
بفتح الخاء على وجه الخبر، معناه: جعلنا البيت مثابة للناس فاتخذوه مصلى. وقرأ الباقون بكسر الخاء على معنى الأمر. قال: حدّثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا الديلمي قال: حدّثنا أبو عبيد الله قال: حدّثنا سفيان، عن زكريا بن زائدة، عمن حدثه، عن عمر بن الخطاب قال:
كان رسول الله ﷺ يطوف بالبيت يوم الفتح، فلما فرغ من طوافه أتى المقام فقال: «هذا مَقَامُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ»، فقال عمر: أفلا تتخذه مصلى يا رسول الله، فأنزل الله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ويقال: المسجد الحرام كله مقام إبراهيم- عليه السلام- هكذا روي عن مجاهد وعطاء.
وقوله تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ، أي أمرنا إبراهيم وإسماعيل: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ، أي مسجدي من الأوثان، ويقال: من جميع النجاسات، ثم قال: لِلطَّائِفِينَ، أي طهرا المسجد من الأوثان والنجاسات، لأجل الطائفين الذين يطوفون بالبيت وهم الغرباء، وَالْعاكِفِينَ وهم أهل الحرم المقيمون بمكة من أهله وغيرهم وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، أي أهل الصلاة من كل جهة من الآفاق. قرأ نافع وعاصم في رواية حفص طَهِّرا بَيْتِيَ بنصب الياء وقرأ الباقون بسكون الياء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، يعني الحرم. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ، فاستجاب الله تعالى دعاءه، فتحمل الثمار إلى مكة من كل جهة، فيوجد فيها في كل وقت من كل نوع واشترط إبراهيم في دعائه فقال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وإنما اشترط هذا الشرط، لأنه قد سأل ربه الإمامة لذريته، فلم يستجب له في الظالمين، فخشي إبراهيم أن يكون أمر الرزق هكذا، فسأل الرزق للمؤمنين خاصة، فأخبره الله تعالى: أنه يرزق الكافر والمؤمن، وأن أمر الرزق ليس كأمر الإمامة. قالوا: لأن الأمامة فضل، والرزق عدل، فالله تعالى يعطي بفضله من يشاء من عباده من كان أهلاً لذلك، وعدله لجميع الناس لأنهم عباده، وإن كانوا كفاراً. فذلك قوله تعالى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا، قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام «فَأُمَّتِعَهُ» بالتخفيف من أمتعت، وقرأ الباقون بالتشديد من متَّعت، يعني سأرزقه في الدنيا يسيراً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي مصيره، ويقال: ملجأه إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ صاروا إليه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، يعني يبني إبراهيم القواعد، يعني أساس البيت، أي الكعبة. والقواعد جماعة واحدها قاعدة. وَإِسْماعِيلَ، يعني إِسماعيل يعينه. قال مقاتل:
وفي الآية تقديم وتأخير، معناه وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت. ويقال: إن إبراهيم كان يبني البيت وإسماعيل يعينه، والملائكة يناولون الحجر من إسماعيل، وكانوا ينقلون الحجر من خمسة أجبل: طور سيناء وطور زيتاء والجودي ولبنان وحراء فلما فرغا من البناء، قالا رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا يعني أعمالنا. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أي السميع لدعائنا بنياتنا.
وفي الآية دليل: أن الإنسان إذا عمل خيراً ينبغي أن يدعو الله بالقبول، ويقال: ينبغي أن يكون خوف الإنسان على قبول العمل بعد الفراغ أشد من شغله بالعمل، لأن الله تعالى قال:
إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: ٢٧]. وروي في الخبر أن إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- لما فرغا من البناء، جثيا على الركب وتضرعا وسألا القبول، فقال جبريل لإبراهيم:
قد أجيب لك، فاسأل شيئاً آخر، فقالا: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، أي مخلصين لك، ويقال: واجعلنا مثبتين على الإسلام، ويقال: مطيعين لك، ويقال: أمتنا على الإسلام.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، أي اجعل بعض ذريتنا من يخلص لك، ويثبت على الإسلام. ثم قال: وَأَرِنا مَناسِكَنا. أي علمنا أمور مناسكنا. وقال القتبي: الرؤية المعاينة كقوله عز وجل: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: ٦٠]، وقوله:
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ [الإنسان: ٢٠]. ويقال: تذكر الرؤية ويراد بها العلم كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: ٣٠] وكقوله: أَرِنا مَناسِكَنا، أي عملنا. وكقوله لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. قرأ ابن كثير ومن تابعه من أهل مكة وَأَرِنا بجزم الراء في جميع القرآن، والباقون بكسر الراء، وهما لغتان والكسر أظهر وأفصح. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح:
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ- أي مطيعين وموحدين وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، أي جماعة موحدة مطيعة لك. ويقال: أشكل عليهما موضع البيت، فبعث الله تعالى سحابة فقالت له: ابن بخيالي، فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت بخيال السحابة. ثم قال تعالى وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا أي تجاوز عنا الزلة، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ بعبادك.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ. قال مقاتل: لأن إبراهيم علم أن في