
عليه السلام، قاله الضحاك بن مزاحم. والثالث: أن المراد بالناس آدم، قاله الزهري. وقد قرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، ومورَّق العجلي: «الناسي» باثبات الياء. والرابع: أنهم أهل اليمن وربيعة، فانهم كانوا يفيضون من عرفات، قاله مقاتل.
وفي المخاطبين بذلك قولان: أحدهما: أنه خطاب لقريش، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه خطاب لجميع المسلمين، وهو يخرج على قول من قال: الناس آدم، أو إبراهيم.
والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ: هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر، إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك، كيف يقال: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، ثم أفيضوا من عرفات؟! غير أني أقول: وجه الكلام على ما قال أهل التفسير: أن فيه تقديماً وتأخيراً، تقديره: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله.
و «الغفور» : من أسماء الله، عزّ وجلّ، وهو من قولك: غفرت الشيء: إذا غطيته، فكأنّ الغفور الساتر لعبده برحمته، أو الساتر لذنوب عباده. والغفور: هو الذي يكثر المغفرة، لأن بناء المفعول للمبالغة من الكثرة، كقولك: صبور، وضروب، وأكول.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٠ الى ٢٠٣]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم، ذكروا أفعال آبائهم وأيامهم وأنسابهم في الجاهلية، فتفاخروا بذلك فنزلت هذه الآية «١». وهذا المعنى مرويّ عن الحسن، وعطاء، ومجاهد.
والثاني: أن العرب كانوا إذا حدثوا أو تكلموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا فنزلت هذه الآية.
وهذا مروي عن الحسن أيضاً «٢». والثالث: أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم، قام الرجل بمنى، فقال:
اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ذلك، فلا يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل أن يعطى في دنياه فنزلت هذه الآية، وهذا قول السّدّي «٣».
- الخلاصة: هذه المراسيل تتأيد بمجموعها، فهذا أرجح الأقوال في تفسير الآية.
(٢) عزاه المصنف للحسن، ولم أقف عليه مسندا، وإنما ذكره الواحدي عنه في «الأسباب» ١٢٠ بدون إسناد، ومراسيل الحسن واهية، وهذا قول منكر.
(٣) أخرجه الطبري ٣٨٦٩ عن السدي مرسلا، ويشهد لبعضه القول الأول، وبعضه غريب.

والمناسك: المتعبدات، وفي المراد بها هاهنا قولان: أحدهما: أنها أفعال الحج، قاله الحسن.
والثاني: أنها إراقة الدّماء، قاله مجاهد. وفي ذكرهم آباءهم أربعة أقوال: أحدها: أنه إقرارهم بهم.
والثاني: أنه حلفهم بهم. والثالث: أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم، فانهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم. والرابع: أنه ذكر الأطفال الآباء، لأنهم أول نطقهم بذكر آبائهم، روي هذا المعنى عن عطاء، والضحاك. وفي «أو» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «بل». والثاني: بمعنى الواو. و «الخلاق» قد تقدم ذكره.
وفي حسنة الدنيا سبعة أقوال: أحدها: أنها المرأة الصالحة، قاله عليّ عليه السّلام. والثاني: أنها العبادة، رواه سفيان بن حسين عن الحسن. والثالث: أنها العلم والعبادة، رواه هشام عن الحسن.
والرابع: المال، قاله أبو وائل، والسدي، وابن زيد. والخامس: العافية، قاله قتادة. والسادس: الرزق الواسع، قاله مقاتل. والسابع: النعمة، قاله ابن قتيبة.
وفي حسنة الآخرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحور العين، قاله عليّ عليه السلام. والثاني:
الجنة، قاله الحسن، والسدي، ومقاتل. والثالث: العفو والمعافاة، روي عن الحسن، والثوري.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا، قال الزجاج: معناه: دعاؤهم مستجاب، لأن كسبهم هاهنا هو الدعاء، وهذه الآية متعلقه بما قبلها، إلا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب أخواتها.
(٨٩) فروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال: «لو كان على أبيك دين قضيته، أفكان ذلك يجزئ عنه؟» قال: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يقضى» ! قال: فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية.
وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال: أحدها: أنه قِلَّته، قاله ابن عباس. والثاني: أنه قرب مجيئه، قاله مقاتل. والثالث: أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه، كان سريع الحساب لذلك. والرابع: أن المعنى: والله سريع المجازاة، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج. والخامس: أنه لا يحتاج إلى فكر وروية كالعاجزين، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ في هذا الذكر قولان:
أحدهما: أنه التكبير عند الجمرات، وأدبار الصّلوات، وغير ذلك من أوقات الحجّ.
- والحديث دون ذكر نزول الآية: أخرجه النسائي ٥/ ١١٨ وفي «الكبرى» ٣٦١٨ والبيهقي ٤/ ٣٢٩ وابن حبان ٣٩٩٠ والدارقطني ٢/ ٢٦٠ بألفاظ متقاربة وليس فيه «فنزلت هذه الآية». وأخرجه البخاري ١٥١٣ و ١٨٥٥ ومسلم ١٣٣٤ وأبو داود ١٨٠٩ والترمذي ٩٢٨ والنسائي ٥/ ١١٨ و ١١٩ و ٨/ ٢٢٨ وابن ماجة ٢٩٠٩ وابن حبان ٢٩٩٠ والشافعي ١/ ٩٩٣ ومالك ١/ ٣٥٩ وأحمد ١/ ٣٤٦ و ٣٥٩ من حديث ابن عباس لكن السائل هو امرأة. الخلاصة: الحديث صحيح دون ذكر نزول الآية، فإنه باطل.

والثاني: أنه التكبير عقيب الصلوات المفروضات. واختلف أرباب هذا القول في الوقت الذي يبتدئ فيه بالتكبير ويقطع على ستة أقوال: أحدها: أنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى ما بعد صلاة العصر من آخر أيام التّشريق، قاله عليّ عليه السلام، وأبو يوسف، ومحمد. والثاني: أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود، وأبو حنيفة. والثالث: من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد العصر من آخر يوم التشريق، قاله ابن عمر، وزيد بن ثابت وابن عباس، وعطاء. والرابع: أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الظهر من يوم النفر، وهو الثاني من أيام التشريق، قاله الحسن. والخامس: أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك بن أنس، وهو أحد قولي الشافعي. والسادس: أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، هذا قول للشافعي، ومذهب إمامنا أحمد أنه إن كان محلاً، كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة أولها الفجر يوم عرفة، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق، وإن كان محرماً كبر عقيب سبعة عشر أولها الظهر من يوم النحر، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق.
وهل يختص هذا التكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان:
إحداهما: يختص بمن صلاها في جماعة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. والثانية: يختص بالفريضة، وإن صلاها وحده، وهو قول الشافعي «١».
وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أيام التشريق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وقتادة في آخرين. والثاني: أنها يوم النحر ويومان بعده، روي عن علي، وابن عمر. والثالث: أنها أيام العشر، قاله سعيد بن جبير، والنخعي.
قال الزجاج: و «معدودات» يستعمل كثيراً للشيء القليل، كما يقال: دريهمات وحمامات.
قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أي: فمن تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى، فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى النفر الثاني، وهو اليوم الثالث من أيام منى، فلا إثم عليه.
فان قيل: إنما يخاف الإثم المتعجل، فما بال المتأخر ألحق به، والذي أتى به أفضل؟! فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المعنى: لا إثم على المتعجل، والمتأخر مأجور، فقال: لا إثم عليه، لتوافق اللفظة الثانية الأولى كقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. والثاني: أن المعنى: فلا إثم على المتأخر في ترك استعمال الرخصة. والثالث: أن المعنى: قد زالت آثام المتعجل والمتأخّر التي كانت عليهما قبل حجهما. والرابع: أن المعنى: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر إنما يكون بشرط التقوى.
وفي معنى «لمن اتقى» ثلاثة أقوال: أحدها: لمن اتقى قتل الصيد، قاله ابن عباس. والثاني: لمن اتقى المعاصي في حجه، قاله قتادة. وقال ابن مسعود: إنما مغفرة الله لمن اتقى الله في حجه.
والثالث: لمن اتقى فيما بقي من عمره، قاله أبو العالية، وإبراهيم.