ولقد استطرد رشيد رضا في مناسبة الآية [٢٧٣] إلى ذكر بعض طوائف المسلمين يعيشون في الزوايا والتكايا عيشة تبطل وكسل على ما يوقف عليها من طعام ومال بزعم أنهم متفرغون لعبادة الله ومشبهين أنفسهم بأهل الصفة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين روي أن الآية نزلت في شأنهم على ما ذكرناه قبل برغم ما في الآية من صراحة بأنهم أحصروا في سبيل الله. وأدخل في استطراده مشايخ الطرق ومريديهم الذين لا يعملون ولا يتكسبون ويعيشون على الناس وذكرنا ما يفعله هؤلاء من فرض أنفسهم على الناس وما يقدمون عليه من أذى وانتقام من الذين لا يضيفونهم ولا يهدون إليهم الهدايا وندد بهم ونبه على ما في ذلك كله من شذوذ عن نصوص وتلقينات كتاب الله وأحاديث رسوله، وفي هذا حق وسداد مع القول إن هذه الصورة آخذة بالتضاؤل.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٥ الى ٢٨١]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
. (١) الربا: أصل معنى الكلمة الزيادة والنمو وفي الآيات جملة فيها هذا
المعنى وهي يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وهذا المعنى ملموح في آية سورة الروم [٣٩]. ثم صارت علما على أخذ زيادة على مال متجانس بدون عوض ولو كان المال دينا.
(٢) الذي يتخبطه الشيطان من المس: تشبيه بحالة المصروع حيث كان الناس من القديم يعتقدون أن الصرع هو مسّ جني فخوطبوا بالتعبير المألوف عندهم.
(٣) يمحق الله الربا: يذهب ببركة مال الربا ويتلفه.
(٤) فأذنوا بحرب من الله ورسوله: إنذار لهم وتنبيه بأنهم إن لم يتركوا الربا يكونوا في حالة حرب مع الله ورسوله.
(٥) وإن تبتم: فإن كففتم عن تعاطي الربا.
(٦) نظرة: انتظار وإمهال.
(٧) ميسرة: حالة اليسر.
تعليق على آيات الربا
في هذه الآيات:
١- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا.
٢- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات: فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقا يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار.
٣- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات: فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين.
والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.
٤- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة:
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم.
٥- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حربا.
٦- وأمر آخر موجه إليهم أيضا: فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم.
٧- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
٨- وجملة وَإِنْ تُبْتُمْ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [٢٧٥] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار.
والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.
ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ الروم: [٣٩] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله.
وقد روى المفسرون «١» أن الآية [٢٧٨] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [٢٨١] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا.
والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكا وموضوعا، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات.
ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاما وثيقا، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولا، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري «٢» حديثا في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه:
«آخر آيه نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم آية الرّبا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [٢٨١] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولقد روي أن النبي قال في
(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٦٢.
حجة وداعه فيما قال «١» :«إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به، لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته.
والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قاله المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا «٢» أحاديث وروايات وأقوالا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفا بالربا في الإسلام وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلا أو وزنا أو نوعا بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ امرأ آخر ذهبا أو فضة أو برّا أو تمرا وأخذ بدل الذهب ذهبا وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برّا وبدل التمر تمرا بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء دينا مؤجلا. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنسا ووزنا وكيلا. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيرا أو تمرا أو أعطى شعيرا فتقاضى بدله برّا أو نقدا من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية (ربا التفاضل) وفي العملية المؤجلة (ربا النسيئة). ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم
(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير والطبري.
إذا كان يدا بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» «١». وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال: التمست صرفا بمائة دينار فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة. وعمر يسمع فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والبرّ بالبرّ ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء» «٢».
ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم يرون الزيادة ربحا سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعا وشراء فنبهت الآيات على الفرق بين العملين لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما.
كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافا مضاعفة ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته.
وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠).
وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافا مضاعفة كخطوة أولى ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريما حاسما. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا
(٢) التاج ج ٢ ص ١٩٤.
الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع.
على أن من الحق أن يقال إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩). وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سائر المسائل بالأسلوب الذي كان يتلاءم مع كل من العهدين المكي والمدني.
ولقد استهدفت الآيات التي نحن في صددها- بالإضافة إلى تشنيعها بالربا وتحريمه- بثّ روح البرّ والتسامح والتكافل بين المسلمين. فإذا ما ضاق الأمر على امرئ فاحتاج إلى ما يفرج به ضيقه وجب أن ينال حاجته من أخيه القادر برّا ورحمة وأريحية بدون عوض أو زيادة. وإذا استحق دين على امرئ وكان معسرا وجب أن ينال التسامح والإمهال برا ورحمة وأريحية بدون عوض أو زيادة كذلك، وإذا كان إعساره شديدا وجب على الدائن أن يتنازل عن دينه صدقة لوجه الله. وفي هذا ما فيه من الروعة والجلال والتلقين المستمر المدى.
ومشهد المحتاجين والمعسرين وما يتعرضون له من إرهاق المرابين واستغلالهم وما يجرّه الربا في مثل هذه الظروف من خراب ودمار ويثيره من أحقاد وضغائن ويسببه من ذلة وهوان واضطراب وقلق من المشاهد المعروفة التي تثير دائما الآلام والاشمئزاز وتجعل وجه المجتمع الذي تقع فيه كالحا قاسيا، وتبرر الحكمة الربانية في منع أسبابها هذا الأسلوب القوي الحاسم وتبرز قصد البرّ والرأفة والمعونة والتسامح والتصدق، وبكلمة ثانية التكافل الاجتماعي بين المسلمين يجعل ذلك التلقين الجليل قويا جليلا بليغا.
ومما ذكره المفسرون أن الاشتغال بالربا من شأنه أن يضعف الرغبة في العمل والنشاط الاقتصادي والتجاري لأنه ربح يأتي بيسر وسهولة كالميسر. وهذا أيضا
تعليل وجيه يضاف إلى التعليلات السابقة.
وفي سورة النساء آية تذكر أن الله قد نهى بني إسرائيل عن الربا وهي:
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١). ونصوص أسفار العهد القديم المتداولة متباينة ففي بعضها نهي عن أخذه من بني إسرائيل فقط كما جاء في الإصحاح (٢٢) من سفر الخروج و (٢٣) من سفر التثنية. وفي بعضها نهي مطلق وتنديد بأخذه كما جاء في الإصحاح (١٤) من المزامير و (٢٨) من الأمثال و (١٨) من نبوءة حزقيل. ونرجح أن نصّ السفرين الأولين محرف ما دام القرآن يذكر أن الله قد نهاهم عنه مطلقا والأسفار الأخرى تؤيد ذلك.
وآية النساء على كل حال تقرر أنهم خالفوا شريعة تحريم الربا وتعاطوه في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ممتدا إلى ما قبله.
ولقد كان العرب المتمولون يتعاطونه كذلك على ما تفيده الآيات ويأخذونه أضعافا مضاعفة. ولقد كان مما فشا في مختلف البيئات في غير جزيرة العرب أيضا. وقد ارتكس فيه النصارى كما ارتكس اليهود وكان مترافقا في كل بيئة بتلك المشاهد المريرة المدمرة. فلا غرو أن حرمته الشريعة الإسلامية التي هدفت فيما هدفت إليه إلى إقامة مجتمع إنساني يضمّ مختلف الأجناس والألوان والطبقات ويسوده التعاطف والبرّ والتراحم والتعاون، ويمتنع فيه الناس عن أكل بعضهم أموال بعض بالباطل وبدون جهد تحريما حاسما وشاملا مع الإنذار الرهيب القاصم.
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في التحذير من الربا وإنذار متعاطيه، منها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن جابر قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده قال هم سواء» «١». وحديث أخرجه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أعان ظالما ليدحض به حقا فقد برىء من ذمّة الله ورسوله، ومن أكل درهما من ربا فهو مثل ثلاث وثلاثين زنية ومن نبت لحمه
من سحت فالنار أولى به» «١». وحديث رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة ذكر فيه أن «أكل الربا من جملة الموبقات السبع التي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باجتنابها» «٢».
هذا، وروح الآيات والأحاديث وما روي من مشاهد الربا ومآسيه ومضاعفاته كل ذلك يلهم أن الربا قد حرّم بهذا الأسلوب القاصم بسبب تلك المشاهد والمآسي والمضاعفات.
ولقد ارتكس العالم عامة والمسلمون منهم في ذلك حتى صار الربا بلاء عاما لا يكاد يتفلّت منه أحد بصورة من الصور ولا سيما في ظل نظام المصارف الذي عمّ كل الأقطار. مما كشف الله عن عيبه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال في حديث رواه الإمام أحمد عن الحسن عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا، فقيل له: الناس كلّهم؟ قال: من لم يأكله ناله غباره» «٣». ولقد شهدنا في حياتنا ممولين يستغلون عوز الفلاحين وغيرهم فيداينونهم المائة بمائة وثلاثين بل وأربعين وخمسين لسنة واحدة بل لموسم زراعي واحد، ويستغرق الربا جميع ما لهم من أرض وعقار وماشية ويشتد عليهم خناق العوز والمذلة وسمعنا من مثل ذلك كثيرا من آبائنا في بلادنا ومن غيرهم في البلاد العربية الأخرى. ولقد وجد المرابون بعض المشايخ الجهال الذين كانوا يفتونهم في عملهم بزعم إخراج عملياتهم من نطاق الربا المحرم حيث يجرون عملية بيع صورية عن المبلغ الزائد الذي يكتبونه في سند الدين. ولقد شهدنا أغنياء كثيرين فأصبحوا فقراء أذلاء بعد أن كانوا واسعي الثراء محاطين بالتكريم والتبجيل بسبب استغراقهم في الدين ورباه. ولقد شهدنا في الوقت نفسه مصير كثيرين ممن كانوا يأكلون الربا إلى مثل ذلك المصير. ولقد عرفنا أن الله كان يلحظ بعنايته الذين يؤتون الزكاة ويتصدقون
(٢) التاج ج ٤ ص ٨١.
(٣) أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق تفسير الآية وقال: «كذا روى أبو داود والنسائي وابن ماجه».
عن إخلاص وإيمان ولا يتعاطون الربا فينمي أموالهم ويقيهم شرّ النكبات والخسائر أو يعوض عليهم ما أصابهم من ذلك. فتحققت لنا المعجزة القرآنية المنطوية في جملة يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ صدق الله العظيم.
وإنه لمن واجب علماء المسلمين ودعاة الإصلاح وأولياء الأمر الصالحين أن يتداعوا لإيجاد مخرج للمسلمين من هذا البلاء العام الذي يرتكسون فيه ويعيشون خلاله في حالة حرب على الله ورسوله وفي لعنة الله ورسوله والعياذ بالله.
والحكومات الإسلامية اليوم تسمح للمصارف بالعمل بفوائد معتدلة أو زهيدة ولأجل تنمية الأعمال التجارية والزراعية والصناعية وتفريج أزمات الناس وتحريرهم من استغلال المرابين الجشع. ويتحقق بذلك فوائد ومنافع للناس ولا ندري إن كانت هذه الحكومات قد وجدت مسوغا شرعيا لذلك ولا سيما إن هذا كان في زمن دولة الخلافة العثمانية التي كانت تغلب عليها الصيغة الدينية ولو بالمظاهر والتي كانت تجتهد في أخذ فتاوى من العلماء لمثل هذه الأمور. وقد أنشأت في أواخر عهدها مصرفا زراعيا حكوميا بهدف تخليص الفلاحين من استغلال المرابين الفاحش. وكانت تقرضهم المال بفائدة كانت تعد زهيدة ومقدارها تسعة في المائة ونعتقد أنها استندت في ذلك إلى فتاو شرعية. ولقد كان من نتيجة جهود أساطين فقهائها تلك الموسوعة الفقهية الهامة الشهيرة التي عرفت باسم «مجلة الأحكام الشرعية» والتي احتوت قواعد فقهية لمختلف المعاملات ومن المستحسن هذا الأمر على ضوء ذلك دراسة عميقة لعل الدارسين يجدون ذلك المخرج المنشود.
هذا، وبعض المؤولين قالوا إن جملة وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ هي في صدد الربا موضوع الكلام وإنها بسبيل الأمر بالتأجيل بدون زيادة. وليست في صدد الدين بصورة عامة الذي ينشأ عن العقود المشروعة من بيع وشراء وإجارة إلخ... في حين قال بعضهم إنها تشمل الدين مطلقا. والجملة
مطلقة بحيث يكون الرجحان للقول الثاني فيما يتبادر لنا. وقد أورد هؤلاء أحاديث في صدد التيسير على المعسر مطلقا مما فيه تأييد للقول الثاني. من ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن أسعد بن زرارة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سرّه أن يظلّه الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه فلييسر على معسر أو ليضع عنه» «١». وحديث رواه الإمام نفسه عن بريدة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من أنظر معسرا فله بكلّ يوم مثله صدقة، وفي رواية مثلاه صدقة» «٢». وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه» «٣». وفي الأحاديث بالإضافة إلى تأييدها الإطلاق حثّ على التسامح والبرّ وتنويه بفضيلة إنظار المعسرين والتساهل معهم مما يتساوق مع التلقين القرآني.
تعليق على جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ...
لقد كانت هذه الجملة موضوع جدل كلامي بين أهل السنة والمعتزلة حيث أثبت الأولون حقيقتها وأنكرها الآخرون. ومما قاله الزمخشري إن الآية تعبير عما كان يزعم العرب في الجاهلية وتابعه في ذلك الطبري والبيضاوي. ولقد أورد المثبتون أحاديث نبوية منها ما ورد في الصحاح ولكنا لم نلمح منها ما في الجملة من مدى ومعنى. مثل حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها واقرأوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «٤» آل عمران: [٣٦]. وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى
(٢) أورد هذه الأحاديث ابن كثير وهناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه.
(٣) أورد هذه الأحاديث ابن كثير وهناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث فاكتفينا بما أوردناه.
(٤) التاج ج ٤ ص ٦٥.
ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «١».
ولقد قلنا إننا لم نلمح في الأحاديث أنها متساوقة مع مدى الجملة حيث نرى أن الجملة عنت الصرعة التي يرتمي بها المصاب على الأرض وتجعله يتخبط، والمتداول بين الناس أن هذا من مسّ الشيطان. ولقد عقد القاسمي في تفسيره فصلا طويلا بذلك استشهد بأقوال الإمامين ابن تيمية وابن الجوزي وبفصل للبقاعي بسبيل إثبات مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية وأورد حديثا طويلا أورده البقاعي في ذلك من إخراج الدارمي لم يرد في كتب الصحاح ونرى التوقف فيه أولى لأن فيه إغرابا شديدا. ومما ساقه البقاعي بسبل إثبات حقيقة ذلك ما ورد في الأناجيل المتداولة اليوم من حوادث عديدة نذكر ما كان من إخراج عيسى (عليه السلام) الجنّ والشياطين من المرضى المصابين بالصرع والجنون، والأناجيل المتداولة تورد روايات فيها غثّ وسمين وحقيقة وخيال وذكريات ولا يصح سوقها بسبيل إثبات ذلك.
ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وأشار إلى الخلاف فيها بين أهل السنة والمعتزلة فقال إن الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه وإنه ثبت عند أطباء العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الجديدة. وقد تعالج بالإيهام. وإننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل عليه في العلم لأجل تصحيح الروايات الآحادية وإن القرآن أرفع من أن يعارض العلم.
وهذا كلام سديد من دون ريب، وقد يصح أن يضاف إليه أولا: إن الآية في مقامها لا تتحمل هذا الجدل. وإن كلام الزمخشري ومن تابعه في الأصل متسق مع ما تكرر كثيرا في القرآن من كون حكمة التنزيل جرت على مخاطبة سامعيه للمرة الأولى بما هو معروف ومسموع ومعتقد به عندهم وعند الأمم الأخرى التي يتصلون بها أو يعرفون أخبارها.
وثانيا: إنا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما أخبره القرآن والأحاديث الصحيحة من أمور الجن والشياطين واجب على المسلم شأن سائر الأخبار الغيبية التي تذكر في القرآن والأحاديث مع إيكال ما لا يدركه العقل الإنساني من ذلك إلى الله سبحانه والقول آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا آل عمران: [٧] ومع الإيمان بأنه لا بد لذكر ما ذكر بالأسلوب الذي ذكر به في القرآن والأحاديث الصحيحة من حكمة، ولعلّ من ذلك هنا قصد التنديد والإنذار وليس هذا الأمر يعد من الأمور المحكمة التي لا يسع المسلم جهلها وليس له ولا عليه أن يتكلف فيها على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.
وإنه لمن واجب علماء المسلمين ودعاة الإصلاح وأولياء الأمر الصالحين أن يتداعوا لإيجاد مخرج للمسلمين من هذا البلاء العام الذي يرتكسون فيه ويعيشون خلاله في حالة حرب مع الله ورسوله وفي لعنة الله ورسوله والعياذ بالله.
وبعض المؤولين قالوا إن جملة وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [٢٨٠] هي في صدد الربا موضوع الكلام وأنها بسبيل الأمر بالتأجيل بدون زيادة وليست في صدد الدين بصورة عامة الذي ينشأ عن العقود المشروعة من بيع وشراء وإجارة إلخ. وبعضهم قالوا إنها تشمل الدين مطلقا والجملة مطلقة بحيث يجعل ذلك الرجحان للقول الثاني فيما يتبادر لنا. ولا سيما إن المفسرين يوردون أحاديث نبوية في ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن أسعد بن زرارة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سرّه أن يظلّله الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه فلييسّر على معسر أو ليضع عنه».
وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن بريدة قال: «سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: من أنظر معسرا فله بكلّ يوم مثله صدقة وفي رواية في كلّ يوم مثلاه صدقة» وحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه». وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أراد أن تستجاب
دعوته وأن تكشف كربته فليفرّج عن معسر». وحديث أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتي الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ قال: ما عملت لك يا ربّ مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها. قالها ثلاث مرات ثم قال عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسّر على الموسر وأنظر المعسر فيقول الله عز وجل أنا أحقّ من ييسّر ادخل الجنة». وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان بن عفان قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أظلّ الله عبدا في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه من أنظر معسرا أو ترك لغارم» «١» وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من قيح جهنم» «٢».
وبعض هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن هذا لا يمنع صحتها. وهي متسقة مع النص القرآني وفيها من الحثّ على التسامح والبرّ والتنويه بفضيلة إنظار المعسرين والتساهل معهم ما يتساوق مع التلقين القرآني.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن سعيد بن المسيب وحديثا رواه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في صيغتين متقاربتين عن عمر بن الخطاب أنه خطب المسلمين يوما فقال: «إني لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا وإنه قد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم»، وجاء في الصيغة الثانية: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض قبل أن يفسّرها لنا فدعوا الربا والريبة». والحديث بصيغتيه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ونحن نتوقف في هذا الحديث. فالله سبحانه قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ النحل: [٤٤] ومن واجب المسلم أن يعتقد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قام بهذه المهمة. والأحاديث الصحيحة العديدة في الربا ومداه
(٢) من تفسير القاسمي.
تصح أن تورد كدليل على ذلك. ولا يبدو في الآيات غموض ولا إشكال والله تعالى أعلم.
ولقد كانت جملة الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ موضوع جدل مذهبي كلامي حيث أنكر الزمخشري وفقا لمذهب المعتزلة حقيقة الأمر وقال: إن الآية تعبير عما كان يزعم العرب في الجاهلية، وغمز الذين يعتقدون حقيقة ذلك وقال إن إنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. وقد تابعه البيضاوي والطبرسي في قوله وحيث ردّ أهل السنة على هذا القول وأوردوا بعض الأحاديث التي منها ما ورد في الكتب الصحيحة من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها. واقرأوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «١» آل عمران: [٣]. وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «٢». ومما لم يرد في تلك الكتب حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التقطوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشّياطين» «٣». وقد قابل القاضي ابن المنير غمز الزمخشري بالشتيمة فقال هذا خبطهم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون. وقد عقد القاسمي فصلا طويلا في تفسيره للآية على هذه المسألة واقتبس من كتاب زاد المعاد لابن القيم نبذة طويلة فيها استشهاد ببعض أقوال وأفعال الإمام ابن تيمية بسبيل إثبات صحة وقائع مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية. واقتبس القاسمي كذلك نبذة من مؤلف للعلامة البقاعي بسبيل تأييد ذلك فيها أولا بعض أحاديث نبوية أخرجها الدارمي ولم ترد في الكتب الصحيحة منها حديث مروي عن ابن عباس جاء فيه: «إن امرأة جاءت بابن لها إلى
(٢) التاج ج ٤ ص ٦٥.
(٣) حاشية ابن المنير على تفسير الزمخشري الجزء ١، الطبعة الأولى، المكتبة التجارية.
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا. فمسح رسول الله صدره ودعا فثعّ ثعّة وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى». وحديث عن جابر قال: «خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فركبنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورسول الله بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلّنا فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا يأخذه الشيطان كلّ يوم ثلاث مرات فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال: اخسأ يا عدوّ الله أنا رسول الله ثلاثا ثم دفعه إليها». وذكر البقاعي في نبذته أن هذا الحديث أخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك كان في حرة واقم ومما جاء في صيغة الطبراني عن جابر: «فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيّها ومعها كبشان تسوقهما فقالت: يا رسول الله اقبل مني هديتي فو الذي بعثك بالحقّ ما عاد إليه بعد. فقال: خذوا منها واحدا وردّوا عليها الآخر». وقال البقاعي في نبذته: إن هذا الحديث رواه أيضا البغوي في شرح السنة عن يعلي بن مرة (رضي الله عنه). وذكر القاسمي أن البقاعي ساق بعد ذلك ما جاء في الإنجيل قال وذلك كثير جدا. يعني ما وقع للمسيح (عليه السلام) من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك «١». وقال إنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا كافيا لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان. وقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وأشار إلى الخلاف المذهبي فيها بين أهل السنة والمعتزلة وقال إن الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه. وأنه ثبت عند أطباء العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الجديدة. وقد تعالج بالإيهام. وإننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما
الإصحاحات ٤ و ٩ و ١٢ و ١٧ من متى. و ٣ و ٥ من مرقس. و ٤ و ٦ و ٨ و ٩ و ١١ من لوقا. وفي الإصحاح ٢٢ من سفر الخروج و ٢٠ من سفر الأحبار من أسفار العهد القديم شجب للسحر والعرافات وأصحاب التوابع من الجن.