
أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ سَفِيهُ بَنِي فُلَانٍ وَسَفِيهُ بَنِي فُلَانٍ، وَالرَّسُولُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: السَّفَهُ الْخِفَّةُ يُقَالُ: سَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّيْءَ إِذَا حركته، قال ذو الرمة:
جرين كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهَتْ | أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ الرواسم |
سفيه الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إِذَا مَا | بَدَا فَضْلُ السَّفِيهِ عَلَى الْحَلِيمِ |
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النِّسَاءِ: ٥] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «شَارِبُ الْخَمْرِ سَفِيهٌ» لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَإِنَّمَا سَمَّى الْمُنَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالسُّفَهَاءِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْخَطَرِ وَالرِّيَاسَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا فَقُرَاءَ، وَكَانَ عِنْدَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ، وَالْبَاطِلُ لَا يَقْبَلُهُ إِلَّا السَّفِيهُ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ نَسَبُوهُمْ إِلَى السَّفَاهَةِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَلَبَ عَلَيْهِمْ هَذَا اللَّقَبَ- وَقَوْلُهُ الْحَقُّ- لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الدَّلِيلِ ثُمَّ نَسَبَ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ إِلَى السَّفَاهَةِ فَهُوَ السَّفِيهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَهُوَ السَّفِيهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ عَادَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَدْ عَادَى اللَّهَ، وَذَلِكَ هُوَ السَّفِيهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يَعْلَمُونَ وَفِيمَا قَبْلَهَا: لَا يَشْعُرُونَ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ نَظَرِيٌّ، وَأَمَّا أَنَّ النِّفَاقَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَغْيِ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَضَرُورِيٌّ جَارٍ مَجْرَى الْمَحْسُوسِ. الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ السَّفَهَ وَهُوَ جَهْلٌ، فَكَانَ ذِكْرُ العلم أحسن طباقاً له والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، يُقَالُ: لَقِيتُهُ وَلَاقَيْتُهُ إِذَا اسْتَقْبَلْتَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ: «وَإِذَا لَاقَوْا» أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا آمَنَّا فَالْمُرَادُ أَخْلَصْنَا بِالْقَلْبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ كَانَ مَعْلُومًا مِنْهُمْ فَمَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَيَانِهِ، إِنَّمَا الْمَشْكُوكُ فِيهِ هُوَ الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ «آمَنَّا» يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَقِيضِ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ لِشَيَاطِينِهِمْ، وَإِذَا كَانُوا يُظْهِرُونَ لَهُمُ التَّكْذِيبَ بِالْقَلْبِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ فِيمَا ذَكَرُوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ فَقَالَ صاحب «الكشاف» : يقال خلوت بفلان وإليه، وإذا انْفَرَدْتَ مَعَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ «خَلَا» بِمَعْنَى مَضَى، وَمِنْهُ الْقُرُونُ الْخَالِيَةُ، وَمِنْ «خَلَوْتُ بِهِ» إِذَا سَخِرْتَ مِنْهُ، مِنْ قَوْلِكَ: «خَلَا فُلَانٌ بِعِرْضِ فُلَانٍ» أَيْ: يَعْبَثُ بِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَنْهَوُا السُّخْرِيَةَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ وَحَدَّثُوهُمْ بِهَا كَمَا تَقُولُ:
أَحْمَدُ إِلَيْكَ فُلَانًا وَأَذُمُّهُ إِلَيْكَ. وَأَمَّا شَيَاطِينُهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ مَاثَلُوا الشَّيَاطِينَ فِي تَمَرُّدِهِمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا مَعَكُمْ صفحة رقم 308

فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَذَا الْقَائِلُ أَهَمَّ كُلَّ الْمُنَافِقِينَ أَوْ بَعْضَهُمْ. الْجَوَابُ: فِي هَذَا خِلَافٌ، لِأَنَّ مَنْ يَحْمِلُ الشَّيَاطِينَ عَلَى كِبَارِ الْمُنَافِقِينَ يَحْمِلُ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صِغَارِهِمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا وَإِذَا عَادُوا إِلَى أَكَابِرِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا فِيهِمُ الْمُبَايَنَةَ، وَمَنْ يَقُولُ فِي الشَّيَاطِينِ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْكُفَّارُ لَمْ يَمْنَعْ إِضَافَةَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى كُلِّ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِشَيَاطِينِهِمْ أَكَابِرُهُمْ، وَهُمْ إِمَّا الْكُفَّارُ وَإِمَّا أَكَابِرُ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا أَصَاغِرُهُمْ فَلَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ كَانَتْ مُخَاطَبَتُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وشياطينهم بالجملة الاسمية محققة «بأن» الْجَوَابُ: لَيْسَ مَا خَاطَبُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ جَدِيرًا بِأَقْوَى الْكَلَامَيْنِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي ادِّعَاءِ حُدُوثِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ لَا فِي ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ فِي الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ مِنْهُ، إِمَّا لِأَنَّ أَنْفُسَهُمْ لَا تُسَاعِدُهُمْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْقَوْلَ الصَّادِرَ عَنِ النِّفَاقِ وَالْكَرَاهَةِ قَلَّمَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْمُبَالَغَةُ، وَإِمَّا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ادِّعَاءَ الْكَمَالِ فِي الْإِيمَانِ لَا يَرُوجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا كَلَامُهُمْ مَعَ إِخْوَانِهِمْ فَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ عَنِ الِاعْتِقَادِ وَعَلِمُوا أَنَّ الْمُسْتَمِعِينَ يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَا جَرَمَ كَانَ التَّأْكِيدُ لَائِقًا بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فَفِيهِ سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الِاسْتِهْزَاءُ؟ الْجَوَابُ: أَصْلُ الْبَابِ الْخِفَّةُ مِنَ الْهَزْءِ وَهُوَ الْعَدْوُ السَّرِيعِ، وَهَزَأَ يَهْزَأُ مَاتَ عَلَى مَكَانِهِ، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ أَيْ تُسْرِعُ، وَحَدُّهُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ مُوَافَقَةٍ مَعَ إِبْطَانِ مَا يَجْرِي مَجْرَى السُّوءِ عَلَى طَرِيقِ السُّخْرِيَةِ، فَعَلَى هَذَا قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ يَعْنِي نُظْهِرُ لَهُمُ الْمُوَافَقَةَ عَلَى دِينِهِمْ لِنَأْمَنَ شَرَّهُمْ وَنَقِفَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، وَنَأْخُذَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَغَنَائِمِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ:
إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ الْجَوَابُ: هُوَ تَوْكِيدٌ لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا مَعَكُمْ مَعْنَاهُ الثَّبَاتُ عَلَى الكفر وقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ رَدٌّ لِلْإِسْلَامِ، وَرَدُّ نَقِيضِ الشَّيْءِ تَأْكِيدٌ لِثَبَاتِهِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ حَقَّرَ الْإِسْلَامَ فَقَدْ عَظَّمَ الْكُفْرَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ حِينَ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، فَقَالُوا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَكَيْفَ تُوَافِقُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ أَجَابَهُمْ بِأَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وفيه أسئلة. الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ التَّلْبِيسِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْجَهْلِ، لِقَوْلِهِ: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: ٦٧] وَالْجَهْلُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِي التَّأْوِيلِ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ جَزَاءٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ سَمَّاهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ، لِأَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ يُسَمَّى بِاسْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: ١٤٢] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٤]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا هَجَانِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ فَاهْجُهُ، اللَّهُمَّ وَالْعَنْهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي»
أَيِ اجْزِهِ جَزَاءَ هِجَائِهِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَكَلَّفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»
وَثَانِيهَا: أَنَّ ضَرَرَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُ ضَارٍّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ اللَّهَ اسْتَهْزَأَ بِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ آثَارِ الِاسْتِهْزَاءِ حُصُولُ الْهَوَانِ وَالْحَقَارَةِ فَذَكَرَ الِاسْتِهْزَاءَ، وَالْمُرَادُ حُصُولُ الْهَوَانِ لَهُمْ تَعْبِيرًا بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ اسْتِهْزَاءَ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الدُّنْيَا مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ خِلَافُهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا مَعَ أَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُمْ فِي السِّرِّ خِلَافُهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ

لَهُمْ أَحْكَامَ الدُّنْيَا فَقَدْ أَظْهَرَ الْأَدِلَّةَ الْوَاضِحَةَ بِمَا يُعَامَلُونَ بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ وَالْعِقَابِ الْعَظِيمِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِمَا أَظْهَرُهُ فِي الدُّنْيَا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَهْزِئِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَ الرَّسُولَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي إِخْفَائِهَا عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ، وَالْكَافِرُونَ النَّارَ فَتَحَ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ بَابًا عَلَى الْجَحِيمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مَسْكَنُ الْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْبَابَ مَفْتُوحًا أَخَذُوا يَخْرُجُونَ مِنَ الْجَحِيمِ وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَهُنَاكَ يُغْلَقُ دُونَهُمُ الْبَابُ، فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٢٩- ٣٤] فَهَذَا هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ ابْتَدَأَ قَوْلَهُ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ؟ الْجَوَابُ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ فِي غَايَةِ الْجَزَالَةِ والخفامة. وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْتَهْزِئُ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم فِي مُقَابَلَتِهِ كَالْعَدَمِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الِاسْتِهْزَاءَ بِهِمُ انْتِقَامًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُحْوِجُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُمْ بِاسْتِهْزَاءٍ مِثْلِهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ الْجَوَابُ.
لِأَنَّ «يَسْتَهْزِئُ» يُفِيدُ حُدُوثَ الِاسْتِهْزَاءِ وَتَجَدُّدَهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَهَذَا كَانَتْ نِكَايَاتُ اللَّهِ فِيهِمْ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التَّوْبَةِ: ١٢٦] وَأَيْضًا فَمَا كَانُوا يَخْلُونَ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِمْ مِنْ تَهَتُّكِ أَسْتَارٍ وَتَكَشُّفِ أَسْرَارٍ وَاسْتِشْعَارِ حَذَرٍ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ آيَةٌ يَحْذَرُ/ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة: ٦٤] الْجَوَابُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٥] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّهُ مِنْ مَدَّ الْجَيْشَ وَأَمَدَّهُ إِذَا زَادَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ مَا يُقَوِّيهِ وَيُكَثِّرُهُ، وَكَذَلِكَ مَدَّ الدَّوَاةَ وَأَمَدَّهَا زَادَهَا مَا يُصْلِحُهَا، وَمَدَدْتُ السِّرَاجَ وَالْأَرْضَ إِذَا أَصْلَحْتَهُمَا بِالزَّيْتِ وَالسَّمَادِ، وَمَدَّهُ الشَّيْطَانُ فِي الْغَيِّ، وَأَمَدَّهُ إِذَا وَاصَلَهُ بِالْوَسْوَاسِ، وَمَدَّ وَأَمَدَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَدَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ، وَأَمَدَّ فِي الْخَيْرِ قَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [المؤمنين: ٥٥] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمَدِّ فِي الْعُمْرِ وَالْإِمْلَاءِ وَالْإِمْهَالِ وَهَذَا خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ (وَنَمُدُّهُمْ) وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَدَدِ دُونَ الْمَدِّ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي بِمَعْنَى أَمْهَلَهُ إِنَّمَا هُوَ مَدَّ لَهُ، كَأَمْلَى لَهُ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أَضَافَ ذَلِكَ الْغَيَّ إِلَى إِخْوَانِهِمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الطُّغْيَانِ فَلَوْ كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَذُمُّهُمْ عَلَيْهِ.
وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى لَبَطَلَتِ النُّبُوَّةُ وَبَطَلَ الْقُرْآنُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِتَفْسِيرِهِ عَبَثًا.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الطُّغْيَانَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: «فِي طُغْيَانِهِمْ» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ لَمَا أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ، فَظَهَرَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ خَالِقٍ لِذَلِكَ، وَمِصْدَاقُهُ أَنَّهُ حِينَ أَسْنَدَ الْمَدَّ إِلَى الشَّيَاطِينِ أَطْلَقَ الْغَيَّ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الْأَعْرَافِ: ٢٠٢] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ:
التَّأْوِيلُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلُ الْكَعْبِيِّ وَأَبِي مُسْلِمِ بْنِ يَحْيَى الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا مَنَحَهُمْ أَلْطَافَهُ الَّتِي يَمْنَحُهَا الْمُؤْمِنِينَ وَخَذَلَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ بَقِيَتْ قُلُوبُهُمْ مُظْلِمَةً بِتَزَايُدِ الظُّلْمَةِ فِيهَا وَتَزَايُدِ النور