
يجعل بين الجنة والنار، فيذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم. وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة أحد إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن فيكون عليه حسرة. فعلى هذا قد ثبت أن يوم الحسرة هو يوم ذبح الموت على الوجه الذي بيناه، إذ يتحسر فيه الظالمون على ما فرط منهم، والمنقون على تفريطهم بعدم ازدياد العمل الصالح، فما قيل إنه يوم يقال لهم (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) الآية ١٠٧ من سورة المؤمنين في ج ٢، أو يوم يقال لهم (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية ٩٠ من سورة يس المارة، أو يوم (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) الآية ٩١ من سورة الشعراء الآتية، أو يوم يسدّ باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها ليس لها ما يؤيدها بمقابلة الأحاديث الصحيحة التي أوردناها أعلاه، وذلك لأن قوله تعالى اخسئوا بعد دخول النار، وقوله وامتازوا قبل دخولها ويوم تبرز الجحيم يكون بعد الامتياز، ويوم طلوع الشمس من أيام الدنيا لا من أيام الآخرة، والأمل بعد باق للعاصين، أما يوم ذبح الموت فتنقطع فيه الآمال، ولذلك سمي يوم الحسرة إذ لم يبق أمل لأهل النار بالخروج منها، ولذلك يتحسرون الحسرة إثر الحسرة، وليس بنافع، أجارنا الله تعالى القائل «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها» في ذلك اليوم إذ لا يبقى ملك لملك، بل يكون الملك كله لله، ويرجع الملوك الغاشمون أذلاء خاضعين إليه كآحاد الناس، بل هم أدنى لما يعلمون ما كانوا عليه في الدنيا إلا من رحمه الله منهم «وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» ٤٠ ملوكهم ومملوكوهم انسهم وجنهم وطيرهم وحيتانهم، ومنهم قومك يا محمد، فيجازى كل بعمله. وقرىء ترجعون بالتاء على الخطاب والأول أولى بنسق الآية،
قال تعالى «وَاذْكُرْ» لقومك يا سيد الرسل «فِي الْكِتابِ» المنزل عليك جدك وجد الأنبياء من قبلك «إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً» كثير الصدق ملازما له في أقواله وأفعاله لم يكذب

قط «نَبِيًّا» ٤١ مرسلا بدليل قوله بعد (قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) الآية الآتية، ثم بين قصته مع أبيه فقال «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ»
آزر وكان من عبدة الأوثان «يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ»
نداءك إذا استغثت به «وَلا يُبْصِرُ»
شخصك حين تعبده فلا يقدر خضوعك إليه وخشوعك منه «وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً»
من الأشياء البتة «يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ» والمعرفة بالله المستحق للعبادة الذي يجيب دعاء المضطرين ويرى خضوع الخاشعين، يثيب الطائع ويعذّب العاصي. واعلم يا أبت أن الله ربي وربك ورب الخلق أجمع أعطاني شيئا عظيما «ما لَمْ يَأْتِكَ» ولا غيرك شيء منه «فَاتَّبِعْنِي» واترك ما أنت عليه من عبادة الأوثان «أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا» ٤٣ عدلا مستقيما يوصلك إلى النجاة ويخلّصك من الضلال المؤدي بك إلى مهاوي العطب «يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ» وتطيعه فيما يزين لك من زخارف الدنيا ويوسوس في قلبك الانقياد لعبادته ويحبذ لك ما أنت عليه «إِنَّ الشَّيْطانَ» الذي ديدنه الخبث «كانَ» ولم يزل من حين امتناعه من السجود لأبينا آدم صار «لِلرَّحْمنِ» الواجب طاعته على خلقه «عَصِيًّا ٤٤» ومن يعصه أحق أن يعصى ويلعن لا أن يطاع ويعبد، لأن طاعة العاصي عصيان والعاصي جدير بأن تسلب منه نعم ربه انتقاما منه «يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ» إن بقيت مصرّا على عصيانك إياه وعبادة غيره «فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا» ٤٥ يلي أمرك ويتسلط عليك، ومن ولي أمره الشيطان تبرأ الله منه، ومن يتبرأ الله منه فمأواه جهنم. هذا وقد تأدب عليه السلام مع أبيه غاية الأدب وسلك بخطابه طريق الاحترام، واستعمل بدعوته ونصحه نهاية التعظيم، وجامله مجاملة ما عليها من مزيد، حتى إنه لم يسمه باسمه ولم يسمه بالجهل، مع ما هو عليه من الكفر، ولم يصف نفسه بالعلم مع ما هو عليه من النبوة، هضما لنفسه وإكراما لأبيه، واكتفى ببيان أن عنده من العلم ما ليس عند أبيه شيء منه، لشدة تعلق قلبه بصلاح أبيه أداء لحق الأبوة ورفقا به خوفا عليه من الله، وهذا نهاية ما يطلب من المرشد الحريص على هداية الناس المقدر

من مخاطبتهم باللين واللطف وعدم تغليظ القول، وضرب الأمثال بهم ليقبل ويؤخذ به، وإلا عاد عليه نصحه شرا، وعلى غيره خسرا، وكسب عداوتهم من مودتهم.
طلب الفرق بين نور الإيمان وظلمة الكفر في خطاب ابراهيم وجواب أبيه:
كأن قائلا يقول ماذا قال آزر لابنه عند سماعه هذه النصائح الواجبة القبول؟
أصر على عناده، وقابل ذلك الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة بقوله له أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ» استفهام انكار على نوع من التعجب، أنف عن عبادتها وسماه باسمه احتقارا ولم يقابله بالمثل، فيقول يا ولدي حنانا بل هدده بقوله مقسما بآلهته «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ» عما صدر منك «لَأَرْجُمَنَّكَ» بالحجارة حتى تموت وأقول لك من الآن اذهب عني «وَاهْجُرْنِي» لا تأت إلي ولا أراك واتركني على ما أنا عليه ولا تدعني إلى ما ذكرت هجرا «مَلِيًّا» ٤٦ طويلا أبدا، مأخوذ من الإملاء أي الإمداد، وكذا الملاءة بتثليث الميم ومن هذا الملوان الليل والنهار، يريد عدم تكليمه له مادام حيا، ونصب الظرفية كما في قول المهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته | وبكت عليه المرملات مليا |

عما وقع منك تجاهه لقاء نصحي، وأسأله أن يرزقك الإيمان به وحده وترك الشرك الذي أنت عليه «إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» ٤٧ بليغا بالبر والإكرام إذ أنقذني من ظلمة الكفر وهداني إلى نور الإيمان، وجعلني نذيرا لعباده من عذابه، وبشيرا لهم بثوابه وصيّرني بهم رءرفا رحيما وعودني أن يجيب دعائي بجزيل كرمه وأفضاله علي (يقال احتفى بالرجل إذا بالغ في إكرامه واعتنى به) راجع الآيتين ٩٥ و ١٨٧ من سورة الأعراف المارة، ثم قال مجيبا لزجر أبيه وتحذيره من البقاء معه «وَأَعْتَزِلُكُمْ» على جهة التعظيم لأن المخاطب واحد، وفيه إشارة إلى أنه لم يزل محافظا على أدبه معه مراعيا حقه وان ما صدر منه عليه لم يؤثر في قلبه الطاهر، وهكذا الأنبياء العارفون لا يمنعهم من القيام بالإرشاد تعدي الناس عليهم «وَ» أعتزل أيضا «ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأنها أوثان لا تضر ولا تنفع «وَأَدْعُوا رَبِّي» وحده لأن يوفقي إلى مهاجر أجد فيه من يسمع نصحي ويجيب دعوتي ويؤمن بربي «عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي» خلقه إلى عبادته «شَقِيًّا» ٤٨ خائبا ضائعا مخذولا، بل موفقا واجدا أهلا لعبادته، وفيه تعريض بأنهم يدعون غير الله وأنهم يشقون بذلك. واعلم أن الدعاء هنا بمعنى العبادة بدليل الآية بعدها لأنها كالمفسّرة لها، ويجوز أن يكون على ظاهره، لأن الدعاء من العبادة، والعبادة مشتملة على الدعاء، وفي تصدير الكلام بما ذكر نهاية في إظهار التواضع ومراعاة لحسن الأدب، وتنبيه على أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل من الله عز وجل لا بطريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة وهي من الأمور الغيبية المختصة بعالم الغيب، ثم هاجر عليه السلام إلى الشام فإلى بيت المقدس، قال تعالى «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» بعد أن سمع من أبيه ما سمع وأيس من إيمانه وقومه وخاف على نفسه من القتل «وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا» ٤٩ وهذا من ألطاف الله بأنبيائه وعنايته بهم وعطفه على خلّص عباده وعطائه لهم، إذ أنه عليه السلام هاجر إلى ربه طريدا فوفقه من هاجر إليه إلى زوجة صالحة ورزقه أولادا وجعلهم أنبياء مثله، وأنعم عليهم بما
صفحة رقم 160