آيات من القرآن الكريم

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ

إِذَا بَاعَ بِالنَّقْدِ، فَذَاكَ النَّقْدُ هُنَاكَ حَاضِرٌ مَتَى شَاءَ الْبَائِعُ أَخَذَهُ، وَقَوْلُهُ: أَجْرُهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ. يَجْرِي مَجْرَى مَا إِذَا بَاعَ بِالنَّسِيئَةِ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ مَا تَرَكُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمُنْتَقِلَ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى فَوْقَهَا رُبَّمَا يَحْزَنُ عَلَى بَعْضِ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ السَّالِفَةِ، وَإِنْ كَانَ مُغْتَبِطًا بِالثَّانِيَةِ لِأَجْلِ إِلْفِهِ وَعَادَتِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْغُصَّةِ لَا يَلْحَقُ أَهْلَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنَّا فِي الدُّنْيَا طَاعَةٌ أَزْيَدُ مِمَّا صَدَرَ حَتَّى صِرْنَا مُسْتَحِقِّينَ لِثَوَابٍ أَزْيَدَ مِمَّا وَجَدْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ لَا تُوجَدُ فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِشْكَالٌ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ عَارِفَةً بِاللَّهِ وَكَمَا بَلَغَتْ حَاضَتْ، ثُمَّ عِنْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا مَاتَتْ، أَوِ الرَّجُلَ بَلَغَ عَارِفًا بِاللَّهِ، وَقَبْلَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مَاتَ، فَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الْأَعْمَالِ، وَأَيْضًا مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُثِيبُ الْمُؤْمِنَ الْفَاسِقَ الْخَالِيَ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَإِذَا كَانَ كذلك، فكيف وقف الله هاهنا حُصُولَ الْأَجْرِ عَلَى حُصُولِ الْأَعْمَالِ؟.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْخِصَالَ لَا لِأَجْلِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ مَشْرُوطٌ بِهَذَا، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثَرًا فِي جَلْبِ الثَّوَابِ، كَمَا قَالَ فِي ضِدِّ هَذَا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفُرْقَانِ: ٦٨] ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفُرْقَانِ: ٦٨] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْعَذَابَ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَ الزِّنَا وَقَتْلَ النَّفْسِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْلَالِ مَعَ دُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ إِلَهًا لِبَيَانِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من هذه الخصال يوجب العقوبة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٨ الى ٢٨١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
[الآية في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ مَنِ انْتَهَى عَنِ الرِّبَا فَلَهُ مَا سَلَفَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ وَبَيْنَ الْبَاقِي فِي ذِمَّةِ الْقَوْمِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا وَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُقْبَضْ، فَالزِّيَادَةُ تَحْرُمُ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا إِلَّا رؤوس أموالهم،

صفحة رقم 82

وَإِنَّمَا شَدَّدَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَنِ انْتَظَرَ مُدَّةً طَوِيلَةً فِي حُلُولِ الْأَجَلِ، ثُمَّ حَضَرَ الْوَقْتُ وَظَنَّ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي مَنْعِهِ عَنْهُ إِلَى تَشْدِيدٍ عَظِيمٍ، فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاتِّقَاؤُهُ مَا نَهَى عَنْهُ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قَبَضْتُمْ شَيْئًا فَيَعْفُو عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَقْبِضُوهُ، أَوْ لَمْ تَقْبِضُوا بَعْضَهُ، فَذَلِكَ الَّذِي لَمْ تَقْبِضُوهُ كلا كان، أو بعضاً فإنه محرم قَبْضُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي أَحْكَامِ الْكُفَّارِ إِذَا أَسْلَمُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا مَضَى فِي وَقْتِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يَبْقَى ولا ينقص، وَلَا يُفْسَخُ، وَمَا لَا يُوجَدُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي حَالِ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِذَا تَنَاكَحُوا عَلَى مَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ وَلَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَفْوٌ لَا يُتَعَقَّبُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ وَقَعَ عَلَى مُحَرَّمٍ فَقَبَضَتْهُ الْمَرْأَةُ فَقَدْ مَضَى، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَقْبِضْهُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا دُونَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كيف قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مِثْلُ مَا يُقَالُ: إِنْ كُنْتَ أَخًا فَأَكْرِمْنِي، مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ كَانَ أَخًا أَكْرَمَ أَخَاهُ وَالثَّانِي: قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَبْلَهُ الثَّالِثُ: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ اسْتِدَامَةَ الْحُكْمِ لَكُمْ بِالْإِيمَانِ الرَّابِعُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِلِسَانِهِمْ ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِقُلُوبِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ رِوَايَاتٌ:
الرِّوَايَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يُرَابُونَ فَلَمَّا أَسْلَمُوا عِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ/ تَعَالَى أَنْ يأخذوا رؤوس أَمْوَالِهِمْ دُونَ الزِّيَادَةِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَرْبَعَةِ إِخْوَةٍ مِنْ ثقيف: مسعود، وعبد يا ليل، وَحَبِيبٌ، وَرَبِيعَةُ، بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ كَانُوا يُدَايِنُونَ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الطَّائِفِ أَسْلَمَ الْإِخْوَةُ، ثُمَّ طَالَبُوا بِرِبَاهُمْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَا أَسْلَفَا فِي التَّمْرِ، فَلَمَّا حَضَرَ الجداد قَبَضَا بَعْضًا، وَزَادَ فِي الْبَاقِي فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ.
الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَا يُسْلِفَانِ فِي الرِّبَا، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَكَامَلُ إِذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى كَبِيرَةٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا بِالْإِطْلَاقِ إِذَا اجْتَنَبَ كُلَّ الْكَبَائِرِ.
وَالْجَوَابُ: لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: ٣] عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ خَارِجٌ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ عَامِلِينَ بِمُقْتَضَى شَرَائِعِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ لَكِنَّا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (فَآذِنُوا) مَفْتُوحَةَ الْأَلِفِ مَمْدُودَةً مَكْسُورَةَ الذَّالِ عَلَى مِثَالِ فَآمِنُوا وَالْبَاقُونَ فَأْذَنُوا بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ مَفْتُوحَةَ الذَّالِ مَقْصُورَةً،
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه أنهما

صفحة رقم 83

قرءا كَذَلِكَ (فَآذِنُوا) مَمْدُودَةً،
أَيْ فَأَعْلِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٩] وَمَفْعُولُ الْإِيذَانِ مَحْذُوفٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَعْلِمُوا مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الرِّبَا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا أُمِرُوا بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ فَهُمْ أَيْضًا قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ فِي عِلْمِهِمْ دَلَالَةٌ عَلَى إِعْلَامِ غَيْرِهِمْ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي الْبَلَاغَةِ آكَدٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِذْنِ، أَيْ كُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَإِذْنٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ (فَأَيْقِنُوا) وَهُوَ دَلِيلٌ لِقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصِرِّينَ عَلَى مُعَامَلَةِ الرِّبَا، أَوْ هُوَ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ الْمُسْتَحِلِّينَ لِلرِّبَا، الَّذِينَ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، قَالَ الْقَاضِي: وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَأْذَنُوا خِطَابٌ مَعَ قَوْمٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وهم المخاطبون بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَ بِالْمُحَارَبَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؟
قُلْنَا: هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَصَى اللَّهَ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ، كَمَا
جَاءَ فِي الْخَبَرِ «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»
وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»
وَقَدْ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: ٣٣] أَصْلًا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّهْدِيدِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَارِدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّهْدِيدِ دُونَ نَفْسِ الْحَرْبِ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ نَفْسُ الْحَرْبِ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَنَقُولُ: الْإِصْرَارُ عَلَى عَمَلِ الرِّبَا إِنْ كَانَ مِنْ شَخْصٍ وَقَدَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ قَبَضَ عَلَيْهِ وَأَجْرَى فيه حكم الله من التعزيز وَالْحَبْسِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ التَّوْبَةُ، وَإِنْ وَقَعَ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ عَسْكَرٌ وَشَوْكَةٌ، حَارَبَهُ الْإِمَامُ كَمَا يُحَارِبُ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ وَكَمَا حَارَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكَذَا الْقَوْمُ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ، وَتَرْكِ دَفْنِ الْمَوْتَى، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَ عُنُقُهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أن قوله فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا [البقرة: ٢٧٩] خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: ٢٧٨] مُعْتَرِفِينَ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أَيْ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بِتَحْرِيمِهِ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ: إِنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَانَ كَافِرًا، كَمَا لَوْ كَفَرَ بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْتُمْ وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تُبْتُمْ مِنْ مُعَامَلَةِ الرِّبَا، وَعَلَى القول الثاني من استحلال الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تَظْلِمُونَ الْغَرِيمَ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا تُظْلَمُونَ أَيْ بِنُقْصَانِ رَأْسِ الْمَالِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ النَّحْوِيُّونَ (كَانَ) كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ حَدَثَ وَوَقَعَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كَانَ الْأَمْرُ، أَيْ وُجِدَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ وَالثَّانِي: أَنْ يُخْلَعَ مِنْهُ مَعْنَى الْحَدَثِ، فَتَبْقَى

صفحة رقم 84

الْكَلِمَةُ مُجَرَّدَةً لِلزَّمَانِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْخَبَرِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: كَانَ زَيْدٌ ذَاهِبًا.
وَاعْلَمْ أَنِّي حِينَ كُنْتُ مُقِيمًا بِخُوَارَزْمَ، وَكَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ مِنْ أَكَابِرِ الْأُدَبَاءِ، أَوْرَدْتُ عَلَيْهِمْ إِشْكَالًا فِي هَذَا الْبَابِ فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ (كَانَ) إِذَا كَانَتْ نَاقِصَةً إِنَّهَا تَكُونُ فِعْلًا وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْفِعْلُ مَا دَلَّ عَلَى اقْتِرَانِ حَدَثٍ بِزَمَانٍ، فَقَوْلُكَ (كَانَ) يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ مَعْنَى الْكَوْنِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَإِذَا أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى كَانَتْ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، فَهَذَا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِعْلًا كَانَتْ/ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً لَمْ تَكُنْ فِعْلًا الْبَتَّةَ بَلْ كَانَتْ حَرْفًا، وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ ذَلِكَ، فَبَقُوا فِي هَذَا الْإِشْكَالِ زَمَانًا طَوِيلًا، وَصَنَّفُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ كُتُبًا، وَمَا أَفْلَحُوا فِيهِ ثُمَّ انْكَشَفَ لِي فِيهِ سر أذكره هاهنا وَهُوَ أَنَّ كَانَ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا حَدَثَ وَوَقَعَ وَوُجِدَ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَكَ وُجِدَ وحدث على قسمين أحدها: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وُجِدَ وَحَدَثَ الشَّيْءُ كَقَوْلِكَ: وُجِدَ الْجَوْهَرُ وَحَدَثَ الْعَرَضُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وُجِدَ وَحَدَثَ مَوْصُوفِيَّةُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، فَإِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا فَمَعْنَاهُ حَدَثَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي مَوْصُوفِيَّةُ زَيْدٍ بِالْعِلْمِ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُسَمَّى بَكَانِ التَّامَّةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّاقِصَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْمَفْهُومُ مِنْ (كَانَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ الْحُدُوثُ وَالْوُقُوعُ، إِلَّا أَنَّ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمُرَادِ حُدُوثُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الِاسْمُ الْوَاحِدُ كَافِيًا، وَالْمُرَادُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي حُدُوثُ مَوْصُوفِيَّةُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنِ الِاسْمُ الْوَاحِدُ كَافِيًا، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمَيْنِ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مَوْصُوفِيَّةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْأَبْحَاثِ، فَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ فِعْلٌ كَانَ دَالًّا عَلَى وُقُوعِ الْمَصْدَرِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ بَلْ حَرْفٌ فَكَيْفَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ وَالْأَمْرُ، وَجَمِيعُ خَوَاصِّ الْأَفْعَالِ، وَإِذَا حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِعْلٌ وَزَالَ الْإِشْكَالُ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْمَفْهُومُ الثَّالِثُ: لِكَانَ يَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَأَنْشَدُوا:

بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
وعندي أن هذا اللفظ هاهنا مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ مَعْنَى صَارَ أَنَّهُ حَدَثَ مَوْصُوفِيَّةُ الذَّاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِذَلِكَ، فَيَكُونُ هُنَا بِمَعْنَى حَدَثَ وَوَقَعَ، إِلَّا أَنَّهُ حُدُوثٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ أَنَّهُ حَدَثَ مَوْصُوفِيَّةُ الذَّاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْحَاصِلُ مَوْصُوفِيَّةَ الذَّاتِ بِصِفَةٍ أُخْرَى.
الْمَفْهُومُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً وَأَنْشِدُوا:
سراة بني أبي بكر تسامى عَلَى كَانَ الْمُسَوَّمَةِ الْجِيَادِ
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ: فِي كانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى وَقَعَ وَحَدَثَ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ، وَنَظِيرُهَ قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى:
وَإِنْ وَقَعَتْ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ، وَمَقْصُودُ الْآيَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ لَكَانَ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ذَا عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ، فَتَكُونُ النَّظِرَةُ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَغَيْرَهُ إِذَا كَانَ ذَا عُسْرَةٍ فَلَهُ النَّظِرَةُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ الثَّانِي: أَنَّهَا نَاقِصَةٌ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ، تَقْدِيرُهُ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ غَرِيمًا لَكُمْ، وَقَرَأَ عُثْمَانُ (ذَا عُسْرَةٍ) وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَانَ الْغَرِيمُ ذَا عُسْرَةٍ، وَقُرِئَ (وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعُسْرَةُ اسْمٌ مِنَ الْإِعْسَارِ، وَهُوَ تَعَذُّرُ الْمَوْجُودِ مِنَ الْمَالِ يُقَالُ: أَعْسَرَ الرَّجُلُ، إِذَا صار

صفحة رقم 85

إِلَى حَالَةِ الْعُسْرَةِ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَتَعَسَّرُ فِيهَا وُجُودُ الْمَالِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَالْحُكْمُ أَوْ فَالْأَمْرُ نَظِرَةٌ، أَوْ فَالَّذِي تُعَامِلُونَهُ نَظِرَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَظِرَةٌ أَيْ تَأْخِيرٌ، وَالنَّظِرَةُ الِاسْمُ مِنَ الْإِنْظَارِ، وَهُوَ الْإِمْهَالُ، تَقُولُ: بِعْتُهُ الشَّيْءَ بِنَظِرَةٍ وَبِإِنْظَارٍ، قَالَ تَعَالَى: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر: ٣٦، ٣٧، ٣٨].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ فَنَظِرَةٌ بِسُكُونِ الظَّاءِ، وَقَرَأَ عَطَاءٌ (فَنَاظِرُهُ) أَيْ فَصَاحِبُ الْحَقِّ أَيْ مُنْتَظِرُهُ، أَوْ صَاحِبُ نَظِرَتِهِ، عَلَى طَرِيقِ النَّسَبِ، كَقَوْلِهِمْ: مَكَانٌ عَاشِبٌ وَبَاقِلٌ، أَيْ ذُو عُشْبٍ وَذُو بَقْلٍ، وَعَنْهُ فَنَاظِرْهُ عَلَى الْأَمْرِ أَيْ فَسَامِحْهُ بِالنَّظِرَةِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَيْسَرَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْيُسْرِ وَالْيَسَارِ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِعْسَارِ، وَهُوَ تَيَسُّرُ الْمَوْجُودِ مِنَ الْمَالِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَيْسَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُوسِرٌ، أَيْ صَارَ إِلَى الْيُسْرِ، فَالْمَيْسَرَةُ وَالْيُسْرُ وَالْمَيْسُورُ الْغِنَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ مَيْسَرَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ كَالْمَقْبَرَةِ، وَالْمَشْرَفَةِ، وَالْمَشْرَبَةِ، وَالْمَسْرَبَةِ، وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ اللُّغَتَيْنِ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُكْمَ الْإِنْظَارِ مُخْتَصٌّ بِالرِّبَا أَوْ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَإِبْرَاهِيمُ: الْآيَةُ فِي الرِّبَا، وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِحَبْسِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَقِيلَ: إِنَّهُ مُعْسِرٌ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الرِّبَا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاءِ: ٥٨] وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَتِ الْإِخْوَةُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِالرِّبَا: بَلْ نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَرَضُوا بِرَأْسِ الْمَالِ وَطَلَبُوا بَنِي الْمُغِيرَةِ بِذَلِكَ، فَشَكَا بنو المغيرة العسرة، وَقَالُوا: أَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرِكَ الْغَلَّاتُ، فَأَبَوْا أَنْ يُؤَخِّرُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ دَيْنٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ عَامًّا فِي كُلِّ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في الآية المتقدمة وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا نَقْصٍ، ثُمَّ قاتل فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ مُعْسِرًا وَجَبَ إِنْظَارُهُ إِلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ، لِأَنَّ النَّظِرَةَ يُرَادُ بِهَا التَّأَخُّرُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَقٍّ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ حَتَّى يَلْزَمَ التَّأَخُّرُ، بَلْ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِنْظَارِ فِي هَذِهِ بِحُكْمِ النَّصِّ، ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ ضَرُورَةَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ بِهِ، وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنفية وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِعْسَارِ، فَنَقُولُ: الْإِعْسَارُ هُوَ أَنْ لَا يَجِدَ فِي مِلْكِهِ مَا يُؤَدِّيهِ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ مَا لَوْ بَاعَهُ لَأَمْكَنَهُ أَدَاءَ الدَّيْنِ مِنْ ثمنه، فلهذا قلنا: من وحد دَارًا وَثِيَابًا لَا يُعَدُّ فِي ذَوِي الْعُسْرَةِ إِذَا مَا أَمْكَنَهُ بَيْعَهَا وَأَدَاءَ ثَمَنِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَ إِلَّا قُوتَ يَوْمٍ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ كُسْوَةٍ

صفحة رقم 86

لِصَلَاتِهِمْ وَدَفْعِ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ عَنْهُمْ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ قَوِيًّا هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُهُ إِذَا احْتَاجَ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَقَدْ بَذَلَ غَيْرُهُ مَا يُؤَدِّيهِ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ وَالْأَدَاءُ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ بِضَاعَةٌ كَسَدَتْ عَلَيْهِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهَا بِالنُّقْصَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ذَلِكَ، وَيُؤَدِّيهِ فِي الدَّيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ غَرِيمَهُ مُعْسِرٌ حَرُمَ عَلَيْهِ حَبْسُهُ، وَأَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا لَهُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ الْإِنْظَارُ إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ رِيبَةٌ فِي إِعْسَارِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ الْإِعْسَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى الْإِعْسَارَ وكذبه للغريم، فَهَذَا الدَّيْنُ الَّذِي لَزِمَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ عِوَضٍ حَصَلَ لَهُ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعِوَضَ قَدْ هَلَكَ، وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ لَا بِعِوَضٍ، مِثْلُ إِتْلَافٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ ضَمَانٍ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَعَلَى الْغُرَمَاءِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَقْرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ تَصَدَّقُوا بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَنْ تَتَصَدَّقُوا بِتَاءَيْنِ، فَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، وَمَنْ شَدَّدَ أَدْغَمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي التَّصَدُّقِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا عَلَى الْمُعْسِرِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِذْ لَا يَصِحُّ التَّصَدُّقُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا الْحَذْفُ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى ذِكْرُ الْمُعْسِرِ وَذِكْرُ رَأْسِ الْمَالِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّصَدُّقَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّصَدُّقِ الْإِنْظَارُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا يَحِلُّ دَيْنُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَيُؤَخِّرُهُ إِلَّا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ»
وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِنْظَارَ ثَبَتَ وَجُوبُهُ بِالْآيَةِ الْأُولَى، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ خَيْرٌ لَكُمْ لَا يَلِيقُ بِالْوَاجِبِ بَلْ بِالْمَنْدُوبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ حُصُولُ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا التَّصَدُّقَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ، فَجَعَلَ الْعَمَلَ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى الْعُصَاةِ وَالثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَضْلَ التَّصَدُّقِ عَلَى الْإِنْظَارِ وَالْقَبْضِ وَالثَّالِثُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَصْلَحُ لَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِالرِّبَا وَكَانُوا أَصْحَابَ ثَرْوَةٍ وَجَلَالٍ وَأَنْصَارٍ وَأَعْوَانٍ وَكَانَ قَدْ يَجْرِي مِنْهُمُ التَّغَلُّبُ عَلَى النَّاسِ بِسَبَبِ ثَرْوَتِهِمْ، فَاحْتَاجُوا إِلَى مَزِيدِ زَجْرٍ وَوَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، حَتَّى يَمْتَنِعُوا عَنِ الرِّبَا، وَعَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، فَلَا جَرَمَ تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَخَوَّفَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ الْوُجُوهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَجَّ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ [النِّسَاءِ: ١٢٧] وَهِيَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَةِ: ٣] ثُمَّ نَزَلَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ:

صفحة رقم 87

٢٨١] فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُحَمَّدُ ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ آيَةً وَمِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةٍ، وَعَاشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا،
وَقِيلَ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَ سَاعَاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو تُرْجَعُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ لَازِمٌ، وَالرَّجْعَ مُتَعَدٍّ، وَعَلَيْهِ تُخَرَّجُ الْقِرَاءَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: انْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لَا عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى: وَاتَّقُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى تَأَهَّبُوا لِلِقَائِهِ بِمَا تُقَدِّمُونَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [الْمُزَّمِّلُ: ١٧] أَيْ كَيْفَ تَتَّقُونَ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي هَذَا وَصْفُهُ مَعَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْيَوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَذَلِكَ لَا يُتَّقَى، وَإِنَّمَا يُتَّقَى مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْأَهْوَالِ وَاتِّقَاءُ تِلْكَ الْأَهْوَالِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِي دَارِ الدُّنْيَا بِمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي الْوَاجِبَاتِ، فَصَارَ قَوْلُهُ وَاتَّقُوا يَوْماً يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِجَمِيعِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ، الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الرُّجُوعَ إِلَى عِلْمِهِ وَحِفْظِهِ، فَإِنَّهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا لَكِنْ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تُرْجَعُونَ (فِيهِ) إِلَى اللَّهِ لَهُ مَعْنَيَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ.
فَالْحَالَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، ثُمَّ لَا يَمْلِكُونَ نَفْعَهُمْ وَلَا ضَرَّهُمْ، بَلِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ/ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُمْ بَعْدَ الْبُرُوزِ عَنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَهُنَاكَ يَكُونُ الْمُتَكَفِّلُ بِإِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ بَعْضُهُمْ فِي الْبَعْضِ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُنَاكَ لَا يَكُونُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ ظَاهِرًا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ، فَكَأَنَّهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنِ الدُّنْيَا عَادَ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَرْجِعُونَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ حَسَنٌ مُطَابِقٌ لِلَّفْظِ.
ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ فَهُوَ عِنْدُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ جَزَاءُ عَمَلِهِ بِالتَّمَامِ، كَمَا قَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] وَقَالَ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان: ١٦] وَقَالَ:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٧] وَفِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ مَا كَسَبَتْ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءُ مَا كَسَبَتْ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُكْتَسَبَ هُوَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ، لأن ما يحصله الرَّجُلُ بِتِجَارَتِهِ مِنَ الْمَالِ فَإِنَّهُ يُوصَفُ فِي اللُّغَةِ بِأَنَّهُ مُكْتَسَبُهُ، فَقَوْلُهُ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسِ مُكْتَسَبَهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ بِحَيْثُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ كَانَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَعِيدِيَّةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ، وَأَصْحَابُنَا يَتَمَسَّكُونَ بها في

صفحة رقم 88
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية