أي ترحم، ومنه قوله: حنانيك مثل سعديك، قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا | حنانيك بعض الشر أهون من بعض «١» |
أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان عن حريز بن عبد الحميد عن أبي خالد عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ما أدري ما حَناناً إلا أن يكون بعطف رحمة الله عز وجلّ على عباده وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن هوذة عن عوف بلغني في قوله الله عزّ وجلّ وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا قال: الحنان: المحبّة وَزَكاةً قال ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله عزّ وجلّ والإخلاص.
وقال الضحاك: هي الفعل الزاكي الصالح، وقال الكلبي: يعني صدقة تصدق والده بها على أبويه، وقيل: بركة ونماء وزيادة. وقيل: جعلناه طاهرا من الذنوب.
وَكانَ تَقِيًّا مسلما مخلصا مطيعا.
أخبرنا سعيد بن محمد وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا علي بن عبدان، حدّثنا أبو الأزهر، حدّثنا ابن القطيعي قال: سمعت الحسن قال: إنّ رسول الله ﷺ قال: «والذي نفسي بيده ما من الناس عبد إلّا قد همّ بخطيئة أو عملها غير يحيى بن زكريا» «٢».
وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
بارا بهما لا يعصيهما وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
قالا: متكبرا.
قال الحلبي: الجبّار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
عَصِيًّا
شديد العصيان لربّه.
وَسَلامٌ عَلَيْهِ
قال الحلبي: سلام له منّا حين ولد وحين يموت وحين يبعث حيّا.
أخبرنا أبو محمد الأصفهاني وأبو صالح النيسابوري قالا: أنبأنا أبو حاتم التميمي، حدثنا أبو الأزهر السّليطيّ، حدثنا رؤبة، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير مني، وقال يحيى: استغفر لي، أنت خير منّي، فقال له عيسى: أنت خير مني، سلّمت على نفسي وسلّم الله عليك.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٤٠]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
(٢) مسند أحمد: ١/ ٢٥٤، وكنز العمال: ١١/ ٥٢١.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
القرآن مَرْيَمَ
وهي ابنة عمران بن ماثان إِذِ انْتَبَذَتْ.
قال قتادة: انفردت. الكلبي: تنحّت وأصله من النبذة بفتح النون وضمّها وهي الناحبة، يعني إنها اعتزلت وجلست ناحية مَكاناً شَرْقِيًّا
يعني مشرقة، وهي مكان في الدار مما يلي المشرق، جلست فيها لأنها كانت في الشتاء.
قال الحسن: اتّخذت النصارى المشرق قبلة لأنّ مريم انتبذت مَكاناً شَرْقِيًّا
فَاتَّخَذَتْ
فضربت مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
قال ابن عباس: سترا، قال مقاتل: جعلت الجبل بينها وبين قومها، قال عكرمة: إن مريم كانت تكون في المسجد ما دامت طاهرا، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينا هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبرئيل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سويّ الخلق.
فذلك قوله فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
يعني جبرئيل (عليه السلام) وقيل: روح عيسى ابن مريم اضافة إليه على التخصيص والتفضيل فَتَمَثَّلَ
فتصور لَها بَشَراً
آدميا سَوِيًّا
لم ينقص منه شيء وإنما أرسله في صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه، ولو نزّله على صورته التي هو عليها لفزعت ونفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه، فلمّا رأته مريم قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
مؤمنا مطيعا.
قال علي بن أبي طالب: علمت أن التقيّ ذو نهية
، وقيل: كان تقي رجل من أعدل الناس في ذلك الزمان فقالت: إن كنت في الصلاح مثل التقي ف إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
، كيف يكون رجل اجنبي وامرأة اجنبية في حجاب واحد؟ قال لها جبرئيل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ
أي يقول لأهب لك، وقرأ أبو عمرو ليهب بالياء ولدا غُلاماً زَكِيًّا
صالحا تقيا قالَتْ مريم أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولم يقربني روح وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فاجرة وإنما حذفت الهاء منه لأنه مصروف عن وجهه.
قالَ جبرئيل كَذلِكِ كما قلت يا مريم ولكن قالَ رَبُّكِ وقيل هكذا قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ خلق ولد من غير أب وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً علامة هذه لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا لمن تبعه على دينه.
وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا معدودا مسطورا في اللوح المحفوظ.
فَحَمَلَتْهُ وذلك أن جبرئيل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبسته، وقيل: نفخ جبرئيل من بعيد نفخا فوصل الريح إليها فحملت، فلمّا حملت فَانْتَبَذَتْ خرجت وانفردت مَكاناً قَصِيًّا بعيدا من أهلها من وراء الجبل، ويقال أقصى الدار.
قال الكلبي: قيل لابن عمّ لها يقال له يوسف: إن مريم حملت من الزنا لأن يقتلها الملك وكانت قد سميت له فأتاها فاحتملها، فهرب بها، فلما كان ببعض الطريق أراد يوسف ابن عمّها قتلها فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له: إنّه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها، ولم يقتلها فكان معها. واختلفوا في مدّة حملها ووقت وضعها، فقال بعضهم: كان مقدار حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء، ومنهم من قال: ثمانية أشهر وكان ذلك آية أخرى لأنّه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى، وقيل: ستّة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة.
قال ابن عباس: ما هو إلّا أن حملت فوضعت ولم يكن بين الحمل والانتباذ إلّا ساعة:
لأنّ الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا.
وقال مقاتل بن سليمان: حملته مريم في ساعة وصوّر في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وهي بنت عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى.
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ ألجأها وجاء بها المخاض، وفي قراءة عبد الله آواها المخاض يعني الحمل، وقيل: الطلق.
إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدة الشتاء ولم يكن لها سعف.
وروى هلال بن خبّاب عن أبي عبيد الله قال: كان جذعا يابسا قد جيء به ليبنى به بيت يقال له بيت لحم.
قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة:
نَسْياً بفتح النون، والباقون بالكسر، وهما لغتان مثل: الوتر والوتر والحجر والحجر والجسر والجسر، وهو الشيء المنسي.
قال ابن عباس: يعني شيئا متروكا، وقال قتادة: شيئا لا يذكر ولا يعرف، وقال عكرمة والضحاك ومجاهد: حيضة ملقاة.
قال الربيع: هو السقط وقال مقاتل: يعني كالشيء الهالك.
قال عطاء بن أبي مسلم: يعني لم أخلق، وقال الفرّاء: هو ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، وقال أبو عبيد: هو ما نسي وأغفل من شيء حقير. قال الكميت:
أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة | ولست بنسي في معد ولا دخل «١» |
حدّثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها قالت: لوددت أني إذا مت كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا.
فَناداها مِنْ تَحْتِها قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: مِنْ تَحْتِها بكسر الميم وهو جبرئيل (عليه السلام) ناداها من سفح الجبل، وقرأ الباقون مَنْ تَحْتُها بفتح الميم وهو عيسى لما خرج من بطنها ناداها: أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قال الحسن: يعني عيسى كان والله عبدا سريا أي رفيعا، وقال سائر المفسّرين:
هو النهر الصغير، وقيل معنى قوله سبحانه تَحْتَكِ إنّ الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى وإن أمرته بالإمساك أمسك، كقوله عزّ وجلّ فيما أخبر عن فرعون وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «٢» أي من تحت أمري، قال ابن عباس: فضرب جبرئيل: ويقال عيسى: برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى وحييت النخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت، وقيل لمريم وَهُزِّي إِلَيْكِ أي حرّكي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ يقول العرب: هزّه وهزّ به كما يقال: خذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلّق بزيد وتعلق زيدا، وخذ رأسه وخذ برأسه، وامدد الحبل، وامدد بالحبل، والجذع: الغصن، والجذع: النخلة نفسها.
تُساقِطْ قرأ البراء بن عازب ويعقوب وأبو حاتم وحمّاد ونصير: يساقط بالياء، وقرأ حفص تُساقِطْ بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف، وقرأ الأعمش وحمزة وأبو عبيد: تَسّاقَط بفتح التاء والقاف وتشديد السين، فمن أنّث ردّه إلى النخلة ومن ذكّر ردّه ألى الجذع والتشديد على الإدغام
(٢) سورة الزخرف: ٥١.
والتخفيف على الحذف.
رُطَباً جَنِيًّا غصنا رطبا ساعة جني.
وقال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض من العسل.
وقال عمرو بن ميمون: ما أدري للمرأة إذا عسر عليها ولدها خير من الرطب لقول الله سبحانه وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا.
وقالت عائشة رضي الله عنها: إنّ من السنّة أن يمضغ التمر ويدلك به فم المولود، وكذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمضغ التمر ويحنّك به أولاد الصحابة.
فَكُلِي يا مريم من الرطب وَاشْرَبِي من النهر وَقَرِّي عَيْناً وطيبي نفسا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا ولذلك كان بقراءة ابن مسعود وأنس والصوم في اللغة هو الإمساك عن الطعام والكلام، وفي الآية اختصار فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فسألك عن ولدك أو لامك عليه فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً يقال: إنّ الله أمرها أن تقول هذا اشارة ويقال: أمرها أن تقوله نطقا ثم تمسك عن الكلام بعد هذا.
فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا يقال: كانت تكلّم الملائكة ولا تكلّم الإنس.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قال الكلبي: احتمل يوسف النّجار مريم وابنها عيسى (عليه السلام) إلى غار فأدخلهما فيه أربعين يوما حتى تعالت من نفاسها ثم جاء بها فَأَتَتْ مريم بِهِ بعيسى تَحْمِلُهُ بعد أربعين يوما، فكلّمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلمّا دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين.
قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا فظيعا منكرا عظيما، قال أبو عبيدة: كل من عجب أو عمل فهو فري،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمر رضي الله عنه: «فلم أر عبقريا يفري فريه»
«١» أي يعمل عمله، قال الراجز:
قد أطعمتني دقلا حوليا | مسوسا مدودا حجريا «٢» |
أي كنت تكثرين فيه القول وتعظمينه.
يا أُخْتَ هارُونَ
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «انّما عنوا هارون النبي أخا موسى لأنها كانت من نسله».
(٢) الصحاح: ٢/ ٤٧١.
وقال قتادة وغيره: كان هارون رجلا صالحا من أتقياء بني إسرائيل وليس بهارون أخي موسى، ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون الفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل،
وقال المغيرة بن شعبة: قال لي أهل نجران قوله: يا أُخْتَ هارُونَ وقد كان بين موسى وعيسى من السنين ما قد كان، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بالأنبياء والصالحين من قبلهم.
وقال الكلبي: كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أمها وكان أمثل رجل في بني إسرائيل، وقيل: إن هارون كان من أفسق بني إسرائيل وأظهرهم فسادا فشبّهوها به، وعلى هذا القول الأخت هاهنا بمعنى الشبه لا بمعنى النسبة، والعرب تسمي شبه الشيء أخته وأخاه، قال الله سبحانه وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها «١» أي شبهها.
ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ حنّة بَغِيًّا زانية فمن أين لك هذا الولد؟ فَأَشارَتْ مريم إلى عيسى أن كلّموه ف قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي من هو في المهد وهو حجرها، وقيل: هو المهد بعينه وقد كان حشوا للكلام ولا معنى له كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «٢» أي أنتم خير أمة وكقوله هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «٣» أي هل أنا، وكقول الناس إن كنت صديقي فصلني، قال زهير:
أجرت عليه حرّة أرحبيّة | وقد كان لون الليل مثل الأرندج «٤» |
فكيف إذا رأيت ديار قومي | وجيران لنا كانوا كرام «٥» |
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فأقرّ على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم تكذيبا للنصارى وإلزاما للحجة عليهم.
قال عمرو بن ميمون: إن مريم لما أتت قومها بعيسى أخذوا لها الحجارة ليرموها فلمّا تكلّم عيسى تركوها، قالوا: ثم لم يتكلّم عيسى بعد هذا حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان.
(٢) سورة آل عمران: ١١٠.
(٣) سورة الإسراء: ٩٣.
(٤) تفسير الطبري: ١٦/ ١٠٠.
(٥) التبيان: ٧/ ١٢٣.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: خمسة تكلّموا قبل إبان الكلام: شاهد يوسف، وولد ماشطة بنت فرعون، وعيسى، وصاحب جريح، وولد المرأة التي أحرقت في الأخدود.
فأمّا شاهد يوسف فقد مرّ ذكره، وأمّا ولد الماشطة،
فأخبرنا عبد الله بن حامد قال:
أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال:
حدّثنا الحسن بن موسى قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا أسري به مرّت به رائحة طيبة فقال: يا جبرئيل ما هذه الرائحة؟
قال: ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنته:
أبي؟ فقالت: لا بل ربّي وربّك وربّ أبيك.
فقالت: أخبر بذلك أبي قالت: نعم، فأخبرته فدعا بها فقال: من ربّك؟ قالت: ربّي وربّك في السماء، فأمر فرعون ببقرة من نحاس فأحميت فدعا بها وبولدها فقالت: إن لي إليك حاجة قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعا فقال: ذلك لك علينا من الحق، فأمر بأولادها فألقى واحدا واحدا حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيّا مرضعا فقال: اصبري يا أماه فإنّا على الحق، قال: ثم ألقيت مع ولدها.
وأمّا صاحب جريح
فأخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني قال: أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني قال: حدّثنا أحمد بن الخليل قال: حدّثنا يونس بن محمد المؤدّب، قال: حدّثنا الليث ابن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبرنا عبد الله [بن حامد] «١» قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدّثنا راشد بن سليمان قال:
حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا هاشم بن القاسم قال: حدّثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنّ رجلا يقال له جريح كان راهبا يتعبّد في صومعته فأتته أمّه لتسلّم عليه فنادته: يا جريح اطلع إليّ انظر إليك، فوافقته يصلّي فقال: أمّي وصلاتي لربّي، أوثر صلاتي لربّي على أمّي، فانصرفت ثم جاءت الثانية فنادته: يا جريح كلّمني فوافقته يصلّي فاختار صلاته، ثمّ جاءته الثالثة فاختار صلاته فقالت: إنّه أبى أن يكلّمني، اللهمّ لا تمته حتى تنظر في وجهه زواني المدينة، قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن».
قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاما فقيل لها: ممّن هذا؟ فقالت: من صاحب الصومعة، فأتوه وهدّموا صومعته وانطلقوا به إلى ملكهم، فلمّا مرّ على حوانيت الزواني خرجن، فتبسم وعرف أنّه دعاء أمّه، فقالوا: لم يضحك حين مرّ على الزواني!؟ فلمّا أدخل على ملكهم قال جريح: أين الصبي
الذي ولدت؟ فأتي به فقال له جريح: من أبوك؟ قال: أبي فلان الراعي، فابرأ الله سبحانه جريحا وأعظمه الناس «١»، وقالوا: نبني لك ديرك بالذهب والفضة قال: لا ولكن أعيدوه كما كان، ثمّ علاه.
وأمّا ولد صاحبة الأخدود فسنذكرها في موضعها إن شاء الله.
آتانِيَ الْكِتابَ يعني يؤتيني الكتاب لفظه ماض ومعناه مستقبل، وقيل: إنه أخبر عمّا كتب له في اللوح المحفوظ كما
سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم: متى كتبت نبيا؟ قال: «كتبت نبيا وآدم بين الروح والجسد «٢» ».
وقيل: معناه علمني وألهمني التوراة في بطن أمّي.
وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً معلما للخير أَيْنَ ما كُنْتُ وقيل: مباركا على من اتّبع ديني وأمري وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا أي وجعلني برا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا.
أخبرنا شعيب بن محمد البيهقي وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا مكّي بن عبدان، قال:
حدّثنا أحمد بن الأزهر قال: حدّثنا روح بن عبادة قال: حدّثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا ان امرأة رأت عيسى ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات أذن الله له فيهنّ فقالت: طوبى للبطن الذي حملك والثدي الذي أرضعت به، فقال ابن مريم يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله واتّبع ما فيه ولم يكن جَبَّاراً شَقِيًّا، وكان يقول: سلوني فإنّ قلبي ليّن وإنّي صغير في نفسي، ممّا أعطاه الله سبحانه من التواضع.
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ يعني هو قول الحق، وقيل: رفع على التكرير يعني ذلك عيسى ابن مريم وذلك قول الحق، وقيل: هو نعت لعيسى يعني ذلك عيسى بن مريم كلمة الله، والحق هو الله سبحانه.
وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب يعني قال قول الحق الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ يشكّون ويقولون غير الحق، فقالت اليهود: ساحر كذّاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة، ثمّ كذّبهم فقال: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أي ما كان من صفته اتّخاذ الولد، وقيل: اللام منقولة يعني ما كان الله ليتخذ من ولد سُبْحانَهُ نزّه نفسه إِذا قَضى أَمْراً كان في علمه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ يعني وقضى أن الله، وقرأ أهل الكوفة إِنَّ اللَّهَ
(٢) مسند أحمد: ٥/ ٥٩.