
إلا الفعل مظهرا أو مقدرا، وعلى بابها في المنع للوجوب يليها الابتداء، وجرت العادة بحذف الخبر، والآية هنا العلامة الدالة، وقد تقدم القول في لفظها، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اليهود والنصارى في قول من جعل الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كفار العرب، وهم الأمم السالفة في قول من جعل الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كفار العرب والنصارى واليهود، وهم اليهود في قول من جعل الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ النصارى، والكاف الأولى من كَذلِكَ نعت لمصدر مقدر، ومِثْلَ نعت لمصدر محذوف، ويصح أن يعمل فيه، قالَ: وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أو في الكفر وإن اختلفت ظواهرهم، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «تشّابهت» بشد الشين، قال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز لأنه فعل ماض.
وقوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم أتبع ذلك بذكر الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين، فلذلك خصهم بالذكر، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة، وقوله تعالى بَيَّنَّا قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم، وقرينة أخرى، وهي أن الكلام مدح لهم، وأما اليقين في استعمال الفقهاء إذا لم يتصف به العلم فإنه أحط من العلم، لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به واليقين معتقد يقع للموقن في حقه والشيء على خلاف معتقده، ومثال ذلك تيقن المقادة ثبوت الصانع، ومنه قول مالك- رحمه الله- في «الموطأ» في مسألة الحالف على الشيء يتيقنه والشيء في نفسه على غير ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وأما حقيقة الأمر فاليقين هو الأخص وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٩ الى ١٢١]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
المعنى بَشِيراً لمن آمن، وَنَذِيراً لمن كفر، وقرأ نافع وحده «ولا تسأل» بالجزم على النهي، وفي ذلك معنيان: أحدهما لا تسأل على جهة التعظيم لحالهم من العذاب، كما تقول: فلان لا تسأل عنه، تعني أنه في نهاية تشهره من خير أو شر، والمعنى الثاني روي فيه أن النبي ﷺ قال: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت وَلا تُسْئَلُ.
وحكى المهدوي رحمه الله أن النبي ﷺ قال: «ليت شعري أي أبوي أحدث موتا»، فنزلت.

قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ ممن رواه أو ظنه لأن أباه مات وهو في بطن أمه، وقيل وهو ابن شهر، وقيل ابن شهرين، وماتت أمه بعد ذلك بخمس سنين منصرفة به من المدينة من زيارة أخواله، فهذا مما لا يتوهم أنه خفي عليه صلى الله عليه وسلم، وقرأ باقي السبعة «ولا تسأل» بضم التاء واللام، وقرأ قوم «ولا تسأل» بفتح التاء وضم اللام، ويتجه في هاتين القراءتين معنيان: أحدهما الخبر أنه لا يسأل عنهم، أو لا يسأل هو عنهم، والآخر أن يراد معنى الحال كأنه قال: وغير مسؤول أو غير سائل عنهم، عطفا على قوله بَشِيراً وَنَذِيراً، وقرأ أبي بن كعب «وما تسأل»، وقرأ ابن مسعود «ولن تسأل»، وهاتان القراءتان تؤيدان معنى القطع والاستئناف في غيرهما، والْجَحِيمِ إحدى طبقات النار.
ويقال: رضي يرضى رضى ورضا ورضوانا، وحكي رضاء ممدودا، وقال: مِلَّتَهُمْ وهما مختلفتان بمعنى لن ترضى اليهود حتى تتبع ملتهم ولن ترضى النصارى حتى تتبع ملتهم، فجمعهم إيجازا، لأن ذلك مفهوم، والملة الطريقة، وقد اختصت اللفظة بالشرائع والدين، وطريق ممل أي قد أثر المشي فيه.
وروي أن سبب هذه الآية أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله ﷺ الهدنة، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعا منهم، فأعلمه الله تعالى أن إعطاء الهدنة لا ينفع عندهم، وأطلعه على سر خداعهم.
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أي ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء.
ثم قال تعالى لنبيه وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الآية، فهذا شرط خوطب به النبي ﷺ وأمته معه داخلة فيه، و «أهواء» جمع هوى، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على إفراد الملة لقيل هواهم، والولي الذي يتولى الإصلاح والحياطة والنصر والمعونة، ونَصِيرٍ بناء مبالغة في اسم الفاعل من نصر.
وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ الآية، الَّذِينَ رفع بالابتداء، وآتَيْناهُمُ الْكِتابَ صلة، وقال قتادة: المراد ب الَّذِينَ في هذا الموضع من أسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والْكِتابَ على هذا التأويل القرآن، وقال ابن زيد: المراد من آمن بمحمد ﷺ من بني إسرائيل، والْكِتابَ على هذا التأويل التوراة، وآتَيْناهُمُ معناه أعطيناهم، وقال قوم: هذا مخصوص في الأربعين الذين وردوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في السفينة، فأثنى الله عليهم، ويحتمل أن يراد ب الَّذِينَ العموم في مؤمني بني إسرائيل والمؤمنين من العرب، ويكون الْكِتابَ اسم الجنس، ويَتْلُونَهُ معناه يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي، وقيل يَتْلُونَهُ يقرؤونه حق قراءته، وهذا أيضا يتضمن الاتباع والامتثال، ويَتْلُونَهُ إذا أريد ب الَّذِينَ الخصوص فيمن اهتدى يصح أن يكون خبر الابتداء ويصح أن يكون يَتْلُونَهُ في موضع الحال والخبر أُولئِكَ، وإذا أريد ب الَّذِينَ العموم لم يكن الخبر إلا أُولئِكَ، ويَتْلُونَهُ حال لا يستغنى عنها وفيها الفائدة، لأنه لو كان الخبر في يَتْلُونَهُ لوجب أن يكون كل مؤمن يتلو الكتاب حَقَّ تِلاوَتِهِ، وحَقَّ مصدر، والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى أفعل، ولا يجوز إضافته إلى واحد