
وأما معنى"الخلاق" فقد بيناه في غير هذا الموضع، وذكرنا اختلافَ المختلفين في تأويله والصحيحَ لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الحسنة" التي ذكر الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم. يعني بذلك: ومن الناس مَن يقول: ربَّنا أعطنا عافية في الدنيا وعافية في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٨٧٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة"، قال: في الدنيا عافيةً، وفي الآخرة عافية. قال قتادة: وقال رجل:" اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا"، فمرض مرضًا حتى أضنى على فراشه، (٢) فذكر للنبي ﷺ شأنُه، فأتاه النبي عليه السلام، فقيل له: إنه دعا بكذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لا طاقة لأحد بعقوبه الله، ولكن قُل:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عَذاب النار". فقالها، فما لبث إلا أيامًا= أو: يسيرًا =حتى بَرَأ.
(٢) أضنى الرجل: إذا لزم الفراش من الضنى وهو شدة المرض حتى ينحل الجسم.

٣٨٧٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سعيد بن الحكم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: عاد رَسول الله ﷺ رجلا قد صار مثل الفرْخ المنتوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو الله بشيء؟ - أو تسأل الله شيئًا؟ قال: قلت:"اللهم ما كنت مُعاقبي به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا! ". قال:" سبحان الله! هل يستطيع ذلك أحد أو يطيقه؟ فهلا قلت:" اللهم آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار؟ ". (١)
* * *
وقال آخرون: بل عَنى الله عز وجل بـ "الحسنة" - في هذا الموضع- في الدنيا، العلمَ والعبادة، وفي الآخرة: الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حميد: هو ابن أبي حميد الطويل وهو تابعي ثقة، سمع من أنس بن مالك، وسمع من ثابت البناني عن أنس. وزعم بعضهم أنه لم يسمع من أنس إلا أحاديث قليلة وأن سائرها إنما هو"عن ثابت عن أنس". ورد الحافظ ذلك ردا شديدا، وقال: "قد صرح حميد بسماعه من أنس بشيء كثير. وفي صحيح البخاري من ذلك جملة".
وإنما فصلت هذا لأن رواية هذا الحديث هنا فيها تصريح حميد بسماعه من أنس. ولكنه رواه أحمد ومسلم من حديث حميد، عن ثابت عن أنس. فلعله سمعه من أنس ومن ثابت عن أنس:
فرواه أحمد في المسند: ١٢٠٧٤ (٣: ١٠٧ حلبي) عن ابن أبي عدي وعبد الله بن بكر السهمي - كلاهما عن حميد عن ثابت عن أنس. وكذلك رواه مسلم ٢: ٣٠٩ من طريق ابن أبي عدي عن حميد ثم من طريق خالد بن الحارث عن حميد.
وذكره ابن كثير ١: ٤٧٢- ٤٧٣ من رواية المسند. ثم قال: "انفرد بإخراجه مسلم" يعني انفرد به عن البخاري.
وذكره السيوطي ١: ٢٣٣ وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب. ولكنه وهم فنسبه أيضًا للبخاري ولم أجده فيه، مع جزم ابن كثير بانفراد مسلم بروايته.

٣٨٧٨ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا عباد، عن هشام بن حسان، عن الحسن:" ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والعبادةُ، وفي الآخرة: الجنة.
٣٨٧٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة، وفي الآخرة حَسنةً، وقنا عذابَ النار"، قال: العبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
٣٨٨٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار، قال: حدثنا عباد بن العوام، عن هشام، عن الحسن في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: الفهمُ في كتاب الله والعلم.
٣٨٨١ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت سفيان الثوري يقول [في] هذه الآية:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والرزق الطيب، وفي الآخرة حَسنة الجنة.
* * *
وقال آخرون:"الحسنة" في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٨٨٢ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" ومنهم مَنْ يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، قال: فهؤلاء النبي ﷺ والمؤمنون.
٣٨٨٣ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي" ومنهم من يَقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، هؤلاء المؤمنون; أما حسنة الدنيا فالمال، وأما حَسنة الآخرة فالجنة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله، ممن حجَّ بَيته، يسألون ربهم