
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل﴾ : الباءُ: [هنا] معناها الإِلصاقُ، كقولِك: خَلَطْتُ الماءَ باللبن، أَي: لاَ تَخْلِطوا الحقَّ
صفحة رقم 320
بالباطلِ فلا يتميَّزَ. وقال الزمخشري: «إنْ كانت صلةً مثلَها في قولك لَبَسْتَ الشيء بالشيء وخَلَطْتُه به كان المعنى: ولا تكتُبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلِطُ الحقَّ المُنَزَّلُ بالباطلِ الذي كتبتم. وإن كانت باءَ الاستعانةِ كالتي في قولِك: كتبْتُ بالقلَمِ كان المعنى: ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطِلكم الذي تكتبونَه» فأجازَ فيها وجهين كما ترى، ولا يريدُ بقوله: «صلة» أنها زائدةٌ بل يريدُ أنها مُوصِلَةٌ للفعلِ، كما تقدَّم. قال الشيخ: «وفي جَعْلِهِ إياها للاستعانةِ بُعْدٌ وصَرْفٌ عن الظاهرِ مِنْ غيرِ ضرورةٍ، ولا أدري ما هذا الاستبعادُ من وُضوحِ هذا المعنى الحَسَن؟.
قوله: ﴿وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ فيه وجهان، أحدُهما وهو الأظهرُ: أنَّه مجزومٌ بالعطفِ على الفعلِ قبلَه، نهاهم عن كلِّ فِعل على حِدَتِه أي: لا تفعلوا لا هذا ولا هذا. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ» أَنْ «في جوابِ النهي بعد الواو التي تقتضي المعيةَ، أي: لا تَجْمَعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكتمانِه، ومنه:
٤١١ - لاَ تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثْلَه | عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عظيمُ |
٤١٢ - ترى الجلِيسَ يقولُ الحقَّ تَحْسَبُه | رُشْداً وهيهاتَ فانظُرْ ما به التبسا |
صَدِّقْ مقالتَه واحذَرْ عَداوَتَهُ | والبِسْ عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا |
٤١٣ - لَمَّا لَبَسْنَ الحقَّ بالتجنِّي | غَنِيْنَ واسْتَبْدَلْنَ زيداً مِنِّي |
٤١٤ - وقد لَبَسْتُ لهذا الأمرَ أَعْصُرَهُ | حتى تَجَلَّل رأسي الشيبُ فاشْتَعلا |
٤١ - ٥- صفحة رقم 322

ألا إنَّ بعدَ العُدْمِ للمَرْءِ قُِنْوَةً | وبعدَ المشيبِ طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا |
٤١٦ - وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ | حتى إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لها يَدِي |
والباطلُ ضدُّ الحقِّ، وهو الزائلُ، كقولِ لبيد:
٤١٧ - ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ | ................................... |
وقد بَطُل [بالضم] يَبْطُل بُطولاً وبَطالة أي: صارَ شجاعاً. قال النابغة:
٤١٨ - لَهُمْ لِواءٌ بأيدي ماجدٍ بَطَلٍ | لا يقطَعُ الخَرْقَ إلا طَرْفُه سامي |
قولُه: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نَصْبٍ على صفحة رقم 323

الحال، وعامُلها: إمَّا تَلْبِسوا أو تَكْتُموا، إلاَّ أنَّ عَمَل «تكتموا» أَوْلَى لوجهين، أحدُهما: أنه أقربُ. والثاني: أنَّ كُتْمانَ الحقِّ مع العلمِ به أَبْلَغُ ذمَّاً، وفيه نوعُ مقابلةٍ. ولا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال، لأنه يَسْتدعي الإِضمارَ، ولا يجوزُ إضمارُ الحال، لأنه لا يكونُ إلا نكرةً، ولذلك مَنَعوا الإِخبارَ عنه بالذي. فإنْ قيل: تكونُ المسألةُ من باب الإِعمال على معنى أنَّا حَذَفْنَا من الأولِ ما أثبتناه في الثاني من غيرِ إضمارٍ، حتى لا يَلْزَمَ المحذورُ المذكورُ والتقديرُ: ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ وأنتم تعلمون، ولا تَكْتُموا الحقَّ وأنتم تَعْلَمون. فالجوابُ أنَّ هذا لا يُقال فيه إعمالٌ، لأنَّ الإِعمالَ يَسْتَدْعي أن يُضْمَرَ في المهمل ثم يُحْذَفَ. وأجاز ابن عطية ألاَّ تكونَ هذه الجملةُ حالاً فإنه قال: «ويُحْتمل أن تكونَ شهادةً عليهم بِعِلْمِ حقٍّ مخصوصٍ في أمرِ محمدٍ عليه السلام، ولم يَشْهَدْ لهم بالعلمِ [على الإِطلاق]، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ في موضعِ الحال» وفيما قاله نظرٌ.
وقُرئ شاذاً: «وَتَكْتُمونَ» بالرفع، وخَرَّجوها على أنها حالٌ. وهذا غيرُ صحيحٍ لأنه مضارعٌ مُثْبَتٌ، فمِن حَقِّه الاَّ يقترنَ بالواوِ، وما وَرَد من

ذلك فهو مؤولٌ بإضمار مبتدأ قبلَه قَولِهم: «قُمْتُ وأَصُكُّ عينَه»، وقولِ الآخر:
٤١٩ - فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ | نَجَوْتُ وأَرْهُنُهُمْ مالِكَا |
قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ هذه الجملةُ وما بعدَََهَا عطفٌ على الجملةِ قبلَها، عطفَ أمراً على نَهْي. وأصلُ أَقيموا: «أَقْوِمُوا» فَفُعِل به ما فُعِلَ صفحة رقم 325

﴿يُقِيمُونَ﴾ [البقرة: ٣] وقد تقدَّم، وأصلُ آتُوا: اَأْتِيُوا بهمزتين مثل: أَكْرِموا، فَقُلِبَتْ الثانيةُ ألفاً لسكونِها بعدَ همزةٍ مفتوحةٍ، واسْتُثْقِلَتِ الضَّمةُ على الياءِ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان «الياءُ والواوُ، فحُذِفَتِ الياءُ لأنها أَوَّلُ، وحُرِّكَتِ التاءُ بحركتِها. وقيل: بل ضُمَّت تَبَعاً للواو، كما ضُمَّ آخِرُ» اضْرِبُوا «ونحوِه، ووزنه: أَفْعُوا بحذف اللام.
وألفُ» الزكاة «من واو لقولهم: زَكَوات، وزَكا يَزْكُو، وهي النُمُوُّ، وقيل: الطهارةُ، وقيل: أصلُها الثناءُ الجميلُ ومنه» زَكَّى القاضي الشهودَ «، والزَّكا: [الزوجُ] صارَ زَوْجاً بزيادةِ فردٍ آخرَ عليه. والخَسا: الفَرْدُ: قال:
٤٢٠ - كانوا خَسَاً أوزَكاً من دون أربعةٍ | لَمْ يَخْلُقوا وجُدودُ الناسِ تَعْتِلجُ |
٤٢١ - أُخَبِّرُ أَخْبارَ القرونِ التي مَضَتْ | أَدِبُّ كأِّني كُلَّما قُمْتُ راكِعُ |
٤٢٢ -... صفحة رقم 326