آيات من القرآن الكريم

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ

ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَسْلَكَهُمْ فِي الْغَوَايَةِ وَالْإِغْوَاءِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ عَنْهُ. فَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِهِمُ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةٍ يُبْعَثُونَ فِيهِمْ وَيَعْمَلُونَ الْعَجَائِبَ، وَجَاءَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّهُ - تَعَالَى - يَبْعَثُ فِيهِمْ نَبِيًّا مَنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يُقِيمُ بِهِ أُمَّةً، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ وَلَدِ الْجَارِيَةِ (هَاجَرَ) وَبَيَّنَ عَلَامَاتِهِ بِمَا لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَلَكِنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّؤَسَاءَ كَانُوا يَلْبِسُونَ عَلَى الْعَامَّةِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نَعَتَتْهُمُ الْكُتُبُ بِالْكَذَبَةِ (حَاشَاهُ) وَيَكْتُمُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ نُعُوتِهِ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ عَلَى سِوَاهُ، وَمَا يَعْلَمُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ وَمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَكُلُّهُ ظَاهِرٌ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَكْمَلِ الْمَظَاهِرِ.
وَمِنَ اللَّبْسِ أَيْضًا مَا يَفْتَرِيهِ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَحْبَارُ فَيَكُونُ صَادًّا لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَعَنِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ عَنْ ضَلَالٍ وَجَهْلٍ، وَهُوَ لَبْسُ أُصُولِ الدِّينِ بِالْمُحْدَثَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الَّتِي زَادُوهَا عَلَى الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ
الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَفْعَالِهِمْ، فَكَانُوا يُحَكِّمُونَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ فِي الدِّينِ حَتَّى فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ الْأَقْدَمِينَ أَعْلَمُ بِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَشَدُّ اتِّبَاعًا لَهُمْ، فَهُمُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمُ الْأَخْذُ بِمَا يَقُولُونَ دُونَ مَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ فَهْمُ كَلَامِهِمْ بِزَعْمِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ لَمْ يَقْبَلْ هَذَا الْعُذْرَ مِنْهُمْ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ اللَّبْسَ وَكِتْمَانَ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ترْكَ كِتَابِهِ لِكَلَامِ الرُّؤَسَاءِ بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَفَهْمًا، فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ مِنْ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ الْإِنْسَانُ أَهْلَ الْفَهْمِ عَمَّا لَا يَعْلَمُ مِنْهُ لِيَعْلَمَ فَيَعْمَلَ.
ثُمَّ قَالَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) فَبَعْدَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ دَعَاهُمْ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِعِ الْمُرْضِي لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَكَانُوا ضَلُّوا عَنْهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ الرُّسُومِ، فَقَدْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ هِيَ الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ مُقَوَّمًا كَامِلًا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِالْقَلْبِ وَالْخُشُوعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، فَهَذَا هُوَ رُوحُ الصَّلَاةِ الَّذِي شُّرِعَتْ لِأَجْلِهِ وَلَمْ تُشْرَعْ لِهَذِهِ الصُّورَةِ؛ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَتَغَيَّرُ فِي حُكْمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ؛ لِأَنَّهَا رَابِطَةٌ مُذَكِّرَةٌ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْأَنْبِيَاءِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الرُّوحَ لَا يَتَغَيَّرُ فَهُوَ وَاحِدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ نَبِيٌّ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي دِينٍ.
ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي تُطَهِّرُ الرُّوحَ وَتُقَرِّبُهَا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِيمَانِ وَمَظْهَرُ شُكْرِ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ وَالصِّلَةُ الْعَظِيمَةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ قَرْنُ الْأَمْرِ بِإِتْيَانِ الزَّكَاةِ بِالْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ لَا يَنْسَى اللهَ - تَعَالَى - وَلَا يَغْفُلُ عَنْ فَضْلِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ. مُوَاسَاةً لِعِيَالِهِ، وَمُسَاعَدَةً عَلَى مَصَالِحِهِمُ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ مَصْلَحَتِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنَ النَّاسِ بِحِذْقِهِ وَعَمَلِهِ مَعَهُمْ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ

صفحة رقم 243

غَنِيًّا إِلَّا بِهِمْ وَمِنْهُمْ، فَإِذَا عَجَزَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْكَسْبِ لِآفَةٍ فِي فِكْرِهِ وَنَفْسِهِ أَوْ عِلَّةٍ فِي بَدَنِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ الْأَخْذُ بِيَدِهِ، وَأَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لَهُ حِفْظًا لِلْمَجْمُوعِ الَّذِي تَرْتَبِطُ مَصَالِحُ بَعْضِهِ بِمَصَالِحِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا مَيَّزَهُمْ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْغَنِيَّ فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ
إِلَى الْفَقِيرِ كَمَا أَنَّ الْفَقِيرَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَمْرَضُ فَتَغْفُلُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ فِي بَذْلِ الْمَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْفَقِيرِ وَالضَّعِيفِ مُبَالَغَةً وَغُلُوًّا فِي حُبِّ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ كَمَا يَقُولُونَ؛ لِهَذَا جَعَلَ اللهُ بَذْلَ الْمَالِ وَالْإِنْفَاقَ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَجَعَلَ الْبُخْلَ مِنْ آيَاتِ النِّفَاقَ وَالْكُفْرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَعْضِ الْآيَاتِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْبُخْلَ - وَمَنْبَعُهُ الْقَسْوَةُ عَلَى عِبَادِ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ اسْتِرْسَالًا فِي الشَّهَوَاتِ وَمَيْلًا مَعَ الْأَهْوَاءِ - لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ قَطُّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَتَّى يَقُومَ بِمَا أَمَرَ اللهُ فِيمَا طَلَبَ مِنْهُ عَلَى مَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى.
ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ بِالرُّكُوعِ مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَالرُّكُوعُ صُورَةُ الصَّلَاةِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ أَخَّرَهُ وَلَمْ يَصِلْهُ بِالصَّلَاةِ لِحِكْمَةٍ جَلِيلَةٍ لَا رِعَايَةَ لِلْفَاصِلَةِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَلَيْسَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْرَضُ فِيهِ إِخْلَالٌ بِالْمَعْنَى لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، بَلْ هَذَا لَا يَرْتَضِيهِ الْبُلَغَاءُ مِنَ النَّاسِ فَكَيْفَ يَقَعُ فِي كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى -؟
وَإِنَّمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ الثَّلَاثَةُ مُرَتَّبَةً كَمَا يُحِبُّ اللهُ - تَعَالَى -؛ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا رُوحُ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَيَلِيهَا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى زَكَاةِ الرُّوحِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَهُوَ صُورَةُ الصَّلَاةِ الْبَدَنِيَّةِ أَوْ بَعْضُ صُورَتِهَا أُشِيرَ بِهِ إِلَيْهَا فَهُوَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ فَرْضٌ لِلتَّذْكِيرِ بِسَابِقَيْهِ وَمَا هُوَ بِعِبَادِهٍ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عِبَادَةً لِأَنَّهُ يُؤَدَّى امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِظْهَارًا لِخَشْيَتِهِ، وَالْخُشُوعِ لِعَظَمَتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَصِيرُ عَادَةً لَا يُلَاحَظُ فِيهَا امْتِثَالٌ وَلَا إِخْلَاصٌ فَلَا يُعَدُّ عِنْدَ اللهِ شَيْئًا، وَإِنْ عَدَّهُ أَهَّلُ الرُّسُومِ كُلَّ شَيْءٍ، بِخِلَافِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَصُورَتِهَا بِالزَّكَاةِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الزَّكَاةِ. وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى.

صفحة رقم 244
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية