آيات من القرآن الكريم

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ

كفّر عن يمينك وكلّم أخاك، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم إلا فيما لا تملك» «١». وللنسائي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء وما كان في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ويكفّره ما يكفّر اليمين» »
. ويصح أن يقاس اليمين على هذا كما هو المتبادر.
وهناك أحاديث أخرى في حظر اليمين بغير الله يحسن أن تساق في هذا المقام أيضا، منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدرك عمر في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله ألا إنّ الله عزّ وجلّ ينهاكم أن تحلفوا بأبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «٣». وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر: سمع رجلا يحلف بالكعبة فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حلف بغير الله فقد أشرك» «٤».
هذا، ولقد كتبنا تعليقا على ما أعاره القرآن من اهتمام للإصلاح بين الناس في تفسير سورة الشورى فنكتفي بهذا التنبيه في مناسبة ما ورد من ذلك في هذه الآية.
ولقد قيل «٥» في تأويل كلمة (عرضة) قول آخر وهو أن الجملة بسبيل النهي عن التعريض باسم الله في مواقف الحنث واللغو والإكثار من اليمين باسمه لتغرير الناس والكذب عليهم والإكثار من اليمين ولو كانت بارّة صادقة. ومع ما في هذا القول من وجاهة وتلقين بليغ فإن النفس تطمئن بالمعنى الأول كما أن روح الآية تلهمه أكثر وهو ما عليه الجمهور.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٦ الى ٢٢٧]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)

(١) التاج ج ٣ ص ٧٦.
(٢) المصدر نفسه ص ٧٧.
(٣) المصدر نفسه ص ٦٧- ٦٨ وهناك أحاديث أخرى في هذا الباب.
(٤) انظر المصدر نفسه.
(٥) انظر تفسير الخازن.

صفحة رقم 406

(١) يؤلون: من الإيلاء بمعنى القسم (آلى على نفسه وآليت على نفسي) وقد صار له معنى اصطلاحي وهو القسم على عدم مجامعة الزوجة.
(٢) تربص: انتظار.
(٣) فاءوا: رجعوا عن القسم.
(٤) الطلاق: معناه اللغوي المفارقة، وقد صار له معنى اصطلاحي وهو فراق الزوجين عن بعضهما.
في الآيتين تعليمات أو تقريرات تشريعية في شأن الإيلاء: فالذين يحلفون بأن لا يجامعوا زوجاتهم لا يصح أن يستمروا على ما أقسموا عليه إلّا أربعة أشهر، فإما أن يرجعوا عن يمينهم ويعودوا إلى نسائهم والله غفور رحيم يقبل التوبة ويعامل بالرحمة، وإما أن يعزموا الطلاق والله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم.

تعليق على الآية لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ إلخ والآية التالية لها
والآيتان فصل تشريعي جديد، وهو بدء فصل طويل في الطلاق. وقد يكون وضعه في ترتيبه للمماثلة أو لنزوله بعد ما سبقه.
ولم نطلع على رواية في نزوله، والمتبادر أنه حدث حادث إيلاء فرفع أمره إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الحكم فيه. وقد قلنا إن الآيتين السابقتين متصلتان بما بعدهما لأن في اليمين على عدم قرب الزوج لزوجته شيئا مما يخالف الإصلاح وتقوى الله فإذا صح هذا فيكون بدء الفصل التشريعي الآيتين السابقتين وهو فصل طويل على ما سوف يأتي.
وإيلاء الزوج على زوجته عادة من عادات العرب قبل الإسلام، فقد كان

صفحة رقم 407

الأزواج إما بسائق الغضب وإما بسائق الكراهية وإما لمآرب أخرى مثل ابتزاز أموالها ومنعها من التزوج من غيره والتصرف بنفسها أو لكثرة ولادتها البنات أو إبقائها في بيته لتكون خادمة ومربية لأولادها إلخ... يحلفون بعدم الاتصال الجنسي بأزواجهم فتصبح محرّمة عليه لا هي زوجة ولا هي مطلقة. وقد وضعت الآيتان الأمر في نصابه الحق فليس للزوج أن يتحكم بزوجته تحكما كيفيا ليشفي به غلّ نفسه أو يضمن النفع على حساب ضررها. ولا يصح للمؤلي أن يحتج باليمين الصادرة منه للإضرار والحيف: فإما أن تكون يمينا صدرت عن فورة آنية وبغير قصد وتعمد وحينئذ لا يجوز أن يمتد أثرها لأكثر من أربعة أشهر في حال كحد أقصى، وإما أن تكون صدرت عن نية إضرار وأذى وحينئذ يجب أن ترد إلى الزوجة حريتها وأن تحمى من الأذى والضرر بالطلاق إذا لم يرعو الزوج ويعود إلى الحق والواجب وهذا الشرح المستلهم من روح الآيتين والآيتين السابقتين لهما معا يؤيد ما قلناه من الصلة والانسجام بينهما ويبرز المبدأ الجليل الذي تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة بحماية الزوجة ومنع الإضرار بها وظلمها واستغلالها.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة في تأويل الآيات ومدى تطبيق حكم الإيلاء. منها حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس قال: «آلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نسائه فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ليلة ثم نزل، قالوا: يا رسول الله آليت شهرا فقال الشهر تسع وعشرون» «١». وحديث رواه البخاري جاء فيه: «كان ابن عمر يقول في الإيلاء لا يحلّ لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم الطلاق» «٢». وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس قال: «إذا حرّم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفّرها، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» «٣». وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت:
«آلى رسول الله من نسائه وحرّم فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين كفّارة» «٤».

(١) التاج ج ٢ ص ٣١٦ و ٣١٧ والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
(٢) التاج ج ٢ ص ٣١٦ و ٣١٧ والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها. [.....]
(٣) التاج ج ٢ ص ٣١٦ و ٣١٧ والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
(٤) التاج ج ٢ ص ٣١٦ و ٣١٧ والمقصود بالحديث الأخير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم على نفسه ما هو حلال له من نسائه ثم رجع عن هذا التحريم فاستمتع بما أحله الله له وكفّر عن يمينه. وقد أشير إلى ذلك في الآيات الأولى من سورة التحريم على ما سوف نشرحه في مناسبتها.

صفحة رقم 408

وبالإضافة إلى الأحاديث التي اكتفينا منها بما تقدم ففي كتب التفسير روايات عن أهل التأويل في صدد تطبيق الآيات وحكمها نوجزها ونعلق عليها كما يلي:
١- هناك من قال إنه إذا مرت الأشهر الأربعة دون مراجعة صارت الزوجة مطلقة سواء نطق الزوج بالطلاق أم لم ينطق. وهناك من قال إنه لا بد من أن ينطق بالطلاق لأن فحوى الآية يجعله بين أمرين إما الرجوع قبل انتهاء المدة وإما الطلاق. وهناك من قال إن الزوج إذا لم يطلق أو يرجع خلال المدة طلق عليه الحاكم عند انتهائها وإن للزوجة مراجعة الحاكم لتخييره بين الرجوع والطلاق قبل انتهاء المدة فإن لم يرجع وانتهت المدة طلق الحاكم عليه. والمتبادر أن القول الأخير هو الأوجه لأن هدف الآية منع وقوف الحيف على الزوجة وعدم بقائها معلقة تحت رحمة الزوج.
٢- هناك من قال إن الرجوع عن الإيلاء في المدة لا يكون صحيحا إلا بالوقاع. وهناك من قال إنه يصح بالإشهاد على الرجوع فقط. وهناك من توسط وفصل. فقال إذا كان هناك مانع للوقاع من مرض أو حيض أو سفر أو سجن فيكون الإشهاد مجزيا. وقد يكون هذا هو الأوجه على شرط أن يواقع إذا زال العذر.
ويكفّر عن يمينه كدلالة عملية على الرجوع عنها. أما إذا لم يكفر ولم يواقع إذا زال العذر فيظل الإشهاد كلاما بدون دليل ويكون ضرر الإيلاء قد تحقق.
٣- هناك من قال إن مرور الأشهر الأربعة بدون رجوع يكون بمثابة تطليقة بائنة. تملك بها الزوجة نفسها فإذا أراد زوجها أن يعود إليها كان ذلك رهنا برضائها وبعقد ومهر جديدين دون ما حاجة إلى أن تنكح زوجا غيره قبل ذلك إذا كانت هي المرة الأولى أو الثانية ولها الحق أن لا تقبل عودته إليها وأن تتزوج غيره بعد أن تنتهي عدتها وتكون هذه العدة حيضة واحدة «١». وهناك من قال إنها تطليقة عادية رجعية يحق للزوج المراجعة بدون عقد ومهر جديدين استنادا إلى حكم

(١) لأنها لأجل استبراء الرحم فقط، ولأن تحديد حيضات ثلاث للمطلقات هو بقصد إفساح المجال للمراجعة.

صفحة رقم 409

الطلاق المبين في الآيات التالية على ما سوف يأتي شرحه. وهذه الآيات تذكر حكم المطلقات إذا طلقهن أزواجهن مرة أو مرتين حيث يكون لهم مراجعتهن قبل انقضاء العدة مع شرط أن يكون قصدهم الإصلاح وليس الضرر. وورود الآيات بعد آية الإيلاء وبعد جملة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ قد يجعل القول الثاني هو الأوجه والله أعلم.
٤- هناك من قال إن الزوج لو حلف أن لا يضرب امرأته أربعة أشهر ولم يواقعها بعد انتهاء المدة لا يكون موليا، لأن حكم الآية هو في الذين يولون بدون تحديد للمدة حيث حددت لهم أربعة أشهر يفيئون خلالها أو يطلقون أو يطلق عليهم. وهناك من قال إنه يكون موليا إذا تجاوز الأشهر الأربعة بدون وقاع، ونرى القول الثاني هو الأكثر وجاهة واتساقا مع روح الآية وهدفها.
٥- هناك من قال: إن مدة الإيلاء وأحكامه واحدة في حقّ الحرّ والعبد. لأن الأمر متصل بالطبيعة الجنسية. وهناك من قاس الأمر على حدّ الزنا على الإماء وهو نصف حد الحرائر كما جاء في آية سورة النساء: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) ولم نطلع على حديث نبوي خاص. وهناك حديث في صدد عدد تطليقات الأمة المتزوجة وعدتها حيث روى أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان». في حين أن طلاق الحرة هو ثلاث وعدتها ثلاث حيضات كما جاء في آيات سورة البقرة التالية لهذه الآيات.
وقد يكون ذلك القياس استئناسا بذلك في محله فيكون مدة تربص الأمة التي يولي زوجها منها شهرين وليس أربعة والله أعلم.
٦- والجمهور على أن الإيلاء يمين، وإنه إذا حلف الزوج لمدة غير محدودة وفاء قبل أربعة أشهر يكفّر عن يمينه حيث يكون قد حلف على شيء ورأى خيرا منه فرجع عن يمينه كما جاء في الأحاديث النبوية. أما إذا حلف لمدة أربعة أشهر أو أقل وفاء قبل انقضائها فلا يدخل الأمر في شمول الآية لأنه لا يكون قد رجع عن

صفحة رقم 410

اليمين وحقت عليه الكفارة. وهناك من أوجب الكفارة عليه لأن الزوج يعتبر راجعا عن يمينه وقد يكون القول الأول أوجه والله أعلم.
وجملة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قد تلهم أن الله تعالى لا يستحسن الإيلاء على كل حال مهما كانت المدة، ويعده هفوة قد يغفرها إذا تاب الزوج عنها وراجع زوجته في المدة أو قبلها. ويدعم هذا عتاب الله لرسوله حينما آلى من زوجاته على ما حكته آيات سورة التحريم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) والأحاديث التي أوردناها في مطلع النبذة عند إيلاء النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كفر عن يمينه، وقد يفيد هذا آيات التحريم هذه أيضا. ولعل النبي صلّى الله عليه وسلّم آلى بدون مدة ثم رجع فكفّر عن يمينه، والله تعالى أعلم.
حالات متصلة بموضوع علاقة الزوج الجنسية بزوجته
هناك حالات عديدة من ذلك رأينا أن نستطرد إليها في مناسبة موضوع آيات الإيلاء. فقد روى الإمام مالك عن سعيد بن المسيب أحد علماء التابعين قوله:
«أيما رجل تزوّج بامرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخيّر فإن شاءت أقرّت وإن شاءت فارقت» وقوله: «من تزوّج امرأة فلم يستطع أن يمسّها فإنه يضرب له أجل سنة فإن مسّها وإلا فرّق بينهما» وروى الإمام مالك: «أن ابن شهاب سئل متى يضرب الأجل فقال من يوم الترافع إلى السلطان» وعقب الإمام مالك على هذه الأقوال فقال: أما الذي قد مسّ امرأته ثم اعترض عنها فلا يضرب له ولا يفرّق بينهما» «١».
ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك والاجتهادات تفيد أن للزوجة أن ترفع أمرها للسلطان إذا لم ترض بما واجهته من حالات وإن للسلطان أن يضرب أمدا للزوج ثم يفرق بينهما إذا لم يتغير الموقف إيجابيا. وهي اجتهادات سديدة مع توقفنا في

(١) التاج ج ٢ ص ٣٠٠.

صفحة رقم 411
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية