل ذلك من الوصف بالجمل فقدر مبتدأ أي لا هي (فارض ولا بكر) فقد أبعد، إذ الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أيضا أن لا حذف، وذكر يَقُولُ للإشارة إلى أنه من عند الله تعالى لا من عند نفسه.
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أي متوسطة السن، وقيل: هي التي ولدت بطنا أو بطنين، وقيل: مرة بعد مرة ويجمع على فعل كقوله:
طوال مثل أعناق الهوادي نواعم بين أبكار (وعون)
ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر، وفائدة هذا بعد لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ نفى أن تكون عجلا أو جنينا، وأراد من ذلك ما ذكر من الوصفين السابقين وبهذا صح الإفراد وإضافة بَيْنَ إليه فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد وكون الكلام مما حذف منه المعطوف لدلالة المعنى عليه والتقدير عوان بين ذلك وهذا أي- الفارض والبكر- فيكون نظير قوله:
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر (إلا ليال) قلائل
حيث أراد بين الخير وباعثه تكلف مستغنى عنه بما ذكر (٢). واختار السجاوندي أن المراد في وسط زمان الصلاح للعوان واعتداله تقول: سافرت إلى الروم وطفت بين ذلك، فالمشار إليه عوان وارتضاه بعض المحققين مدعيا أنه أولى لئلا يفوت معنى بين ذلك لأن أهل اللغة قالوا: بقرة عوان لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ وعلى الشائع ربما يحتاج الأمر إلى تجريدكما لا يخفى، ثم إن عود الضمائر المذكورة في السؤال والجواب وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة لأن الأول يدل على أن الكلام في البقرة المأمور بذبحها، والثاني يفيد أن المقصد تعيينها وإزالة إبهامها بتلك الصفات كما هو شأن الصفة لا أنها تكاليف متغايرة بخلاف ما إذا ذكر تلك الصفات بدون الإجراء، وقيل: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ فإنه يحتمل أن يكون المقصود منه تبديل الحكم السابق، والقول:- بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجة عما عليه الجنس فسألوا عن حالها وصفتها فوقعت الضمائر لمعينة باعتقادهم فعينت تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد منها أول الأمر معينة- ليس بشيء لأنه حينئذ لم تكن الضمائر عائدة إلى ما أمروا بذبحها بل ما اعتقدوها، والظاهر خلافه واللازم على هذا تأخير البيان عن
(١) القائل ابن قتيبة اهـ منه. [.....]
(٢) فيه لطاعة اهـ منه.

صفحة رقم 287

وقت الخطاب وليس بممتنع والممتنع تأخيره عن وقت الحاجة إلا عند من (١) يجوز التكليف بالمحال وليس بلازم إذ لا دليل على أن الأمر هنا للفور حتى يتوهم ذلك ومن الناس من أنكروا ذلك وادعوا أن المراد بها بقرة من نوع البقر بلا تعيين وكان يحصل الامتثال لو ذبحوا أي بقرة كانت إلا أنها انقلبت مخصوصة بسؤالهم- وإليه ذهب جماعة من أهل التفسير- وتمسكوا بظاهر اللفظ فإنه مطلق فيترك على إطلاقه مع ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا مرسلا وبأنه لو كانت معينة لما عنفهم على التمادي وزجرهم عن المراجعة إلى السؤال، واللازم حينئذ النسخ قبل الفعل بناء على مذهب من يقول الزيادة على الكتاب نسخ كجماهير الحنفية القائلين بأن الأمر المطلق يتضمن التخيير وهو حكم شرعي والتقييد يرفعه وهو جائز بل واقع كما في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج، والممتنع النسخ قبل التمكن من الاعتقاد بالاتفاق لأنه بداء وقبل التمكن من الفعل عند المعتزلة وليس بلازم- على ما قيل- على أنه قيل: يمكن أن يقال: ليس ذلك بنسخ لأن البقرة المطلقة متناولة للبقرة المخصوصة وذبح البقرة المخصوصة ذبح للبقرة مطلقا فهو امتثال للأمر الأولى فلا يكون نسخا واعترض على كون التخيير حكما شرعيا إلخ بالمنع مستندا بأن الأمر المطلق إنما يدل على إيجاب ماهية من حيث هي بلا شرط لكن لما لم تتحقق إلا في ضمن فرد معين جاء التخيير عقلا من غير دلالة النص عليه وإيجاب الشيء لا يقتضي إيجاب مقدمته العقلية إذ المراد بالوجوب الوجوب الشرعي، ومن الجائز أن يعاقب المكلف على ترك ما يشمله مقدمة عقلية ولا يعاقب على ترك المقدمة، ونسب هذا الاعتراض لمولانا القاضي في منهياته- وفيه تأمل- وذكر بعض المحققين أن تحقيق هذا المقام أنه إن كان المراد بالبقرة المأمور بذبحها مطلق البقرة أي بقرة كانت فالنسخ جائز لأن شرط النسخ التمكن من الاعتقاد وهو حاصل بلا ريب، وإن كان البقرة المعينة فلا يجوز النسخ لعدم التمكن من الاعتقاد حينئذ لأنه إنما حصل بعد الاستفسار فاختلاف العلماء في جواز النسخ وعدمه في هذا المقام من باب النزاع اللفظي فتدبر فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي من ذبح البقرة ولا تكرروا السؤال ولا تتعنتوا، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من قول الله تعالى لهم، ويحتمل أن تكون من قول موسى عليه السلام حرضهم على امتثال ما أمروا به شفقة منه عليهم، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به، وقد شاع حذف الجار في هذا الفعل حتى لحق بالمتعدي إلى مفعولين فالمحذوف من أول الأمر هو المنصوب، وأجاز بعضهم أن تكون (ما) مصدرية أي- فافعلوا أمركم- ويكون المصدر بمعنى المفعول كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٦] على أحد الوجهين، وفيه بعد لأن ذلك في الحاصل بالسبك قليل وإنما كثر في صيغة المصدر.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إسناد البيان في كل مرة إلى الله عز وجل لإظهار كمال المساعدة في إجابة مسؤولهم وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة- والفقوع- أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه والوصف به للتأكيد- كأمس الدابر- وكذا في قولهم أبيض ناصع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأخضر ناضر، ولَوْنُها مرفوع ب فاقِعٌ ولم يكتف بقوله صفراء فاقعة لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة فحكم عليها أنها صفراء ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة فابتدأ أولا بوصف البقرة بالصفرة ثم أكد ذلك بوصف اللون بها فكأنه قال: هي صفراء ولونها شديد الصفرة، وعن الحسن سوداء شديدة السواد ولا يخفى أنه خلاف الظاهر

(١) وإليه ذهب أكثر الحنفية وبعض الشافعية اهـ منه.

صفحة رقم 288

لأن الصفرة- وإن استعملها العرب بهذا المعنى- نادرا كما أطلقوا الأسود على الأخضر لكنه في الإبل خاصة على ما قيل في قوله تعالى: جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: ٣٣] لأن سواد الإبل تشوبه صفرة وتأكيده بالفقوع ينافيه لأنه من وصف الصفرة في المشهور، نعم ذكر في اللمع أنه يقال: أصفر فاقع، وأحمر فاقع، ويقال في الألوان: كلها فاقع وناصع إذا أخلصت فعليه لا يرد ما ذكر، ومن الناس من قال: إن الصفرة استعيرت هنا للسواد، وكذا فاقع لشديد السواد وهو ترشيح ويجعل سواده من جهة البريق واللمعان- وليس بشيء، وجوز بعضهم أن يكون لَوْنُها مبتدأ وخبره إما فاقِعٌ أو الجملة بعده، والتأنيث على أحد معنيين، أحدهما لكونه أضيف إلى مؤنث كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه، والثاني أنه يراد به المؤنث إذ هو الصفرة فكأنه قال: صفرتها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ولا يخفى بعد ذلك. والسرور- أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق، وأما نفسه فانشراح مستبطن فيه- وبين السرور، والحبور، والفرح- تقارب لكن السرور هو الخالص المنكتم سمي بذلك اعتبارا بالإسرار، والحبور ما يرى حبره- أي أثره- في ظاهر البشرة وهما يستعملان في المحمود. وأما الفرح فما يحصل بطرا وأشرا ولذلك كثيرا ما يذم كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: ٧٦] والمراد به هنا عند بعض الإعجاب مجازا للزومه له غالبا، والجملة صفة البقرة أي تعجب الناظرين إليها. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ولهذا
كان علي كرم الله تعالى وجهه يرغب في النعال الصفر ويقول من لبس نعلا أصفر قل همه،
ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود لأنها تغم، وقرىء- يسر- بالياء فيحتمل أن يكون لَوْنُها مبتدأ- ويسر- خبره ويكون فاقِعٌ صفة تابعة لصفراء على حد قوله:

وإني لأسقي الشرب (صفراء فاقعا) كأن ذكي المسك فيها يفتق
إلا أنه قليل حتى قيل: بابه الشعر، ويحتمل أن يكون لونها فاعلا ب فاقِعٌ ويسر- إخبار مستأنف.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إعادة للسؤال عن الحال والصفة لا لرد الجواب الأول- بأنه غير مطابق وأن السؤال باق على حاله- بل لطلب الكشف الزائد على ما حصل وإظهار أنه لم يحصل البيان التام.
إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا تعليل لقوله تعالى: ادْعُ كما في قوله تعالى: صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: ١٠٣] وهو اعتذار لتكرير السؤال أي إن البقر الموصوف بما ذكر كثير فاشتبه علينا، والتشابه مشهور في البقر،
وفي الحديث «فتن كوجوه البقر»
أي يشبه بعضها بعضا وقرأ يحيى وعكرمة- والباقر ان الباقر- وهو اسم لجماعة البقر، والبقر اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء ومثله يجوز تذكيره وتأنيثه،- كنخل منقعر، والنخل باسقات- وجمعه أباقر، ويقال فيه: بيقور وجمعه بواقر، وفي البحر إنما سمي هذا الحيوان بذلك لأنه يبقر الأرض أي يشقها للحرث، وقرأ الحسن «تشابه» بضم الهاء جعله مضارعا محذوف التاء وماضيه «تشابه» - وفيه ضمير يعود على البقر على أنه مؤنث، والأعرج كذلك إلا أنه شدد الشين، والأصل- تتشابه- فأدغم، وقرىء تشبه- بتشديد الشين- على صيغة المؤنث من المضارع المعلوم، «ويشبه» بالياء والتشديد على صيغة المضارع المعلوم أيضا، وابن مسعود- «يشّابه» - بالياء والتشديد جعله مضارعا من تفاعل لكنه أدغم التاء في الشين، وقرىء «مشتبه»، و «متشبه»، و «يتشابه» - والأعمش- «متشابه» و «متشابهة» - وقرىء- «تشابهت» - بالتخفيف، وفي مصحف أبيّ بالتشديد، واستشكل بأن التاء لا تدغم إلا في المضارع، وليس في زنة الأفعال فعل ماض على تفاعل بتشديد الفاء ووجه بأن أصله- إن البقرة تشابهت- فالتاء الأولى من البقرة، والثانية من الفعل فلما اجتمع مثلان أدغم نحو- الشجرة تمايلت- إلا أن جعل

صفحة رقم 289

التشابه في بقرة ركيك، والأهون القول بعدم ثبوت هذه القراءة فإن دون تصحيحها على وجه وجيه خرط القتاد، ويشكل أيضا- تشابه- من غير تأنيث لأنه كان يجب ثبوت علامته إلا أن يقال: إنه على حد قوله:
ولا أرض أبقل إبقالها وابن كيسان يجوزه في السعة وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أي إلى عين البقرة المأمور بذبحها، أو لما خفي من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا،
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس- مرفوعا معضلا- وسعيد عن عكرمة- مرفوعا مرسلا- وابن أبي حاتم عن أبي هريرة- مرفوعا موصولا- أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لو لم يستثنوا لما تبينت لهم آخر الأبد»
واحتج بالآية على أن الحوادث بإرادة الله حيث علق فيما حكاه وجود الاهتداء الذي هو من جملة الحوادث بتعلق المشيئة وهي نفس الإرادة وما قصه الله تعالى في كتابه من غير نكير فهو حجة على ما عرف في محله، وهذا مبني على القول بترادف المشيئة والإرادة، وفيه خلاف وأن كون ما ذكر بالإرادة مستلزم لكون جميع الحوادث بها- وفيه نظر- واحتج أيضا بها على أن الأمر قد ينفك عن الإرادة وليس هو الإرادة كما يقوله المعتزلة لأنه تعالى لما أمرهم بالذبح فقد أراد اهتداءهم في هذه الواقعة فلا يكون لقوله: إن شاء الله الدال على الشك وعدم تحقق الاهتداء فائدة بخلاف ما إذا قلنا: إنه تعالى قد يأمر بما لا يريد، والقول بأنه يجوز أن يكون أولئك معتقدين على خلاف الواقع للانفكاك، أو يكون مبنيا على ترددهم في كون الأمر منه تعالى يدفعه التقرير إلا أنه يرد أن الاحتجاج إنما يتم لو كان معنى لَمُهْتَدُونَ الاهتداء إلى المراد بالأمر أما لو كان المراد إن شاء الله اهتداءنا في أمر ما لكنا مهتدين فلا إلا أنه خلاف الظاهر كالقول بأن اللازم أن يكون المأمور به وهو الذبح مرادا ولا يلزمه الاهتداء إذ يجوز أن يكون لتلك الإرادة حكمة أخرى بل هذا أبعد بعيد، والمعتزلة والكرامية يحتجون بالآية على حدوث إرادته تعالى بناء على أنها والمشيئة سواء لأن كلمة إِنَّ دالة على حصول الشرط في الاستقبال وقد تعلق الاهتداء الحادث بها، ويجاب بأن التعليق باعتبار التعلق فاللازم حدوث التعلق ولا يلزمه حدوث نفس الصفة وتوسط الشرط بين اسم إِنَّ وخبرها لتتوافق رؤوس الآي، وجاء خبر إِنَّ اسما لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم وللاعتناء بذلك أكد الكلام.
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ صفة بَقَرَةٌ وهو من الوصف بالمفرد، ومن قال: هو من الوصف بالجملة، وان التقدير لا هي ذلول فقد أبعد عن الصواب، ولا بمعنى غير، وهو اسم على ما صرح به السخاوي وغيره لكن لكونها في صورة الحرف ظهر إعرابها فيما بعدها، ويحتمل أن تكون حرفا- كالا- التي بمعنى غير في مثل قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] والذلول- الريض الذي زالت صعوبته يقال دابة ذلول بينة الذل بالكسر، ورجل ذلول بين الذل بالضم تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ (لا) صلة لازمة لوجوب التكرار في هذه الصورة وهي مفيدة للتصريح بعموم النفي إذ بدونها يحتمل أن يكون لنفي الاجتماع، ولذا تسمى المذكرة والإثارة- قلب الأرض للزراعة من أثرته إذا هيجته، والْحَرْثَ الأرض المهيأة للزرع أو هو شق الأرض ليبذر فيها ويطلق على ما حرث وزرع، وعلى نفس الزرع أيضا، والفعلان صفتا ذَلُولٌ والصفة يجوز وصفها على ما ارتضاه بعض النحاة وصرح به السمين والفعل الأول داخل في حيز النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض- أي لا تثير الأرض- فتذل فهو من باب على لا حب لا يهتدي بمناره ففيه نفي للأصل والفرع معا، وانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، قال الحسن: كانت هذه البقرة وحشية ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض إلخ، وذهب قوم إلى أن تثير مثبت لفظا ومعنى، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ونفى عنها سقي الحرث، ورد بأن ما كان يحرث لا ينتفي عنه كونه

صفحة رقم 290

ذلولا، وقال بعض: المراد أنها تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا، ومن عادة البقر إذا بطرت تضرب بقرونها وأظلافها فتثير تراب الأرض. فيكون هذا من تمام قوله لا ذَلُولٌ لأن وصفها بالمرح، والبطر دليل على ذلك- وليس عندي بالبعيد- وذهب بعضهم كما في الكواشي إلى أن جملة تُثِيرُ في محل نصب على الحال، قال ابن عطية: ولا يجوز ذلك لأنها من نكرة، واعترض بأنه إن أراد بالنكرة بقرة فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا وإن أراد بها لا ذَلُولٌ فمذهب سيبويه جواز مجيء الحال من النكرة وإن لم توصف، وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه اللهم إلا أن يقال: إنه تبع الجمهور في ذلك- وهم على المنع- وجعل الجملة حالا من الضمير المستكن في ذلول أي لا ذَلُولٌ في حال إثارتها ليس بشيء، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: لا ذَلُولٌ بالفتح ف لا للتبرئة، والخبر محذوف أي هناك، والمراد مكان جدت هي فيه، والجملة صفة ذلول، وهو نفي لأن توصف بالذل، ويقال: هي ذلول بطريق الكناية لأنه لو كان في مكان البقرة لكانت موصوفة به ضرورة اقتضاء الصفة للموصوف، فلما لم يكن في مكانها لم تكن موصوفة به فهذا كقولهم محل- فلان- مظنة الجود والكرم، وهذا أولى مما قيل: إن تُثِيرُ خبر لا والجملة معترضة بين الصفة والموصوف لأنه أبلغ كما لا يخفى، وبعضهم خرج القراءة على البناء نظرا إلى صورة لا كما- في كنت بلا مال- بالفتح، وليس بشيء لأن ذلك مقصور على مورد السماع، وليس بقياسي على ما يشعر به كلام الرضي (١) وقرىء «تسقى» بضم حرف المضارعة من أسقى بمعنى سقى، وبعض فرق بينهما بأن سقى لنفسه، وأسقى لغيره كماشيته وأرضه.
مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها أي سلمها الله تعالى من العيوب قاله ابن عباس، أو أعفاها أهلها من سائر أنواع الاستعمال قاله الحسن، أو مطهرة من الحرام لا غصب فيها ولا سرقة قاله عطاء، أو أخلص لونها من الشيات قاله مجاهد، والأولى ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن المطلق ينصرف إلى الكامل ولكونه تأسيسا، وعلى آخر الأقوال يكون لا شِيَةَ فِيها أي لا لون فيها يخالف لونها تأكيدا والتضعيف هنا للنقل والتعدية، ووهم غير واحد فزعم أنه للمبالغة، والشية- مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا إذا زينته بخطوط مختلفة الألوان فحذف فاؤه- كعدة وزنة- ومنه الواشي للنمام، قيل: ولا يقال له: واش حتى يغير كلامه ويزينه، ويقال: ثور أشيه، وفرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع- كل ذلك بمعنى البلقة- وفي البحر ليس الأشيه في قولهم: ثور أشيه للذي فيه بلق مأخوذا من الشية لاختلاف المادتين، وشية- اسم لا وفِيها خبره.
قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي أظهرت حقيقة ما أمرنا به فالحق هنا بمعنى الحقيقة، وقيل: بمعنى الأمر المقضي أو اللازم، وقيل: بمعنى القول المطابق للواقع ولم يريدوا أن ما سبق لم يكن حقا بل أرادوا أنه لم يظهر الحق به كمال الظهور فلم يجىء بالحق بل أومأ إليه فعلى هذه الأقوال لم يكفروا بهذا القول، وأجراه قتادة على ظاهرة وجعله- متضمنا أن ما جئت به من قبل- كان باطلا فقال: إنهم كفروا بهذا القول، والأولى عدم الإكفار، والْآنَ ظرف زمان لازم البناء على الفتح ولا يجوز تجريده من- أل- واستعماله على خلافه لحن، وهي تقتضي الحال وتخلص المضارع له غالبا، وقد جاءت حيث لا يمكن أن تكون له نحو فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: ١٨٧] إذ الأمر نص في الاستقبال وادعى بعضهم إعرابها لقوله
كأنهما ملآن لم يتغيرا
يريد من الآن فجره وهو يحتمل البناء على الكسر،

(١) فإنه قال: ربما فتح نظرا إلى لفظة (لا) فقيل: كنت بلا مال اهـ منه.

صفحة رقم 291

(أل) فيها للحضور عند بعض، وزائدة عند آخرين، وبنيت لتضمنها معنى الإشارة أو لتضمنها معنى- أل- التعريفية- كسحر- وقرىء لان بالمد على الاستفهام التقريري إشارة إلى استبطائه وانتظارهم له.
وقرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وعنه روايتان حذف واو «قالوا» وإثباتها فَذَبَحُوها أي فطلبوا هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها فَذَبَحُوها فالفاء فصيحة عاطفة على محذوف إذ لا يترتب الذبح على مجرد الأمر بالذبح، وبيان صفتها وحذف لدلالة الذبح عليه، وتحصيلها كان باشترائها من الشاب البار بأبويه كما تظافرت عليه أقوال أكثر المفسرين والقصة مشهورة، وقيل:- كانت وحشية فأخذوها، وقيل: لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها الله تعالى من السماء- وهو قول هابط إلى تخوم الأرض، قيل: ووجه الحكمة في جعل البقرة آلة دون غيرها من البهائم أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل وحبب ذلك في قلوبهم، لقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: ٩٣] ثم بعد ما تابوا أراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم ليكون حقيقة لتوبتهم، وقيل:
ولعله ألطف وأولى إن الحكمة في هذا الأمر إظهار توبيخهم في عبادة العجل بأنكم كيف عبدتم ما هو في صورة البقرة مع أن الطبع لا يقبل أن يخلق الله تعالى فيه خاصية يحيا بها ميت بمعجزة نبي؟! وكيف قبلتم قول السامري إنه إلهكم وها أنتم لا تقبلون قول الله سبحانه: إنه يحيا بضرب لحمة منه الميت سبحان الله تعالى؟ هذا الخرق العظيم وَما كادُوا يَفْعَلُونَ كنى على الذبح بالفعل أي- وما كادوا يذبحون- واحتمال أن يكون المراد وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ما أمروا به بعد الذبح من ضرب بعضها على الميت بعيد، وكاد- موضوعة لدنو الخبر حصولا ولا يكون خبرها في المشهور إلا مضارعا دالا على الحال لتأكيد القرب، واختلف فيها فقيل: هي في الإثبات نفي وفي النفي إثبات، فمعنى- كاد زيد يخرج- قارب ولم يخرج وهو فاسد لأن معناها مقاربة الخروج، وأما عدمه فأمر عقلي خارج عن المدلول ولو صح ما قاله لكان قارب ونحوه كذلك ولم يقل به أحد، وقيل: هي في الإثبات إثبات وفي النفي الماضي إثبات وفي المستقبل على قياس الأفعال. وتمسك القائل بهذه الآية لأنه لو كان معنى وَما كادُوا هنا نفيا للفعل عنهم لناقض قوله تعالى: فَذَبَحُوها حيث دل على ثبوت الفعل لهم والحق إنها في الإثبات والنفي كسائر الأفعال، فمثبتها لإثبات القرب، ومنفيها لنفيه، والنفي والإثبات في الآية محمولان على اختلاف الوقتين أو الاعتبارين فلا تناقض إذ من شرطه اتحاد الزمان والاعتبار، والمعنى أنهم ما قاربوا ذبحها حتى انقطعت تعللاتهم فذبحوا كالملجأ أو فذبحوها ائتمارا وَما كادُوا من الذبح خوفا من الفضيحة أو استثقالا لعلو ثمنها حيث روي أنهم اشتروها بملء جلدها ذهبا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، واستشكل القول باختلاف الوقتين بأن الجملة حال من فاعل فَذَبَحُوها فيجب مقارنة مضمونها لمضمون العامل، والجواب بأنهم صرحوا بأنه قد يقيد بالماضي فإن كان مثبتا قرن- بقد- لتقربه من الحال وإن كان منفيا- كما هنا- لم يقرن بها لأن الأصل استمرار النفي فيفيد المقاربة لا يجدي نفعا لأن عدم مقاربة الفعل لا يتصور مقارنتها له، ولهذا عول بعض المتأخرين في الجواب على أن وَما كادُوا يَفْعَلُونَ كناية عن تعسر الفعل وثقله عليهم وهو مستمر باق، وقد صرح في شرح التسهيل أنه قد يقول القائل- لم يكد زيد يفعل- ومراده أنه فعل بعسر لا بسهولة وهو خلاف الظاهر الذي وضع له اللفظ فافهم وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً أي شخصا أو ذا نفس، ونسبة القتل إلى المخاطبين لوجوده فيهم على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح، وقول بعضهم:- إنه لا يحسن إسناد فعل أو قول صدر عن البعض إلى الكل إلا إذا صدر عنه بمظاهرتهم أو رضا منهم- غير مسلم، نعم لا بد لإسناده إلى الكل من نكتة ما، ولعلها هنا الإشارة إلى أن الكل بحيث لا يبعد صدور القتل منهم لمزيد حرصهم وكثرة طمعهم وعظم جرأتهم.

صفحة رقم 292

فهم كأصابع الكفين طبعا... وكل منهم طمع جسور
وقيل: إن القاتل جمع وهم ورثة المقتول، وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله، ولهذا نسب القتل إلى الجمع فَادَّارَأْتُمْ فِيها أصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع فاجتمعت التاء والدال مع تقارب مخرجيهما وأريد الإدغام فقلبت التاء دالا وسكنت للإدغام فاجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بها، وهذا مطرد في كل فعل على تفاعل أو تفعل فاؤه- تاء أو طاء أو ظاء، أو صاد أو ضاد- والتدارؤ هنا إما مجاز عن الاختلاف والاختصام، أو كناية عنه إذ المتخاصمان يدفع كل منهما الآخر أو مستعمل في حقيقته أعني التدافع بأن طرح قتلها كل عن نفسه إلى صاحبه فكل منهما من حيث إنه مطروح عليه يدفع الآخر من حيث إنه طارح، وقيل: إن طرح القتل في نفسه نفس دفع الصاحب- وكل من الطارحين دافع فتطارحهما- تدافع، وقيل: إن كلّا منهما يدفع الآخر عن البراءة إلى التهمة فإذا قال أحدهما:
أنا بريء وأنت متهم يقول الآخر: بل أنت المتهم وأنا البريء ولا يخفى أن ما ذكر على ما فيه بالمجاز أليق، ولهذا عد ذلك أبو حيان من المجاز، والضمير في فِيها عائد على النفس، وقيل: على القتلة المفهومة من الفعل، وقيل: على التهمة الدال عليها معنى الكلام، وقرأ أبو حيوة- «فتدارأتم» - على الأصل، وقيل: قرأ هو وأبو السوار- «فادرأتم» - بغير ألف قبل الراء، وإن طائفة أخرى قرؤوا- «فتدارأتم» - وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر لا محالة ما كنتم تكتمونه من أمر القتيل، والقاتل كما يشير إليه بناء الجملة الاسمية وبناء اسم الفاعل على المبتدأ المفيد لتأكيد الحكم وتقويه- وذلك بطريق التفضل عندنا- والوجوب عند المعتزلة وتقدير المتعلق خاصا هو ما عليه الجمهور، وقيل: يجوز أن يكون عاما في القتيل وغيره، ويكون القتيل من جملة أفراده، وفيه نظر إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى، وأعمل مُخْرِجٌ لأنه مستقبل بالنسبة للحكم الذي قبله، وهو التدارؤ ومضيه الآن لا يضر والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار. وفي البحر- إن كان- للدلالة على تقدم الكتمان.
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
عطف على قوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ وما بينهما اعتراض يفيد أن كتمان القاتل لا ينفعه، وقيل: حال أي والحال أنكم تعلمون ذلك، والهاء في اضْرِبُوهُ
عائد على النفس بناء على تذكيرها إذ فيها التأنيث- وهو الأشهر- والتذكير، أو على تأويل الشخص أو القتيل، أو على أن الكلام على حذف مضاف أي ذا نفس، وبعد الحذف أقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: الأظهر أن التذكير لتذكير المعنى، وإذا كان اللفظ مذكرا والمعنى مؤنثا أو بالعكس فوجهان، وذكر هذا الضمير- مع سبق التأنيث- تفننا أو تمييزا بين هذا الضمير والضمير الذي بعده توضيحا، والظاهر أن المراد بالبعض أي بعض كان إذ لا فائدة في تعينه- ولم يرد به نقل صحيح- واختلف بم ضربوه فقيل: بلسانها أو بأصغريها أو بفخذها اليمنى أو بذنبها أو بالغضروف (١) أو بالعظم الذي يلين أو بالبضعة التي بين الكتفين أو بالعجب أو بعظم من عظامها، ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل، وذلك قبل دفنه، ومن قال: إنهم مكثوا في تطلبها أربعين سنة أو أنهم أمروا بطلبها ولم تكن في صلب ولا رحم قال: إن الضرب على القبر بعد الدفن، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر، وفي بعض الآثار أنه قام وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني ابن أخي، وفي رواية فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا وما ورث قاتل بعد ذلك، وفي بعض القصص أن القاتل حلف بالله تعالى ما قتلته فكذب بالحق بعد معاينته قال الماوردي: وإنما كان الضرب بميت لا حياة فيه لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به فلإزالة الشبهة وتأكد الحجة كان ذلك كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
جملة

(١) هو أصل الأذن اهـ منه.

صفحة رقم 293

اعتراضية تفيد تحقق المشبه وتيقنه بتشبيه الموعود بالموجود، والمماثلة في مطلق الإحياء، وفي الكلام حذف دلت عليه الجملة أي فضربوه فحيي، والتكلم من الله تعالى مع من حضر وقت الحياة- والكاف- خطاب لكل من يصح أن يخاطب ويسمع هذا الكلام لأن أمر الإحياء عظيم يقتضي الاعتناء بشأنه أن يخاطب به كل من يصح منه الاستماع فيدخل فيه أولئك دخولا أوليا- ويدل على ذلك قوله تعالى: وَيُرِيكُمْ
إلخ ولا بد على هذا من تقدير القول أي قلنا أو وقلنا لهم كذلك ليرتبط الكلام بما قبله، وقيل: حرف الخطاب مصروف إليهم، وكان الظاهر كذلكم على وفق ما بعده إلا أنه أفرده بإرادة كل واحد أو بتأويل فريق ونحوه قصدا للتخفيف، ويحتمل أن يكون التكلم مع من حضر نزول الآية، وعليه لا تقدير إذ ينتظم بدونه بل ربما يخرج معه من الانتظام، وأبعد الماوردي فجعله خطابا من موسى نفسه عليه السلام وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
مستأنف أو معطوف على ما قبله، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى، والمراد بها الدلائل الدالة على أن الله تعالى على كل شيء قدير، ويجوز أن يراد بها هذا الإحياء، والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبار الميت بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادات، وفي المنتخب أن التعبير عن الآية الواحدة بالآيات لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه السلام، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر القتل لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
أي لكي تعقلوا الحياة بعد الموت والبعث والحشر فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: ٢٨] أو لكي يكمل عقلكم أو لعلكم تمتنعون من عصيانه وتعملون على قضية عقولكم، وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتيل ولا يظهر ذلك من الآية ولا أرى لذكر ذلك طائلا سوى الطول هذا.
«ومن باب الإشارة» إن البقرة هي النفس الحيوانية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة النظر لا تثير أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة ولا تسقي حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة بمياه التوجه إلى حضرة القدس والسير إلى رياض الأنس، وقد سلمت لترعى أزهار الشهوات ولم تقيد بقيود الآداب والطاعات فلم يرسخ فيها مذهب واعتقاد، ولم يظهر عليها ما أودع فيها من أنوار الاستعداد، وذبحها قمع هواها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة فمن أراد أن يحيا قلبه حياة طيبة ويتحلى بالمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وينكشف له حال الملك والملكوت وتظهر له أسرار اللاهوت والجبروت ويرتفع ما بين عقله ووهمه من التدارؤ والنزاع الحاصل بسبب الإلف للمحسوسات فليذبحها وليوصل أثره إلى قلبه الميت فهناك يخرج المكتوم وتفيض بحار العلوم وهذا الذبح هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر وعقباه الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية

ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
وقد أشير بالشيخ والعجوز والطفل والشاب المقتول على ما في بعض الآثار في هذه القصة إلى الروح والطبيعة الجسمانية والعقل والقلب وتطبيق سائر ما في القصة بعد هذا إليك هذا وسلام الله تعالى عليك.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ القسوة في الأصل اليبس والصلابة وقد شبهت هنا حال قلوبهم وهي نبوها عن الاعتبار بحال قسوة الحجارة في أنها لا يجري فيها لطف العمل ففي قَسَتْ استعارة تبعية أو تمثيلية، وثُمَّ لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها، وقيل: إنها للتراخي في الزمان لأنهم قست قلوبهم بعد مدة حين قالوا: إن الميت كذب عليهم أو أنه عبارة عن قسوة عقبهم، والضمير في قُلُوبُكُمْ لورثة القتيل عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعند

صفحة رقم 294

أبي العالية وغيره لبني إسرائيل مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي إحياء القتيل، وقيل: كلامه، وقيل: ما سبق من الآيات التي علموها- كمسخهم قردة وخنازير، ورفع الجبل، وانبجاس الماء والإحياء- وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعليه تكون ثُمَّ قَسَتْ إلخ عطفا على مضمون جميع القصص السابقة والآيات المذكورة، وعلى سابقه تكون عطفا على قصة وَإِذْ قَتَلْتُمْ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أي في القسوة وعدم التأثر والجمع لجمع القلوب وللإشارة إلى أنها متفاوتة في القسوة كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة- والكاف- للتشبيه وهي حرف عند سيبويه، وجمهور النحويين والأخفش يدعي اسميتها وهي متعلقة هنا بمحذوف أي كائنة كالحجارة خلافا لابن عصفور إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أي من الحجارة فهي كالحديد مثلا أو كشيء لا يتأثر أصلا ولو وهما، وأَوْ لتخيير المبالغ ويكون في التشبيه كما يكون بعد الأمر أو للتنويع أي بعض كَالْحِجارَةِ وبعض أَشَدُّ أو للترديد بمعنى تجويز الأمرين مع قطع النظر عن الغير على ما قيل، أو بمعنى بل ويحتاج إلى تقدير مبتدأ إذا قلنا باختصاص ذلك بالجمل، أو بمعنى الواو أو للشك وهو لاستحالته عليه تعالى يصرف إلى الغير والعلامة لا يرتضي ذلك لما أنه يؤدي إلى تجويز أن يكون معاني الحروف بالقياس إلى السامع، وفيه إخراج للألفاظ عن أوضاعها فإنها إنما وضعت ليعبر بها المتكلم عما في ضميره، والحق جواز اعتبار السامع في معاني الألفاظ عند امتناع جريها على الأصل بالنظر إلى المتكلم فلا بأس بأن يسلك ب أَوْ في الشك مسلك لعل في الترجي الواقع في كلامه تعالى فتلك جادة مسلوكة لأهل السنة وقد مرت الإشارة إلى ذلك فتذكر، وأَشَدُّ عطف على كَالْحِجارَةِ من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول:
زيد على سفر أو مقيم، وقدر بعضهم أو هي أَشَدُّ فيصير من عطف الجمل، ومن الناس من يقدر مضافا محذوفا أي مثل ما هو أشد، ويجعله معطوفا على الكاف إن كان اسما أو مجموع الجار والمجرور إذا كان حرفا، ثم لما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه، ولا يخفى أن اعتبار التشبيه في جانب المعطوف بدون عطفه على المجرور بالكاف مستبعد جدا، وقرأ الأعمش أَوْ أَشَدُّ مجرورا بالفتحة لكونه غير منصرف للوصف ووزن الفعل وهو عطف على الحجارة واعتبار التشبيه حينئذ ظاهر وإنما لم يقل سبحانه وتعالى- أقسى- مع أن فعل القسوة مما يصاغ منه أفعل وهو أخصر ووارد في الفصيح كقوله:

كل خمصانة أرق من الخم ر بقلب (أقسى) من الجلمود
لما في أشد من المبالغة لأنه يدل على الزيادة بجوهره وهيئته بخلاف أقسى فإن دلالته بالهيئة فقط، وفيه دلالة على اشتداد القسوتين ولو كان أقسى لكان دالا على اشتراك القلوب والحجارة في القسوة، واشتمال القلوب على زيادة القسوة لا في شدة القسوة وليس هذا مثل قولك زيد أشد إكراما من عمرو حيث ذكروا أن ليس معناه إلا أنهما مشتركان في الإكرام وإكرام زيد زيد على إكرام عمرو لا أنهما مشتركان في شدة الإكرام، وشدة إكرام زيد زائدة على شدة إكرام عمرو للفرق بين ما بني للتوصل وما بني لغيره وما نحن فيه من الثاني وإن كان الأول أكثر. والاعتراض- بأن أشد محمول على القلوب دون القسوة- ليس بشيء لأنه محمول عليها بحسب المعنى لكونها تمييزا محولا عن الفاعل أو منقولا عن المبتدأ كما في البحر، ويمكن أن يقال: إن الله تعالى أبرز القساوة في معرض العيوب الظاهرة تنبيها على أنها من العيوب بل العيب كل العيب ما صد عن عالم الغيب فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: ٤٦].
وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تذييل لبيان تفضيل قلوبهم على الحجارة أو اعتراض بين قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ وبين الحال

صفحة رقم 295

عنها وهو وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ لبيان سبب ذلك فإنه لغرابته يحتاج إلى بيان السبب كما في قوله:

فلا هجرة يبدو وفي اليأس راحة ولا وصفه يصفو لنا (فنكارمه)
وجعله جملة حالية مشعرة بالتعليل يأباه الذوق إذ لا معنى للتقييد، وكونه بيانا وتقريرا من جهة المعنى لما تقدم- مع كونه بحسب اللفظ معطوفا على جملة- هي كالحجارة أو أشد- كما قاله العلامة- مما لا يظهر وجهه لأنه إذا كان بيانا في المعنى كيف يصح عطفه ويترك جعله بيانا، والمعنى أن الحجارة تتأثر وتنفعل، وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمر الله تعالى أصلا، وقد ترقى سبحانه في بيان التفضيل كأنه بين أو لا تفضيل قلوبهم في القساوة على الحجارة التي تتأثر تأثرا يترتب عليه منفعة عظيمة من تفجر الأنهار، ثم على الحجارة التي تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة من خروج الماء ثم على الحجارة التي تتأثر من غير منفعة فكأنه قال سبحانه: قلوب هؤلاء أشد قسوة من الحجارة لأنها لا تتأثر بحيث يترتب عليه المنفعة العظيمة بل الحقيرة بل لا تتأثر أصلا، وبما ذكر يظهر نكتة ذكر تفجر الأنهار وخروج الماء، وترك فائدة الهبوط، وذكر غير واحد أن الآية واردة على نهج التتميم دون الترقي- كالرحمن الرحيم- إذ لو أريد الترقي لقيل- وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يتفجر منه الأنهار- وفائدته استيعاب جميع الانفعالات التي على خلاف طبيعة هذا الجوهر، وهو أبلغ من الترقي، ويكون وَإِنَّ مِنْها الأخير تتميما للتتميم، ولا يخفى أنه يرد عليه منع إفادته لاستيعاب جميع الانفعالات وخلوه عن لطافة ما ذكرناه، والتفجر- التفتح بسعة وكثرة كما يدل عليه جوهر الكلمة وبناء التفعل، والمراد من الأنهار الماء الكثير الذي يجري في الأنهار، والكلام إما على حذف المضاف، أو ذكر المحل وإرادة الحال أو الإسناد مجازي، قال بعض المحققين: وحملها على المعنى الحقيقي وهم إذ التفتح لا يمكن إسناده إلى الأنهار اللهم إلا بتضمين معنى الحصول بأن يقال: يتفجر ويحصل منه الأنهار على أن تفجير الحجارة بحيث تصير نهرا غير معتاد فضلا عن كونها أنهارا، والتشقق التصدع بطول أو بعرض، والخشية الخوف، واختلف في المراد منها فذهب قوم- وهو المروي عن مجاهد وغيره- أنها هنا حقيقة، وهي مضافة إلى الاسم الكريم من إضافة المصدر إلى مفعوله- أي من خشية الحجارة الله- ويجوز أن يخلق الله تعالى العقل والحياة في الحجر، واعتدال المزاج والبنية ليسا شرطا في ذلك خلافا للمعتزلة، وظواهر الآيات ناطقة بذلك،
وفي الصحيح «إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث»
وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وورد في- الحجر الأسود- أنه يشهد لمن استلمه، وحديث تسبيح الحصى بكفه الشريف صلّى الله عليه وسلّم مشهور، وقيل: هي حقيقة، والإضافة هي الإضافة إلا أن الفاعل محذوف هو العباد، والمعنى أن مِنَ الْحِجارَةِ ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزال من خشية عباد الله تعالى إياه، وتحقيقه أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط فيؤول المعنى أنه يهبط من أجل أن يحصل خشية العباد الله تعالى.
وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في مِنْها لَما يَهْبِطُ عائد على القلوب، والمعنى أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن وترجع إلى الله تعالى، وهي قلوب المخلصين، فكني عن ذلك بالهبوط، وقيل: إنها حقيقة إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد بالحجر البرد، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله وهذا القول أبرد من الثلج وما قبله أكثف من الحجر وما قبلهما بين بين وقال قوم: إن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم، ولا ينبغي أن تحمل على حقيقتها، أما على القول بأن اعتدال المزاج والبنية شرط وما ورد مما يقتضي خلافه محمول على أن الله تعالى قرن ملائكته بتلك الجمادات، ومنها هاتيك الأفعال ونحو «هذا جبل يحبنا ونحبه» على حذف مضاف أي يحبنا أهله ونحب أهله فظاهر.

صفحة رقم 296
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية