آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)
بَعْدَمَا عَرَّفَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِمَكَانَةِ آدَمَ وَوَجْهِ جَعْلِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أَمَرَهُمْ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالسُّجُودِ فَقَالَ: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وَهُوَ سُجُودٌ لَا نَعْرِفُ صِفَتَهُ، وَلَكِنَّ أُصُولَ الدِّينِ تُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَيْسَ سُجُودَ عِبَادَةٍ إِذْ لَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - وَالسُّجُودُ فِي اللُّغَةِ: التَّطَامُنُ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، وَأَعْظَمُ مَظَاهِرِهِ الْخُرُورُ نَحْوَ الْأَرْضِ لِلْأَذْقَانِ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى التُّرَابِ، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ مِنْ تَحِيَّةِ النَّاسِ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ، وَمِنْهُ سُجُودُ يَعْقُوبَ وَأَوْلَادِهِ لِيُوسُفَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَالسُّجُودُ لِلَّهِ - تَعَالَى - قِسْمَانِ: سُجُودُ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ لَهُ تَعَبُّدًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَسُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا لِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ فِيهَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) (١٣: ١٥) الْآيَةِ، وَقَالَ: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (٥٥: ٦) وَفِي مَعْنَاهِمَا آيَاتٌ: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (٧: ١١، ٢٠: ١١٦) أَيْ سَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقِصَّةِ إِلَّا آيَةَ الْكَهْفِ فَإِنَّهَا نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨: ٥٠) وَلَيْسَ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ فَصْلًا جَوْهَرِيًّا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ أَصْنَافٍ عِنْدَمَا تَخْتَلِفُ أَوْصَافٌ، كَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْجِنَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) (٣٧: ١٥٨) وَعَلَى الشَّيَاطِينِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّاسِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا نَعْلَمُ حَقَائِقَهَا وَلَا نَبْحَثُ عَنْهَا وَلَا نَقُولُ بِنِسْبَةِ شَيْءٍ إِلَيْهَا مَا لَمْ يَرِدْ لَنَا فِيهِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَنِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - إِبْلِيسَ بِأَنَّهُ (أَبَى) السُّجُودَ وَالِانْقِيَادَ (وَاسْتَكْبَرَ)
فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الْحَقِّ تَرَفُّعًا عَنْهُ، وَزَعْمًا بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ عُنْصُرًا، وَأَزْكَى جَوْهَرًا، كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلْقَتَهُ مِنْ طِينٍ) (٧: ١٢) وَالِاسْتِكْبَارُ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَهُوَ الظُّهُورُ بِصِفَةِ الْكِبْرِيَاءِ الَّتِي مِنْ آثَارِهَا التَّرَفُّعُ عَنِ الْحَقِّ، كَأَنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْكِبْرَ لَيْسَ مِنْ طَبِيعَةِ إِبْلِيسَ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لَهُ، ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ وَصْفِهِ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ مِنْ حَقِّ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَاسْتَكْبَرَ وَأَبَى؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ عِنْدَهُ سَبَبُ الِاسْتِكْبَارِ وَالِاسْتِكْبَارُ سَبَبُ الْإِبَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُفَسِّرِ يُعَلِّلُ مُخَالَفَةَ

صفحة رقم 221

التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ فِي النَّظْمِ بِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَلَكِنَّ نَظْمَ الْآيَةِ جَاءَ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ فِي الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَهُوَ الْإِبَاءُ، ثُمَّ يُذْكُرُ سَبَبَهُ وَعِلَّتَهُ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ وَهُوَ الْكُفْرُ.
(أَقُولُ) : وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ((كَانَ)) هُنَا بِمَعْنَى صَارَ، وَخَطَّأَهُ ابْنُ فُورَكَ وَقَالَ: إِنَّ الْأُصُولَ تَرُدُّهُ، وَوَجْهُهُ عِنْدَ قَائِلِهِ: وَصَارَ بِهَذَا الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَافِرِينَ، لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ هَذَا الْعِصْيَانِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْاعْتِرَاضِ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ مَنَاطَ كُفْرِهِ هَذَا الِاعْتِرَاضَ عَلَى رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي الْكُفْرَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْصِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ الْمُذْعِنُ لِأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ إِذَا غَلَبَهُ غَضَبٌ أَوْ شَهْوَةٌ فَعَصَى، وَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْدَمَ وَيَتُوبَ.
وَعِصْيَانُ إِبْلِيسَ رَفْضٌ لِلْإِذْعَانِ وَالِاسْتِسْلَامِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ كُفْرٌ بِغَيْرِ نِزَاعٍ كَكُفْرِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرُّسُلَ بِقُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُمْ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤) وَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَكَانَ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ الْكَافِرِينَ.
ثُمَّ إِنَّ الْأُسْتَاذَ أَعَادَ هُنَا مُلَخَّصَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا، وَكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَتَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ مُلَخَّصًا: تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَلْقٌ غَيْبِيٌّ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ، وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِهِ بِإِخْبَارِ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي نَقِفُ عِنْدَهُ وَلَا نَزِيدُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَصْنَافٌ، لِكُلِّ صِنْفٍ وَظِيفَةٌ وَعَمَلٌ. وَنَقُولُ الْآنَ:
إِنَّ إِلْهَامَ الْخَيْرِ وَالْوَسْوَسَةَ بِالشَّرِّ مِمَّا جَاءَ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الْوَحْيِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أُسْنِدَا إِلَى هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْغَيْبِيَّةِ. وَخَوَاطِرُ الْخَيْرِ الَّتِي تُسَمَّى إِلْهَامًا وَخَوَاطِرُ الشَّرِّ الَّتِي تُسَمَّى الْوَسْوَسَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَحِلُّهُ الرُّوحُ، فَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ إِذَنْ أَرْوَاحٌ تَتَّصِلُ بِأَرْوَاحِ النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُمَثَّلَ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّمَاثِيلِ الْجُثْمَانِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لَنَا (لِأَنَّ هَذِهِ لَوِ اتَّصَلَتْ بِأَرْوَاحِنَا، فَإِنَّمَا تَتَّصِلُ بِهَا مِنْ طُرُقِ أَجْسَامِنَا، وَنَحْنُ لَا نُحِسُّ بِشَيْءٍ بِأَبْدَانِنَا لَا عِنْدَ الْوَسْوَسَةِ وَلَا عِنْدَ الشُّعُورِ بِدَاعِي الْخَيْرِ مِنَ النَّفْسِ، فَإِذَنْ هِيَ مِنْ عَالَمٍ غَيْرِ عَالِمِ الْأَبْدَانِ قَطْعًا) وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مِثْلِ الْآيَةِ: الْإِيمَانُ بِمَضْمُونِهَا مَعَ التَّفْوِيضِ أَوِ الْحَمْلِ عَلَى أَنَّهَا حِكَايَةُ تَمْثِيلٍ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِهَا بِالنَّظَرِ فِي الْحِكَمِ الَّتِي سِيقَتْ لَهَا الْقِصَّةُ.
(وَأَقُولُ) : إِنَّ إِسْنَادَ الْوَسْوَسَةِ إِلَى الشَّيَاطِينِ مَعْرُوفٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا إِسْنَادُ إِلْهَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - وَمِنْ حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْمُحَدَّثِينَ وَكَوْنِ عُمَرَ مِنْهُمْ - وَالْمُحَدَّثُونَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِهَا: الْمُلْهَمُونَ - وَمِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَهُوَ ((إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ

صفحة رقم 222

الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ)) ثُمَّ قَرَأَ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٣: ٢٦٨) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَالرِّوَايَةُ: ((إِيعَادٌ)) فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَمَا قَالُوهُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ أَغْلَبِيٌّ فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَاللَّمَّةُ بِالْفَتْحِ الْإِلْمَامُ بِالشَّيْءِ وَالْإِصَابَةُ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَذْهَبًا آخَرَ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْمَلَائِكَةِ: وَهُوَ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ مُوَكَّلِينَ بِالْأَعْمَالِ مِنْ إِنْمَاءِ نَبَاتٍ وَخِلْقَةِ حَيَوَانٍ وَحِفْظِ إِنْسَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الْخَاصَّةِ بِمَا هُوَ أَدَقُّ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا النُّمُوَّ فِي النَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِرُوحِ خَاصٍّ نَفَخَهُ اللهُ فِي الْبَذْرَةِ فَكَانَتْ بِهِ هَذِهِ الْحَيَاةُ النَّبَاتِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، فَكُلُّ أَمْرٍ كُلِّيٍّ قَائِمٍ بِنِظَامٍ مَخْصُوصٍ تَمَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي إِيجَادِهِ، فَإِنَّمَا قِوَامُهُ بِرُوحٍ إِلَهِيٍّ
سُمِّيَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَلَكًا، وَمَنْ لَمْ يُبَالِ فِي التَّسْمِيَةِ بِالتَّوْقِيفِ يُسَمِّي هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ، إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مِنْ عَالَمِ الْإِمْكَانِ إِلَّا مَا هُوَ طَبِيعَةٌ أَوْ قُوَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الطَّبِيعَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ هُوَ أَنَّ فِي بَاطِنِ الْخِلْقَةِ أَمْرًا هُوَ مَنَاطُهَا، وَبِهِ قِوَامُهَا وَنِظَامُهَا، لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُنْكِرَهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ مَلَكًا وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ قُوَّةً طَبِيعِيَّةً أَوْ نَامُوسًا طَبِيعِيًّا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ. فَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ وَالْعَاقِلُ مَنْ لَا تَحْجِبُهُ الْأَسْمَاءُ عَنِ الْمُسَمَّيَاتِ (وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَرَى لِلْأَرْوَاحِ وَجُودًا لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ، وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ الرُّوحَ وَلَكِنْ أَعْرِفُ قُوَّةً لَا أَفْهَمُ حَقِيقَتَهَا. وَلَا يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ عَلَامَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ، وَكَلٌّ يُقِرُّ بِوُجُودِ شَيْءٍ غَيْرِ مَا يَرَى وَيُحِسُّ وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ، وَلَا يَصِلُ بِعَقْلِهِ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَمَاذَا عَلَى هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَقَدِ اعْتَرَفَ بِمَا غُيِّبَ عَنْهُ لَوْ قَالَ: أُصَدِّقُ بِغَيْبٍ أَعْرِفُ أَثَرَهُ، وَإِنْ كُنْتُ لَا أُقَدِّرُهُ قَدْرَهُ، فَيَتَّفِقُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، وَيَفْهَمُ بِذَلِكَ مَا يَرِدُ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَيَحْظَى بِمَا يَحْظَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ؟).
يَشْعُرُ كُلُّ مَنْ فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَوَازَنَ بَيْنَ خَوَاطِرِهِ عِنْدَمَا يَهِمُّ بِأَمْرٍ فِيهِ وَجْهٌ لِلْحَقِّ أَوْ لِلْخَيْرِ، وُوَجْهٌ لِلْبَاطِلِ أَوْ لِلشَّرِّ، بِأَنَّ فِي نَفْسِهِ تَنَازُعًا كَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ عُرِضَ فِيهَا عَلَى مَجْلِسِ شُورَى فَهَذَا يُورِدُ وَذَاكَ يَدْفَعُ، وَاحِدٌ يَقُولُ: افْعَلْ، وَآخَرُ يَقُولُ: لَا تَفْعَلْ، حَتَّى يَنْتَصِرَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، وَيَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْخَاطِرَيْنِ، فَهَذَا الشَّيْءُ الَّذِي أُودِعَ فِي أَنْفُسِنَا، وَنُسَمِّيهِ قُوَّةً وَفِكْرًا - وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَى لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ، وَرُوحٌ لَا تُكْتَنَهُ حَقِيقَتُهَا، لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَلَكًا

صفحة رقم 223

(أَوْ يُسَمِّيَ أَسْبَابَهُ مَلَائِكَةً) أَوْ مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ لَا حَجْرَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَكَيْفَ يَحْجُرُ فِيهَا عَلَى صَاحِبِ الْإِرَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالسُّلْطَانِ النَّافِذِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ؟
(وَأَقُولُ) : إِنَّ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ سَبَقَ بَيَانَ هَذَا الْمَعْنَى وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّبَبِ وَقَالَ: إِنَّهُ سُمِّيَ مَلَكًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا قَسَّمَ الْخَوَاطِرَ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ قَالَ: " ثُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ حَادِثَةٌ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ حَادِثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَمَهْمَا اخْتَلَفَتِ
الْحَوَادِثُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ، هَذَا مَا عُرِفَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ، فَمَهْمَا اسْتَنَارَتْ حِيطَانُ الْبَيْتِ بِنُورِ النَّارِ وَأَظْلَمَ سَقْفُهُ بِالدُّخَانِ عَلِمْتَ أَنَّ سَبَبَ السَّوَادِ غَيْرُ سَبَبِ الِاسْتِنَارَةِ، وَكَذَلِكَ لِأَنْوَارِ الْقَلْبِ وَظُلْمَتِهِ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَسَبَبُ الْخَاطِرِ الدَّاعِي إِلَى الْخَيْرِ يُسَمَّى مَلَكًا، وَسَبَبُ الْخَاطِرِ الدَّاعِي إِلَى الشَّرِّ يُسَمَّى شَيْطَانًا، وَاللُّطْفُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ الْقَلْبُ لِقَبُولِ إِلْهَامِ الْخَيْرِ يُسَمَّى تَوْفِيقًا، وَالَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ لِقَبُولِ الشَّرِّ يُسَمَّى إِغْوَاءً وَخِذْلَانًا، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ تَحْتَاجُ إِلَى أَسَامِي مُخْتَلِفَةٍ " اهـ الْمُرَادُ مِنْهُ فَلْيُرَاجِعْهُ فِي كِتَابِ شَرْحِ عَجَائِبِ الْقَلْبِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ.
فَإِذَا صَحَّ الْجَرْيُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ فِي الْآيَةِ إِلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَدَبَّرَهَا بِمَا شَاءَ مِنَ الْقُوَى الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهَا وَنِظَامُهَا، وَجَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْقُوَى مَخْصُوصًا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَا يَتَعَدَّى مَا حُدِّدَ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ الَّذِي خُصَّ بِهِ، خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ وَأَعْطَاهُ قُوَّةً يَكُونُ بِهَا مُسْتَعِدًّا لِلتَّصَرُّفِ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْقُوَى وَتَسْخِيرِهَا فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْقُوَى لَهُ بِالسُّجُودِ الَّذِي يُفِيدُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالتَّسْخِيرِ، وَجَعَلَهُ بِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَمْ يُعْطَ لِغَيْرِهِ خَلِيفَةَ اللهِ فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقُوَى قُوَّةً وَاحِدَةً عَبَّرَ عَنْهَا بِإِبْلِيسَ، وَهِيَ الْقُوَّةُ الَّتِي (لَزَّهَا اللهُ بِهَذَا الْعَالَمِ لَزًّا، وَهِيَ الَّتِي تَمِيلُ بِالْمُسْتَعِدِّ لِلْكَمَالِ أَوْ بِالْكَامِلِ إِلَى النَّقْصِ وَتُعَارِضُ مَدَّ الْوُجُودِ لِتَرُدَّهُ إِلَى الْعَدَمِ أَوْ تَقْطَعَ سَبِيلَ الْبَقَاءِ وَتَعُودَ بِالْمَوْجُودِ إِلَى الْفَنَاءِ أَوِ الَّتِي) تُعَارِضُ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَصُدُّ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتُنَازِعُ الْإِنْسَانَ فِي صَرْفِ قُوَاهُ إِلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا خِلَافَتُهُ فَيَصِلُ إِلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيِّ الَّتِي خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا (تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي ضَلَّلَتْ آثَارُهَا قَوْمًا فَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْعَالَمِ إِلَهًا يُسَمَّى إِلَهَ الشَّرِّ. وَمَا هِيَ بِإِلَهٍ وَلَكِنَّهَا مِحْنَةُ إِلَهٍ لَا يَعْلَمُ أَسْرَارَ حِكْمَتِهِ إِلَّا هُوَ).
(قَالَ) : وَلَوْ أَنَّ نَفْسًا مَالَتْ إِلَى قَبُولِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَمْ تَجِدْ فِي الدِّينِ مَا يَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ وَرُكُونِ النَّفْسِ إِلَى مَا أَبْصَرَتْ مِنَ الْحَقِّ.
(وَأَقُولُ) : إِنَّ غَرَضَ الْأُسْتَاذِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِيمَاءِ وَبِالْإِشَارَةِ
إِقْنَاعُ مُنْكِرِي الْمَلَائِكَةِ بِوُجُودِهِمْ، بِتَعْبِيرٍ مَأْلُوفٍ عِنْدَهُمْ تَقْبَلُهُ عُقُولُهُمْ، وَقَدِ اهْتَدَى بِهِ

صفحة رقم 224

كَثِيرُونَ، وَضَلَّ بِهِ آخَرُونَ فَأَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ قُوًى لَا تَعْقِلُ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ كِتَابَةً بِمَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ:
(وَلَسْتُ أُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فَعَلَتِ الْعَادَةُ وَالتَّقَالِيدُ فِي أَنْفُسِ بَعْضِ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُتَشَدِّدِينَ فِي الدِّينِ إِذْ يَنْفِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي كَمَا يَنْفِرُ الْمَرْضَى أَوِ الْمُخَدَّجُونَ مِنْ جَيِّدِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّهُمْ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا قِوَامُ بِنْيَتِهِمْ، وَيَتَشَبَّثُونَ بِأَوْهَامٍ مَأْلُوفَةٍ لَهُمْ تَشَبُّثَ أُولَئِكَ الْمَرْضَى وَالْمُخَدَّجِينَ بِأَضَرِّ طَعَامٍ يُفْسِدُ الْأَجْسَامَ وَيَزِيدُ السَّقَامَ، لَا أَعْرِفُ مَا الَّذِي فَهِمُوهُ مِنْ لَفْظِ رُوحٍ أَوْ مَلَكٍ، وَمَا الَّذِي يَتَخَيَّلُونَهُ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظِ قُوَّةٍ، أَلَيْسَ الرُّوحُ فِي الْآدَمِيِّ مَثَلًا هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَإِذَا سُلِبُوهُ سُلِبُوا مَا يُسَمَّى بِالْحَيَاةِ؟ أَوَلَيْسَتِ الْقُوَّةُ هِيَ مَا تَصْدُرُ عَنْهُ الْآثَارُ فِيمَنْ وُهِبَتْ لَهُ، فَإِذَا سُمِّيَ الرُّوحُ لِظُهُورِ أَثَرِهِ قُوَّةً، أَوْ سُمِّيَتِ الْقُوَّةُ لِخَفَاءِ حَقِيقَتِهَا رُوحًا فَهَلْ يَضُرُّ ذَلِكَ بِالدِّينِ أَوْ يَنْقُصُ مُعْتَقِدُهُ شَيْئًا مِنَ الْيَقِينِ؟.
أَلَّا لَا يُسَمَّى الْإِيمَانُ إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ إِذْعَانًا، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يَسْتَسْلِمَ الْوِجْدَانُ وَتَخْشَعَ الْأَرْكَانُ لِذَلِكَ السُّلْطَانِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْإِيمَانُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يُلْقِيَ الْوَهْمُ سِلَاحَهُ وَيَبْلُغَ الْعَقْلُ فَلَاحَهُ، وَهَلْ يُسْتَكْمَلُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مَا يُمْكِنُهُ فَهْمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ عِلْمُهُ؟ كَلَّا إِنَّمَا يَعْرِفُ الْحَقُّ أَهْلَهُ وَلَا يَضِلُّ سُبُلَهُ، وَلَا يَعْرِفُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ، لَوْ أَنَّ مِسْكِينًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَلْفَاظِ مِنْ أَشَدِّهِمْ ذَكَاءً وَأَذْرَبِهِمْ لِسَانًا أَخَذَ بِمَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّشَكُّلِ،
ثُمَّ تَطَلَّعَ عَقْلُهُ إِلَى أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى نُورَانِيَّةِ الْأَجْسَامِ، وَهَلِ النُّورُ وَحْدَهُ لَهُ قِوَامٌ يَكُونُ بِهِ شَخْصًا مُمْتَازًا بِدُونِ أَنْ يَقُومَ بِجِرْمٍ آخَرَ كَثِيفٍ ثُمَّ يَنْعَكِسُ عَنْهُ كَذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ أَوْ سِلْكِ الْكَهْرَبَاءِ، وَمَعْنَى قَابِلِيَّةِ التَّشَكُّلِ، وَهَلْ يُمْكِنُ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَنْ يَتَقَلَّبَ فِي أَشْكَالٍ مِنَ الصُّوَرِ مُخْتَلِفَةٍ حَسْبَمَا يُرِيدُ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، أَلَا يَقَعُ فِي حَيْرَةٍ؟ وَلَوْ سُئِلَ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ مِنْ ذَلِكَ أَلَا يُحْدِثُ فِي لِسَانِهِ مِنَ الْعُقَدِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ حَلَّهُ؟ أَلَيْسَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَيْرَةِ يُعَدُّ شَكًّا؟ نَعَمْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْحَيْرَةُ حَيْرَةَ مَنْ وَقَفَ دُونَ أَبْوَابِ الْغَيْبِ يَطْرِفُ لِمَا لَا يَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، لَكِنَّهَا حَيْرَةُ مَنْ أَخَذَ بِقَولٍ لَا يَفْهَمُهُ، وَكَلَّفَ نَفْسَهُ عِلْمَ مَا لَا تَعْلَمُهُ. فَلَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مِمَّنْ آمَنَ بِالْمَلَائِكَةِ إِيمَانًا صَحِيحًا وَاطْمَأَنَّتْ بِإِيمَانِهِ نَفْسُهُ وَأَذْعَنَ لَهُ قَلْبُهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِوَهْمِهِ سِلَاحٌ يُنَازِعُ بِهِ عَقْلَهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ صَاحِبِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ.
فَلْيَرْجِعْ هَؤُلَاءِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي وَقَرَ فِيهَا تَقَالِيدُ حُفَّتْ بِالْمَخَاوِفِ، لَا عُلُومٌ حُفَّتْ بِالسَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، هَؤُلَاءِ لَمْ يُشْرِقْ فِي نُفُوسِهِمْ ذَلِكَ السِّرُّ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنُّورِ

صفحة رقم 225

الْإِلَهِيِّ وَالضِّيَاءِ الْمَلَكُوتِيِّ وَاللَّأْلَاءِ الْقُدُسِيِّ، أَوْ مَا يُمَاثِلُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، لَمْ يَسْبِقْ لِنُفُوسِهِمْ عَهْدٌ بِمُلَاحَظَةِ جَانِبِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَكْتَحِلْ أَعْيُنُ بَصَائِرِهِمْ بِنَظْرَةٍ إِلَى مَطْلَعِ الْوُجُودِ مِنْهُ عَلَى الْخَلْقِ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ فَانٍ فِي نَفْسِهِ، وَأَنْ لَيْسَ فِي الْكَوْنِ بَاقٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ إِلَّا وَجْهُ الْكَرِيمِ، وَأَنَّ مَا كُشِفَ مِنَ الْكَوْنِ وَمَا لَطُفَ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ وَمَا بَطَنَ إِنَّمَا هُوَ فَيْضٌ مِنْ جُودِهِ، وَنِسْبَةٌ إِلَى وُجُودِهِ، وَلَيْسَ الشَّرِيفُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَعْلَى بِذِكْرِهِ مَنْزِلَتَهُ، وَلَا الْخَسِيسُ إِلَّا مَا بَيَّنَ لَنَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَوَّلِ نِسْبَتَهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ
وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، لَيْسَ شَيْءٌ أَعْلَى وَلَا أَحَطَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ - وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَدَّرَهُ - لَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ كُلَّهُ لَأَطْلَقُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ تَجُولَ فِي تِلْكَ الشُّئُونِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى مُسْتَقَرِّ الطُّمَأْنِينَةِ، حَيْثُ لَا يُنَازِعُ الْعَقْلَ شَيْءٌ مِنْ وَسَاوِسِ الْوَهْمِ وَلَا تَجِدُ طَائِفًا مِنَ الْخَوْفِ، ثُمَّ لَا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظٍ مَكَانَ لَفْظٍ.
هَذِهِ الْقُوَى الَّتِي نَرَى آثَارَهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ تَحْتَ حَوَاسِّنَا، وَقَدْ خَفِيَتْ حَقَائِقُهَا عَنَّا، وَلَمْ يَصِلْ أَدَقُّ الْبَاحِثِينَ فِي بَحْثِهِ عَنْهَا إِلَّا إِلَى آثَارٍ تَجِلُّ إِذَا كُشِفَتْ وَتَقِلُّ بَلْ تَضْمَحِلُّ إِذَا حُجِبَتْ، وَهِيَ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا كَمَالُ الْوُجُودِ وَبِهَا يَنْشَأُ النَّاشِئُ وَبِهَا يَنْتَهِي إِلَى غَايَتِهِ الْكَامِلُ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى نَبِيهٍ وَلَا خَامِلٍ، أَلَيْسَتْ أَشِعَّةً مِنْ ضِيَاءِ الْحَقِّ؟ أَلَيْسَتْ أَجَلَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ سُلْطَانِهِ؟ أَلَّا تُعَدُّ بِنَفْسِهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَإِنْ كَانَتْ آثَارُهَا مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ؟ أَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْعُرَ الشَّاعِرُ مِنْهَا بِضَرْبٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَالِاخْتِيَارِ خَاصٍّ بِهَا لَا نُدْرِكُ كُنْهَهُ لِاحْتِجَابِهِ بِمَا نَتَصَوَّرُهُ مِنْ حَيَاتِنَا وَاخْتِيَارِنَا؟ أَلَا تَرَاهَا تُوَافِي بِأَسْرَارِهَا مَنْ يَنْظُرُ فِي آثَارِهَا وَيُوَفِّيهَا حَقَّ النَّظَرِ فِي نِظَامِهَا؟ يَسْتَكْثِرُ مِنَ الْخَيْرِ بِمَا يَقِفُ عَلَيْهِ مِنْ شُئُونِهَا، وَمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ إِلَى اسْتِدْرَارِ مَنَافِعِهَا؟.
أَلَيْسَ الْوُجُودُ الْإِلَهِيُّ الْأَعْلَى مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَآثَارُهُ فِي خَلْقِهِ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ؟ أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي وَهَبَ تِلْكَ الْقُوَى خَوَاصَّهَا وَقَدَّرَ لَهَا آثَارَهَا؟ لِمَ لَا نَقُولُ أَيُّهَا الْغَافِلُ: إِنَّهُ بِذَلِكَ وَهَبَهَا حَيَاتَهَا الْخَاصَّةَ بِهَا، وَلِمَ قَصَرْتَ مَعْنَى الْحَيَاةِ عَلَى مَا تَرَاهُ فِيكَ وَفِي حَيَوَانٍ مِثْلِكَ؟ !
مَعَ أَنَّكَ لَوْ سُئِلْتَ عَنْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ فَهِمْتَهُ وَسَمَّيْتَهُ حَيَاةً لَمْ تَسْتَطِعْ لَهُ تَعْرِيفًا وَلَا لِفِعْلِهِ تَصْرِيفًا! لَا تَقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ وَبِهِ نَقُولُ: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمِنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧: ٤٤) ؟
أَفَلَا تَزْعُمُ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ وَمَلَائِكَةً فِي السَّمَاءِ؟ هَلْ عَرَفْتَ أَيْنَ تَسْكُنُ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ؟ وَهَلْ حَدَّدْتَ أَمْكِنَتَهَا وَرَسَمْتَ مَسَاكِنَهَا؟ وَهَلْ عَرَفْتَ أَيْنَ يَجْلِسُ مَنْ يَكُونُ مِنْهُمْ عَنْ يَمِينِكَ؟ وَمَنْ يَكُونُ عَنْ يَسَارِكَ؟ هَلْ تَرَى أَجْسَامَهُمُ النُّورَانِيَّةَ تُضِئُ لَكَ فِي الظَّلَامِ أَوْ تُؤْنِسُكَ إِذَا هَجَمَتْ عَلَيْكَ الْأَوْهَامُ؟ فَلَوْ رَكَنْتَ إِلَى أَنَّهَا قُوًى أَوْ أَرْوَاحٌ مُنْبَثَّةٌ فِيمَا حَوْلَكَ

صفحة رقم 226

وَمَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَمَا خَلْفَكَ، وَأَنَّ اللهَ ذَكَرَهَا لَكَ بِمَا كَانَ يَعْرِفُهَا سَلَفُكَ، وَبِالْعِبَارَةِ الَّتِي تَلَقَّفْتَهَا عَنْهُمْ كَيْلَا يُوحِشَكَ بِمَا يُدْهِشُكَ، وَتَرَكَ لَكَ النَّظَرَ فِيمَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُكَ مِنْ وُجُوهٍ تَعْرِفُهَا، أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَرْوَحُ لِنَفْسِكَ وَأَدْعَى إِلَى طُمَأْنِينَةِ عَقْلِكَ؟ أَفَلَا تَكُونُ قَدْ أَبْصَرْتَ شَيْئًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَوَقَفْتَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ؟ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي نَفْسِكَ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ أَشِعَّةِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَكُنْتَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيُفَوِّضُ فِي إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ وَيَقُولُ: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) فَلَا تَرْمِ طُلَّابَ الْعِرْفَانِ بِالرَّيْبِ مَا دَامُوا يُصَدِّقُونَ بِالْكِتَابِ الَّذِي آمَنْتَ بِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ الَّذِي صَدَّقْتَ بِرِسَالَتِهِ، وَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ أَعْلَى مِنْكَ كَعْبًا وَأَرْضَى مِنْكَ بِرَبِّهِمْ نَفْسًا، أَلَا إِنَّ مُؤْمِنًا لَوْ مَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى فَهْمِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ كَمَا قُلْنَا كَانَ مِنْ دِينِهِ فِي ثِقَةٍ، وَمِنْ فَضْلِ رَبِّهِ فِي سَعَةٍ) اهـ.
هَذَا مَا كَتَبَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْضِيحِ كَلَامِهِ فِي تَقْرِيبِ مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الْكَائِنَاتِ مِنْ لَفْظِ الْقُوَى إِلَى مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَفْقَهُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الْقُوَى وَإِسْنَادِ كُلِّ أَحْدَاثِ الْكَائِنَاتِ وَتَطَوُّرَاتِهَا إِلَيْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِجَهْلِ كُنْهِهَا، وَإِلْمَامٌ أَيْضًا بِمَا كَانَ يَقُولُهُ قُدَمَاءُ الْيُونَانِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا مُدَبِّرًا هُوَ الْمُسَيِّرُ لِنِظَامِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَرْبَابِ
خَاضِعَةٌ لِلرَّبِّ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَالْمَعْنَى الْعَامُّ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ هُوَ أَنَّ أَحْدَاثَ هَذَا الْعَالَمِ وَتَغَيُّرَاتِهَا وَتَطَوُّرَاتِهَا وَالنِّظَامَ فِيهَا كُلِّهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ خَفِيٍّ غَيْرِ أَجْزَاءِ مَادَّتِهَا، فَالتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا بِاصْطِلَاحَاتٍ تَدُلُّ عَلَى الشِّرْكِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَعْبِيرُ الْمَادِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْطِيلِ، وَتَعْبِيرُ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الَّذِي حَرَّرَ الْحَقِيقَةَ الَّتِي يُمْكِنُ إِذْعَانُ الْعُقَلَاءِ لَهَا وَهِيَ أَنَّ الْفَاعِلَ الْحَقِيقِيَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ نِظَامَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْ نَاطَهُ سُبْحَانَهُ بِمَوْجُودَاتٍ رُوحِيَّةٍ خَفِيَّةٍ ذَاتِ قُوًى عَظِيمَةٍ جِدًّا سُمِّيَتِ الْمَلَائِكَةُ، فَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ وَحْدَهَا لَا تُعْطِي أَحَدًا عِلْمَ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّ مَنْ فَهِمَ الْحَقِيقَةَ لَا يَحْجُبُهَا عَنْهُ اخْتِلَافُ التَّسْمِيَةِ، وَأَرَادَ بِهَذَا أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْمَادِّيِّينَ وَيُقْنِعَهُمْ بِصِحَّةِ مَا جَاءَ الْوَحْيُ مِنْ طَرِيقِ عِلْمِهِمُ الْمُسَلَّمِ عِنْدَهُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ فِي صَفْحَةِ ٢٢٣ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عُبَّادُ الْأَلْفَاظِ وَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مُرَادَهُ، وَهُوَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ فِي الْإِقْنَاعِ بِحَقِّيَّةِ الدِّينِ كَانَ حُجَّةً لِلَّهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُ أَحَدُ نَوَابِغِ رِجَالِ الْقَضَاءِ الْأَذْكِيَاءِ: إِنَّكَ بِتَفْسِيرِكَ لِلْقُرْآنِ بِالْبَيَانِ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَلَا يَأْبَاهُ الْعِلْمُ قَدْ قَطَعْتَ الطَّرِيقَ عَلَى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ الْوَقْتُ الَّذِي يَهْدِمُونَ فِيهِ الدِّينَ وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ قُيُودِهِ وَجَهْلِ رِجَالِهِ وَجُمُودِهِمْ.
وَإِنَّنِي أَنَا قَدْ جَرَّبْتُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي اسْتَنْكَرُوهَا عَلَيْهِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ - تَعَالَى - فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا لَهَا دَحْضًا، ذَلِكَ بِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ إِلَهَ

صفحة رقم 227
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية