آيات من القرآن الكريم

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ

وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
حرفان يخرجان على الوعيد: (سَمِيعٌ) بمقالتكم وأيمانكم، (عَلِيمٌ) بإرادتكم في حلفكم.
وقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ): إن كسب القلوب لا يكون عقدًا ولا حنثًا، إنما هو تعمد الكذب.
كقوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)، فعلى ذلك أَمْر يمين اللغو والتعمد. وهذا يبين أن اليمين يكون في موجود، لا فيما يوجد؛ إذ فيه وصف المآثم، وفيما يكون لم يكسب قلبه ما يأثم فيه. فعلى ذلك أمر اللغو؛ فهو في الماضي، ولا يأثم بالخطأ، ويأثم في غير اللغو بالتعمد.
ثم قال اللَّه تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)، وبين أن المؤاخذة تكون في هذا بالكفارة وفي الأول بالمأثم، وفي اللغو لا يؤاخذ بهما، فلزم تسليم البيان لما جاء في كل ذلك، ثم جميع المؤاخذات في كسب القلب بالمأثم ولزوم التوبة؛ فكذا في هذا.
وقد رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر اللعان، أنه قال: " إن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ " ومعلوم كذب أحدهما ولزوم التوبة، مع ما في تركه الوعيد الشديد من الغضب أو اللعن. ولو كانت فيه كفارة لكان لا سبيل إلى العلم بها إلا بالبيان؛ فهي أحق أن يبين لو كانت واجبة، دل ما لم يبين أنها غير واجبة على أنها تجب للحنث، والحنث عقيب العقد يدفعه، وكان هاهنا ملاقيا له، فهو يمنعه على نحو جميع الحرمات التي تفسخ الأشياء، فهي عند الابتداء تمنع. وليس ذلك كالطلاق ونحوه؛ لما قد يكون بلا شرط، واليمين لا يصح إلا به ولم يكن فأنفذ.
وقوله: (وَاللَّهُ). وقد يخرج مخرج الاستخفاف الحلف باللَّه كاذبًا والجرأة على اللَّه، فيجيء أن يكون كفرًا، لولا أن المؤمن يخطر بباله ما يحمله على ذلك دون قصد

صفحة رقم 140

الاستخفاف به. وعلى ذلك أمر اللعان، أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يقل: أحدكما كافر، فهل منكما من مؤمن؟ لأنهما لم يقصدا ذلك القصد. فكذا " كل حالف على تعمد الكذب. واللَّه الموفق.
وقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ)، قال سعيد بن جبير: هذا محمول على قوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، أي: لا يؤاخذكم اللَّه بنقض أيمانكم التي حلفتم بها؛ لأنها معصية لله، ولكن يؤاخذكم بحفظها والمضي عليها.
ثم اختلفوا في اللغو ما هو؟
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الإثم.
وقيل: هو الغلط.
ْثم اللغو المذكور الذي أخبر أن لا مؤاخذة على صاحبه يحتمل ألا يؤاخذه بالإثم، ويحتمل ألا يؤاخذه بالكفارة، بل إنما يؤاخذ بالكفارة بما يعقد.
ثم ذكر في الآية الثانية: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)، ولو حمل على أنه لا يؤاخذ في هذا أيضًا بالإثم وقع الكلام -بحيث لا يفيد- في حد التكرار.
والأصل عندهم: بأن حمله على ما يفيد أحق من حمله على ما لا يفيد؛ فثبت أن الأول في نفي الإثم، والثاني في نفي الكفارة.
وعلى هذا القول في الغموس: إنه لعظم الوزر والإثم لم يلزم أن يكفر، فليس فيه الكفارة.

صفحة رقم 141

وله وجه آخر: وهو أن سبب الحنث في اللغو والغموس تلاقى العقد، فلم يصح به اليمين؛ لأن الحنث نفسه يسقط اليمين، فإذا لاقى الحنث اليمين منع صحتها ووجوبها. فإذا كانت هذه اليمين غير صحيحة في العقد، لم يلزم الكفارة؛ لخروجها عن الشرط. ثم لم يزل عنه -في الغموس- الإثم؛ لتعمده الكذب.
وقال الفقيه أبو منصور - رحمه اللَّه تعالى -: والقياس عندي في التعمد بالحلف على الكذب أن يكفر؛ ولهذا ما لحقه الوزر لما أن الأيمان - جُعلت للتعظيم لله - تعالى - بالحلف فيها، والحالف بالغموس مجترئ على اللَّه - تعالى - مستخف به؛ ولهذا نهى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الحلف بالآباء والطواغيت؛ لأن في ذلك تعظيمًا لهم وتبجيلاً.
فالحالف بالغموس كالذي هو مجترئ ومستخف، فالوزر له بالجرأة لازم، ثم المتعمد مجترئ مستخف باللَّه - تعالى - على المعرفة؛ لأنه لا يسع، فسبيله سبيل أهل النفاق - إظهارهم الإيمان بما فيه استخفاف، وإن كان سببها للتعظيم، للاستخفاف لزمهم العقوبة بذلك، كذا الأول، ولكنه بالحلف خرج فعله على الجرأة للوصول إلى مناه وشهوته، لا للقصد إليه. وعلى ذلك يخرج قول أبي حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه - في سؤال السائل: إن العاصي مطيع للشيطان، ومن أطاع الشيطان كفر، كيف لا كفَّر العاصي؟ فقال: لأنه خرج فعله في الظاهر مخرج الطاعة له، لا أن القصد يكون طاعته، وإنَّمَا يكفر بالقصد لا بما يخرج فعله فعل معصية؛ فكذا الأول. واللَّه أعلم.
وعلى ذلك جاء في أمر اللعان من القول بأن " أحدكما كاذب فهل منكما من تائب "، ففيه وجهان:

صفحة رقم 143

أحدهما: أنه لم يأمر بالإيمان، ولا قال: أحدكما كافر؛ فثبت أنه لا يكفر به.
والثاني: أنه أمر بالتوبة، وقد يعلم من كذب أن عليه ذلك مع ما في القرآن من اللعن والغضب، ولم يأمر بالكفارة -وهي لا تعلم إلا بالبيان- فهي أحق أن تبين لو كانت واجبة. واللَّه أعلم.
والأصل عندنا في اليمين الغموس: أنه آثم، وعليه التوبة، والتوبة كفارة. وهكذا في كل يمين في عقدها معصية أن تلزمه الكفارة وهي التوبة. وأما الكفارة التي تلزم في المال، فهى لا تلزم بالحنث؛ لأنه بالحنث يأثم، والحنث نفسه إثم؛ لذلك لم يجز إلا بالحنث.
وما رويت من الأخبار - من قوله - عليه الصلوات والسلام -: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير ": أنه إذا كان يمينه بمعصية يصير باليمين آثمًا، فيكلف بالتوبة.

صفحة رقم 144
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية